صحيفة المثقف

ريبكا روث غولد: نفس

2619 ريبكا روث غولدترجمة صالح الرزوق


ما قالوه لاحقا، ما قالوه عوضا عن ذلك، تناسوه:

هناك تساؤلات، إن لم تسألها منذ البداية،

لن تسألها لاحقا، وهكذا لم يسألوها أبدا.

إليزابيث بوين، حرارة النهار

حصلت تيريزا والاس على منحة لعام كامل في بودابست، ووفرت لها فرصة لدعوة من تريد، من أي مكان في العالم، لزيارتها خلال إقامتها في هنغاريا. واختارت أن تدعو أكاديميا مشهورا، تعشق كتبه، لكنه اعتذر.  ثم تذكرت ياسين، الأكاديمي الأوزبكي الذي تلاقى طريقها مع طريقه قبل عقد من الزمان في عمان. ومع أنه قد لا يكون مهتما ببودابست، لم تجد ضررا في السؤال؟. فهما يشتركان بعاطفة حب المخطوطات. فتشت في شقتها عن رقمه ووجدت أخيرا قطعة من الورق سجل عليها اسمه ورقم هاتفه منذ سنوات. ولم يكن عليها عنوان بريد إلكتروني. وفي النهاية  طلبت رقمه في طشقند وهي مترددة. ورد شخص ما بلهجة روسية ثقيلة قائلا:”ألو؟”. وأمكنها أن تتأكد أن لسان المتكلم ليس اللغة الروسية.

قدمت نفسها وشرحت سبب المكالمة، وسألته إن كان يتذكرها. رد إنه لا ينساها مطلقا. وأسعدته دعوتها لزيارة بودابست، وتم الإعداد للفيزا عن طريق المعهد الذي رتب له الجو لإلقاء محاضرة.  في نفس الوقت، انتظرت تيريزا والاس قدومه دون أن تعلم ماذا ستكون النتيجة. فقد كانت تتوقع أي شيء، ما دام ذلك يحقق لها بعض التغيير. فقد انتهت من إلقاء محاضراتها في جامعة أيوا في غرفة فارغة تقريبا. كان من المقرر أن تتناول بالشرح “الديمقراطيات المقارنة”، ولكنها شردت عن الموضوع، وانتقلت لموضوع الجياد المنغولية، وانتهت بشعر العصور الوسطى. وربما لهذا السبب توقف معظم الطلاب عن الحضور والاستماع. وتساءلت بسرها: هل احتجاج هذا العدد الكبير من الطلاب سيقودها أخيرا لتفقد وظيفتها. ثم قررت أنه لا يسعها أن تهتم، وهي جاهزة للتخلي عن الجو الأكاديمي، لو لا التزام عدد محدود من الطلاب بمحاضراتها كما لو أنه طقس ديني، مهما ابتعدت عن الموضوع. وأوشكت أن تعترف أنها ترتكب خطأ فادحا بالدخول في مجال العلوم السياسية. كان عليها أن تختار شيئا أقرب للروح، شيئا يسمح لها بالإبداع، مثل الرسم أو التأليف. وامتنت لبعض طلاب العلوم السياسية الذين رحبوا بالابتعاد عن محاضرات لها طابع اقتصادي، وتركز على العلاقات الدولية،وأمن العالم بعد الحرب الباردة. وشكرها هؤلاء الحفنة من المؤمنين في نهاية الفصل الدراسي بعاصفة من التصفيق. لقد انتهى الفصل، وقاربت الحياة على اتخاذ منعطف جديد.

في صباح اليوم التالي، ركبت تيريزا الحافلة إلى مطار مدينة أيوا، فقد عزمت أن تسافر إلى شيكاغو، ومن هناك تتوجه فورا إلى بودابست. وحينما مرت الحافلة من قرب حقل ذرة وصوامع ممتلئة بالحبوب فكرت: قد تكون هذه آخر فرصة لها للاستمتاع بالطبيعة المباركة ذات اللون الذهبي والتي تمقتها و تحبها بنفس الوقت.  كانت قد قرأت باهتمام ويلا كاثير في أيام طفولتها وأغرمت بالصفحات المكتوبة عن وسط الغرب الأمريكي. لماذا هي ليست مثل كاثير ولا تعشق هذه التضاريس القاحلة؟.

كانت الرحلة طويلة وغير مسلية، بالإضافة  لما تخلل ذهنها من توتر نفسي مدمر. مرت الليلة وهي معلقة في السماء تقرأ عن تفاصيل صداقة جمعت بين جيرشوم شوليم ووالتر بنجامين. شد ما لفت انتباهها جهود شوليم لإبعاد بنجامين عن الماركسية والإلتزام بأصوله اليهودية. وذكر ذلك تيريزا بصداقاتها الشخصية، وكذلك علاقاتها الغرامية الفاشلة. وسألت نفسها: لماذا تبدو مرتاحة بين الغرباء، ومستاءة لدرجة المرض في علاقاتها. أين تبدأ الحدود بين الذات والآخر؟. ومتى نتوقف عن الكذب ونكون أنفسنا بكل صدق وصراحة؟.

وصلت قبل ياسين بثلاثة أيام، وأنفقت هذه الأيام الرمادية بعزلة سعيدة، وخلالها اكتشفت البلدة بانتظار وصوله، ورسمت في ذهنها فضاء بيتها المؤقت في بودابست قبل أن يشترك ياسين بوضع لمساته عليه. وفكرت: كيف سيكون الحال بعد مرور عقد كامل على لقائهما السابق. هل تغير؟. هل يعتقد أنها تغيرت؟. لا بد أنه سيلاحظ كل شيء حاولت إخفاءه عن نفسي طوال هذه الفترة.

في سنوات الفراق الماضية حصل على منحة، لإجراء بحث أساسي في ألمانيا ثم النمسا وفرنسا، أما هي فقد ضمنت وظيفة أكاديمية، ولكنها في مكان قريب من حقول الذرة والأبقار، وطالما حلمت بالابتعاد عنها. ولذلك كانت خارج المكان على نحو دائم. لم يكن العالم يهتم لها، ولا لأي إنسان من نوعها. وكانت الفاشية تتجمع في الأفق، وبالأخص في هنغاريا، حيث أن جوبيك، وهو حزب الرئيس الحالي فيكتور أوربان، حصد نجاحا مدويا. كان اللاجئون يردون على أعقابهم عند الحدود، وأصبح اليهود والرومان والمسلمون هدفا للاعتداءات.

وكانت، كل يوم منذ وصولها، تمر بالجسر المعلق فوق الدانوب. وكان من بناء مهندسين إنكليزيين عام 1849 ويرمز لاتحاد نصفي المدينة: بودا و بيست.  وغالبا ما كانت تمر منه مرتين، عند شروق الشمس ومغيبها. فالشقة في شارع راؤول ولينبيرغ في بيست. ولكن مقر عملها، جامعة أوروبا المركزية، فقد كان على الضفة المقابلة من الدانوب، ضفة بودا. وهذه هي آخر سنة لها في بودابست. وابتداء من أيلول سوف تنتقل إلى فيينا، وسيكون الطلاب والكلية في النمسا.

كبتت تيريزا مخاوفها من مستقبل هنغاريا وأوروبا وبقية العالم الملتهب، وركزت على تحضير نفسها لوصول ياسين يوم الجمعة. وهما، كلاهما، حسب أفضل ما تعلم، غير قادر على الإنجاب، ومولعان بالبحوث العلمية فقط. وقد هيأت نفسها لمنعطف جديد، في العمل والحياة. وهي تنتظر بأحر من الجمر ما قد تلهمها زيارته. وبدأت بانتظار مكالمته منذ الساعة 7 من صباح الجمعة. علما أنها أرسلت له عدة رسائل إلكترونية في الأيام السابقة، وطلبت منه أن يتصل حال وصوله، ولكن الهاتف كان خامدا ولم يرن. نظرت بالبوق الأسود، وتساءلت متى سيندلع منه صوت. وفي خاتمة المطاف بعد انتظار دام أربعة وخمسين دقيقة واثنتين وثلاثين ثانية (كانت تسجل الوقت على ساعة معصمها)، سمعت صوت الجرس.

قالت:”ألو؟”.

رد صوت يقول:”ألو”.

كان ياسين، يخاطبها بصوته الروسي الذي فضح هويته الأوزبكية. تبادلا بعض عبارات الترحيب ثم ران الصمت، فهي لم تتكلم بالروسية منذ سنوات، ولم تتدفق الكلمات على لسانها بسهولة كما كان الحال في عمان. ثم اقترحت أن يتقابلا وجها لوجه. فهو على كل حال تحتها بطابقين فقط. وقالت ببساطة “موجنو؟”. وتركت المعنى مفتوحا على عدة احتمالات. وترجمت لسان حالها كأنها تكلم نفسها قائلة:”هل بمقدوري أن أهبط إليك؟”.

رد بنفس المقدار من التأكيد:”موجنو” وحول سؤالها لجواب. ألقت البوق وجهزت نفسها للنزول.

وعندما وقعت عيناها عليه عند عتبة بابه، لاحظت أنه مألوف لها، ويمكن أن تتعرف عليه سواء لاقته في بودابست أو في حقول الذرة في أيوا. كان لونه أشد سمرة بالمقارنة مع الوقت السابق، وكان شعره خفيفا أكثر مما تتذكره قبل عقود، وقد نمت له لحية. ولكنه كان نفسه ياسين الخجول بنظاراته السميكة وابتسامته الصبيانية المرتسمة على وجهه. وأخبرها بلا تردد أنه لم تغمض له عين منذ أقلع من طشقند، وكان يحاول تعويض ما فاته من نوم، وهذا سبب تأخره بمكالمتها. والآن انتعش بما يكفي وهو جاهز لرؤية البلدة. واقترح يقول:”هل لديك خطة لاكتشاف المدينة؟. لطالما أرقتني فكرة مشاهدة الدانوب”.

كانت الساعة حوالي السابعة مساء، والشمس تتلكأ عند الأفق، وكان وهجها يسيل على الدانوب بلون محمر. أول موقف لهما كان على الجسر المعلق، فقد تمهلا قرب أسدين رماديين عملاقين وقفا على طرفيه، وكلاهما منحوت من الحجر المصقول. وفي الظلام، لاح الجسر كأنه معلق في الماء. وعندما وصلا نهاية الجسر، من ناحية بيست، اتجها إلى شارع 6 تشرين الأول. ولفت هذا الاسم انتباه ياسين، وقدر أنه اسم سوفييتي، لكنه لم يعرف معناه بالضبط. وشرحت له تيريزا أنه يشير لثورة اندلعت ضد السوفييت. ففي 6 تشرين الأول 1956 دفن الشيوعي المعادي للسوفييت لاسلو راجك علنا في مقبرة ضحايا  التطهير الستاليني. وهي حادثة وقعت قبل سنوات. وكان 6 تشرين الأول تمهيدا لـ 23 تشرين الأول 1956، وهو تاريخ قيام الثورة الهنغارية. همست تيريزا بهذه التفاصيل بنبرة حماسية، وكان قلق ياسين يتزايد كلما أدلت بكلمة إضافية. كانت ثقافته السوفييتية تلقي بظل من الشك على كل التاريخ المكتوب. التفت نحوها مع ابتسامة وقبض على يدها وقال “هل سنتناول البيتزا؟.ليس لدينا في أوزبكستان بيتزا جيدة”. كانت لهجته كأنه يقترح طعاما شرقيا عجيبا. عبرا الجسر مجددا نحو ضفة بودا. وصعدا على السلالم الحلزونية باتجاه مطعم إيطالي موجود في نهاية منطقة تبدو قديمة كأنها تعود لقرون مضت. وطلب بيتزا مع السلمون و فتة الجبنة. وهي طلبت بيتزا مع أرغولا وموتزاريلا وبروكولي.

سألها عن حياتها في أيوا. هل هي مثل بقية أمريكا؟. كان يريد أن يفهم، فقد زار الولايات المتحدة مرة واحدة، وبالتحديد سان فرانسيسكو في التسعينيات.

قالت له: ”أمريكا عدة بلاد في بلد واحد. الجنوب محطة المتعصبين. والشمال موطن ثقافة النخبة والثلوج الغزيرة. والغرب الأمريكي منطقة البيوت الطينية والصحراء. أما بالنسبة للغرب الأوسط، مسقط رأسي، فهو بلد ينطوي على ذاته، ويتكون من البراري التي تغطي الأفق ومن حقول الذرة والشعب الأبيض. شعب أبيض جدا. وأشعر بالتحسس منهم”. قالت ذلك مع ابتسامة لها معناها الخاص. وخامرها الاعتقاد أنها كانت تثرثر بكلام لا معنى له. وفي نفس الوقت، لم يكن بمقدورها أن تنفي أنها ممتنة لهذه المحاضرة عن بلد كانت تحسبه وطنها، ولكن تعتبر الآن أنه محاكاة مضحكة لما تبقى من روحه السابقة،  وهي تريد أن تنأى عنه بنفسها لكن على أن تؤكد سلطتها عليه كذلك. لقد أصبحت مهاجرة حقيقية، وهي مستعدة لملاقاة  مسقط رأسها مثل استعدادها للانفصال عنه.

سألها ياسين إن كانت تحب الحياة في الغرب الأوسط.

قالت: ”كلا. في أيوا أشعر كأنني غريبة في بيتي. وأخشى أن الأمر يزداد سوءا. أصبح الناس متعصبين وعنصريين كثيرا. ثم هي مكان بعيد عن الموضع الذي تقطن به العائلة الآن”.

“العائلة”. كرر ياسين الكلمة كأنه لم يفهم المعنى المقصود.

رددت:”نعم العائلة”.

نظر بعينيها طويلا وقال:”ما المقصود بعائلتك؟”.

“أنا وشقيقاتي وأمي”.

“يعني غير متزوجة؟”.

“لا. لا يوجد زوج”.

كانت تيريزا تتوقع، استنادا لخبرتها من عملها في أواسط آسيا، هذا السؤال عن الزوج. والسؤال التالي كان مألوفا بالمثل وهو: متى ستقرر إنجاب أطفال؟. في معظم المواقع التي غطتها بأبحاثها، كان هذا أول سؤال يأتي من لسان محدثها. وبرأيها كان يريد أن يتأكد بسؤاله هل هي مثل غيرها من النساء، وشارفت على فترة الإنجاب. كانت بالخامسة والثلاثين. والجميع يتوقع منها التهيؤ لتربية الأولاد. والأفضل صبي وبنت، وربما يكفي صبي - إلى جانب الزوج. أما المهنة فهي مجرد احتمال. وكما سمعت بروح أخوية وصداقية من نساء القرية الأوزبكيات المسنات حيث أجرت بحوثها: المرأة تحتاج لشيئين في حياتها، زوج وابن. وأي شيء آخر عبارة عن رفاهية.

رفع ياسين حاجبيه قليلا عندما سألها عن الزوج، وكان فضوله يبدو شخصيا، ولا يدل على شيء ثقافي. ومع أنها بالعادة ترد على أي سؤال عن حياتها الشخصية بصمت مهذب، ردت على ياسين دون تحفظ. وقالت إنها لا تحترم التدخل بحياتها الجنسية ومراقبة حياتها الخاصة، واستغربت أن المرأة تعتبر غير كاملة إن لم تقترن برجل.

ضحك ياسين بدماثة ورماها بنظرة خاطفة فهمت منها أشياء أعمق مما يمكن أن تنقلها الكلمات. وبعد نهاية الطعام، عبرا الجسر مجددا وتجولا في زقاق أندراسي، وهو السوق التجاري الأشهر في بودابست. أخرج ياسين علبة سجائر وبدأ بالتدخين. وتأثرت بالرائحة على نحو غريب، كأن أحدا يداعب راحة يدها. ومرا من نافورة وواجهات زجاجية، ومن صف إثر صف من المخازن تحمل أبوابها عبارات الترحيب بعدة لغات. ثم دارا من حول “دولاب الهواء” في ساحة إيرزيبيت، حتى أحاطت بهما في النهاية الكراسي والأشجار.

كان الوقت في أواخر الليل والحديقة مهجورة. وأزواج من العشاق يجلسون على المقاعد، متعانقين تحت مصابيح مرتعشة. قال لها:”تعالي نجلس”.

وقبض على يدها، كما فعل سابقا في هذا اليوم حينما عبرا من الجسر، وتوقعت أن يفلت يدها بعد أن يجلسا، ولكنه لم يفعل. وكانت قبضته الناعمة والمهذبة قوية أيضا وتذكر بالممرضات اللواتي تقدرن دقات قلب المريض. واستعادت تيريزا بذهنها سؤال ياسين عن عائلتها، وتساءلت مجددا لماذا يهتم. وكانت تلك هي أول وآخر مرة يتحرى عن ظروفها الخاصة. إنما حافظ على يده فوق يدها كما لو أنه من الطبيعي لرجل وامرأة التقيا منذ بضع ساعات أن يتماسكا بالأيدي. وكما لو أن يدها ملكه ويده ملكها.

وبعد العودة للشقة، في شارع راؤول والينبيرغ، دعاها للدخول إلى مكان إقامته. قال: ”أريد أن أعرض عليك ملفات المخطوطة التي عثرت عليها في مكتبة الدراسات الشرقية. وأود أيضا أن أقدم لك شايا ساخنا أحضرته من طشقند”.

ولم تتمكن من رفض عرضه. وبمجرد أن دخلا، باشر بتحضير الشاي. كان المعهد قد وضب له شقة ثمينة من طابقين تحتوي على غرفتي نوم وحمامين كاملين. كانت شقته أفضل من مسكنها الذي يبدو مثل مأوى إسبارطي.

فتح جهازه المحمول وبدأ يبحث بين الملفات. وأنفقا ثلاث ساعات على هذا الطراز، رأسه منكب على حاسوبه، وهو يقلب في الملفات الضوئية المتراكمة من جراء العمل الطويل لسنوات بالأرشفة. وفي نفس الوقت كان ينقل كميات تقدر بالغيغابايتات إلى قرص خارجي أحضره ليتبادل معها المعلومات. واستمرا بالجلوس منحنيين على الحاسوب، ويده في حضنها. ولكنها لم تسمح له بحرية التصرف، مع أنها كانت مسرورة من ذلك. وكانت تفكر بأن تلمسه بمثل طريقته، إنما لم تفضل أن تبدر منها حركة قد تندم عليها. كانت وحيدة لثلاث سنوات. وفكرت: لو مارسنا الغرام، قد تكون هذه هي آخر مرة لعدة سنوات قادمة.

وقررت أنه لا ضرورة لهذا الضرر الفادح، ولكن بدا اليوم الذي أنفقاه معا مثاليا ورقيقا، ويجب تكراره. وأرادت أن تحتفظ بذكرياته، وهذا يتطلب مقاربة حميمة خاصة. ورأت تأجيل التقارب قدر الإمكان، حتى إذا حان الوقت لالتحام الجسدين، سينطبع عميقا في ذاكرتها. لقد استمتعت بالتلامس الخفيف مع جسمه، ولكنها سدت الطريق على يده كي لا تتحرك لما بعد حضنها. وعندما بدأت أصابع ياسين تتحرك وتزحف نحو ركبتيها  وعلى ساقيها نهضت فورا وقالت:”حان الوقت لأذهب للسرير”.

“لماذا لا تنتظرين لفترة أطول؟. أود أن أقدم لك كوب شاي أوزبكي آخر”.

أعربت عن حاجتها للنوم. في الواقع لم تكن تشعر بالنعاس ولكن بالرغبة لخلق مساحة في ذاكرتها لما يمكن أن يجري، وقادها ذلك للعودة إلى حجرتها. أمضت تيريزا بقية الليل في سريرها وهي تفكر بياسين. ماذا يعني أن تعود لسريرها بعد أن تنام معه. وكيف سيكون شعورها بعد رحيله؟. وهل ستشعر بنفس الوحدة القاتلة إذا ما استلقت بالسرير بمفردها؟. وهل ستبدو ضفتا الدانوب كما كانتا قبل أن تلتحم به؟.

في اليوم اللاحق اتصلت به حالما فتحت عينيها. كانت أشعة الشمس تملأ الدانوب بالضوء. اقترح نزهة أخرى على الجسر. وتحولت هذه النزهات لطقس يومي. ووصلا لنفس الحديقة، وراء دولاب الهواء، حيث تسكعا معا بالأمس، وجلسا على كرسي بمقابلة النافورة الطويلة.  ومع أن الماء توقف عن التدفق، تابع الأولاد لعبهم. وبدآ بالحديث حول المخطوطات التي اكتشفها في مكتبة الاستشراق وسألها:”ربما عليك الاستقالة من عملك والانضمام لي في طشقند؟”.

جمدت من اللهفة. هل هو يطلب يدها؟. ونظرت إليه ولاحظت أنه يهزل معها. لكنه أضاف:”طبعا، لا أحد لديه عمل مثل عملك مستعد ليضحي به”.

وقبض على يدها بيده كما فعل مرارا. ولكن رفع اليوم يده من حضنها إلى وجنتها، ثم إلى شفتيها. وحينما استقرت أصابعه على شفتيها، كانت تفكر بالطريقة التي فكرت بها قبل وصوله في تلك الليلة. أغمضت عينيها، وتلامست شفاههما. كانت القبلة مهذبة ومنضبطة ولطيفة. وحينما همس بأذنها يقول:”هيا بنا للمنزل” كانت عاطفته قد اضطرمت كشعلة من نيران. وتحول خجله لرغبة، رغبة غمرت عالمها قليلا.

وسمعته يقول:”هذه نفس”.

لم تفهم. فسألته:”ماذا؟”.

قال:“لها عدة ترجمات. النفس الخالدة. الأنا. التنفس. ونفس في التصوف تعني أن تكون تحت تأثير الجانب الحيواني. سأشرح لك لاحقا”.

وباعتبار أن زيارته اقتصرت على نقاش حول المخطوطات المنسية، أدهشتها طريقته بممارسة الحب، فقد كانت عنيفة لحد ما ويصعب أن تنسجم مع القيم والتقاليد الإسلامية. فقد تخلص من ثيابها وبدأ مباشرة بممارسة الجنس الفموي، وكان عضوه منتصبا بشكل مباشر نحو فمها. ثم وضع الواقي الذكري بسرعة تدل أنه فعل ذلك من قبل عدة مرات. وفكرت أنها كانت تعتبره دون تجربة!. وهل أحضر الواقي الذكري معه لأنه يفكر بممارسة الجنس؟. وهل يحمله معه أينما ذهب؟. وبعد أن انتهيا، ارتاح كل منهما بين ذراعي الآخر. العيون مفتوحة على سعتها، وتنفذ من خلال طبقات الليل الأسود المظلم. ثم أشعل سيجارة من العلبة التي اقتناها في زقاق أندراسي في الليلة السابقة. وكان خلفه، على الجانب الآخر من السرير، كومة من الواقيات الذكرية بشكل هرم آيل للسقوط. وتخيلت أنها أصبحت زوجته كما تقتضي العادة. وفكرت بسرها: ولكن أنا غير جاهزة للزواج بعد.  فهي حتى الآن غير مهيأة للاعتناء بزوج أو لمتابعة شؤون والديها. والاستقلال والحرية هما أساس وجودها. وقررت أنه يناسبها علاقة طويلة الأمد.

وفكر ذهنها، كما تفعل بعد ممارسة الجنس، كيف ستكون ظروفها لو حصل الحمل. ثم تذكرت: قبل ثلاث سنوات عقمت نفسها. و منذئذ لم تمارس الجنس وتقريبا نسيت أنه ليس بمقدورها حمل الأطفال.

كان اسم العملية - إسور Essure- له معنى رمزي. ولفظه القريب من كلمة “الماحي erasure يعكس الهدف منه. إسور محا قدراتها البيولوجية لتكون أما. ولا يزال جسمها يتذكر الإجهاض الذي خضعت له في عمان، فقط قبل أن تلتقي بياسين. وبعد عدة سنوات، لا يزال يرسم ندوبا غائرة في ذاكرتها. هذا الإجهاض قادها لتقرر أن التعقيم ضروري، بغض النظر عن الكلفة، ودون أي اعتبار لما سيعقبه. وبعد التعقيم، تصالحت مع نفسها. أخيرا يمكنها أن تتأكد أنها لن تنجب طفلا لهذا العالم. وفكرت وهي تستلقي في السرير: قناة الرحم مربوطة، مجازيا وعمليا. وأنا لن أنجب ابنا.

كان ياسين يستند قربها على وسادة، بصمت، ويدخن سيجارة.

بالإضافة لحسم موضوع الإنجاب المقلق، جنبها إسور استعمال الواقيات الذكورية المانعة للإنجاب. والسبب الوحيد لاستعمال الواقي الذكري الآن هو الحماية من الأمراض. لكن ياسين مسلم، فكرت تيريزا بذلك. كما أنه خجول ومهذب. باختصار هو الحالة المعاكسة للذكورة. ولا شك أن الجنس صدفة بحياته؟. وقررت أن تطلعه على خبر عملية التعقيم.

قالت:”هل أخبرتك أنني لا أحمل. فقد أجريت عملية”.

“عملية؟ لماذا؟”.

“كي لا أنجب الأولاد”.

أعقب كلامها صمت مطبق. ثم كرر وراءها، مثلما كرر سابقا كلمة “عائلة”، بنبرة أكدت على اللفظ مع تجاهل المعنى “كي لا أنجب الأولاد”.

كان كل تكرارا منه يحمل في طياته سؤالا جديدا. فاستطردت تقول:”أنا أصلا أومن بالتبني. ماذا عنك؟. هل تريد أن يكون لك أولاد؟”.

تبع ذلك فاصل صمت طويل آخر. وأخيرا قال:”أولاد؟. أنا لدي أولاد”.

أصاب تيريزا الهلع والجمود . ولم تفهم معنى كلامه. كيف يمكنه أن ينجب الأولاد قبل أن يتزوج؟. هل توفيت زوجته؟. هل طلقها؟. ومرت عدة لحظات مع هذه الأفكار، حتى استعادت وعيها. فقالت:”إذا أنت متزوج”.

لم يرد.

رفعت صوتها وقالت:”وماذا عن زوجتك؟. كم عمرها؟”. لم تكن تريد أن تسمع الإجابة. ولكنه السؤال الوحيد المتحضر والمتعقل الذي جاء في ذهنها.

قال بهدوء: "ثلاثة وثلاثون”.

“هل تعمل؟”.

“لا”.

“هل تريدها”. ولم يخطر في رأسها غير هذا الكلام. ولكن السؤال الذي أرادت أن تسأله هو: إن كان يحب زوجته. وقد أرعبها التفكير بها. لم يكن لسانها جاهزا لمثل هذه الكلمات. في كل حال ستكون النتيجة محزنة. إن لم يكن يحبها فهذه مأساة. وإن كان يحبها لماذا هو معها في السرير في بودابيست؟.

أخيرا بعد سكون مطول رد يقول:”نعم”.

قضي الأمر. ولم يعد هناك مجال لمزيد من الكلام، سوى امتصاص الصدمة بعد تبادل أكاذيب صامتة. كانا على علاقة عميقة لكن دون أن يعرف أي منهما التفاصيل الأساسية عن حياة كل منهما. كانت هذه أول علاقة غرامية لها بلا زواج، وأول مرة تمارس الحب مع رجل متزوج.  ولم تكن تعلم أنه متزوج حينما فعلت. غادرا السرير. وأسرع هو ليرتدي ثيابه. فسألته:”هل أنت مسلم؟”.

قال:”نعم”.

أشارت لقضيبه غير المستور والمنتصب قليلا وسألت بسخرية:”كيف تفسر هذا إذا؟.هل هو تصرف إسلامي؟”. سارع لتغطيته بملاءة وقال:”حتى المؤمن يرتكب الأخطاء. أخبرتك سابقا عن النفس، هل تذكرين؟. شهواتنا تجبرنا على ارتكاب أفعال شيطانية”.

سألته:”إذا تعتقد أن ما فعلناه هو حرام. من جهتي أنا أعتقد أنه شيء صحي، وأن أكاذيبك هي الخطأ”.

لم يرد. انتظرت وأدركت أنه ليس لديه شيء يقوله. وعزمت أن تدخل بمماحكة قصيرة. وأن تلقي عليه محاضرة اعتادت عليها حينما لا يكون لديها شيء آخر. فقالت:”الزواج هو أكبر مصدر للظلم في العالم. وأعظم سبب للألم والشقاء”.

وبدأ ذهنها يفكر بالماضي: عاشت وهي بنت صغيرة في بيت يحكمه أب عنيف، ولاحقا حينما تزوجت، اقترنت بزوج ظالم. وهي ترغب بنسيان هذين الفصلين في حياتها، لكنهما يعودان بكامل ما فيهما من قسوة. وصعدت لذهنها فكرة ستردع ياسين وتصيبه بنفس الألم الذي سببه لها. فقالت:”لكم أكره منك هذا الرياء المزيف”.

نظر إليها بصمت وإمعان كما لو أنه غير قادر على إدراك ماذا تعني. لو أن اتهامها جرحه، لم يظهر وجهه ذلك. وفكرت ربما هذه أول مرة يسمع فيها بمثل هذه الكلمات. بعد ذلك سألته:”كيف سيكون شعورك إذا شاركت زوجتك السرير رجلا آخر كما فعلت أنت الآن”.

قال دون أن يعلو وجيب قلبه:”سأجن”. لا شك أنه يعتبرها إهانة لرجولته. وابتسمت تيريزا رغم حنقها منه وقالت:”هل ترى؟. هذا ما أقصده. هذا ما أسميه الرياء. هذا هو التعالي البطريركي. ببساطة أنت تنظر للرجال بمعايير لا تطبقها على النساء. وهذا شيء أسوأ من النفس”.

ابتعد عنها وأخذ سيجارة أخرى. ثم اقترب من طرف النافذة وأشعل طرفها. كان وجهه هادئا، وساكنا مثل الدانوب في ليلة من ليالي الشتاء. وبدأ ينفصل عنها. وخجل من ثورتها لكنه لم يهتم بذلك. وتبادلا النظرات  دون حركة، ولم يكن هناك ما يضيء قامتيهما غير القمر المعلق في الخارج. وكانت الغرفة مستسلمة للعتمة.

جلست تيريزا لعدة دقائق دون حركة، ثم نهضت إلى النافذة حيث كان يجلس ياسين. وأرادت أن تجلس بقربه. وامتلأت بعبير رائحته وبرغبة عارمة أن يلمسها. وكانت تريد أن تكرر ممارسة الحب. ونسيت غضبتها التي لم يمر عليها غير دقيقة. والنفاق الذي نفرت منه لم يكن يبدو الآن لها مثل دليل على فشل الأخلاق، بل أشبه بتناقض لا ينجو منه إنسان.

لماذا لم تخمن أنه متزوج؟. لماذا لم تستفسر؟. لقد اضطربت منه بسبب الرياء الذي يقوم عليه الزواج وليس بسبب الغش أو الخداع. ولماذا لا يمكنه أن ينام مع من يريد، مثلما هي تنام مع من تريد؟.

تحركت أصابعه على خديه غير الحليقين. ونظر لجهة جانبية. كانت تود أن تعنفه لأنه كذب عليها، ولأنه أخفى تفاصيل خاصة جدا من حياته الشخصية. وفي نفس الوقت، وبنفس المقدار من الحمية، أرادت أن تعانقه. متى ستحين الفرصة لتكرار ذلك، بالأخص مع إنسان تشاركه العشق للمخطوطات؟.

لكنه تراجع للخلف. وأدركت بألم بالغ أنه يريد أن يلغي هذه الذكريات التي تشكلت بينهما. وسمعته يقول وهو يشير للنافذة:”هل يمكننا الخروج بنزهة؟. قبل أن أختنق”.

كان القمر قد اختفى من مجال بصرها، وأصبح فوق وسط الجسر، ونور صناعي التمع على الدانوب. وذكرها ذلك بلمسات ياسين ليديها.

ردت بصوت بارد:”ليس الليلة. يجب أن آوي للفراش”.

هز رأسه، وهربت عيناه من نظرتها. وقال بهدوء:”نوما هنيئا”.

مر اليوم التالي دون جديد. نامت جيدا وعملت على مقال متأخر، وهو رتب محاضرته ليوم الإثنين. وحوالي الخامسة مساء، اتصل بها. واتفقا على اللقاء عند الأسد الحجري أمام مدخل الجسر. وما أن التقيا، اختفى التوتر الذي غطى على يومها كله. مرا بالجسر ذهابا ومجيئا. كان النهر يتعرج في المدينة، ويحرص على تقسيم وتوحيد بودا وبيست. وفي هذه المرة، لم يتماسكا بالأيدي. وفصل بينهما الفراغ مثل سور كهربائي يصدم كل من يحاول أن يتحداه.

سألته مجددا: “هل أنت مسلم؟”. وأدهشها استعداد الرجال لتحويل الإخلاص إلى دين مع أنهم لا يلتزمون به في حياتهم الخاصة.

ثم أضافت:”أعني هل أنت مؤمن؟”.

عندما رد بالإيجاب، سألته كيف يمكن بالنسبة لرجل متزوج ويعتبر نفسه مسلما أن ينام مع امرأة غير زوجته.

قال:”أوضحت لك مسبقا. النفس. ليس كل المسلمين يطبقون وصايا دينهم. نحن أحيانا، مثلكم، نتبع عواطفنا”.

أصابتها وعكة مؤلمة. لقد بحثت طوال ليلة أمس وفهمت أن النفس مرتبطة بسقوط الروح. وهي نوع من أنواع الأنانية. ووصلت أيضا لشيء آخر وتشتبه أن ياسين لا يعرفه: أن هذه الكلمة العربية مشتقة من كلمة عبرية هي نيفشي. وتعني التنفس.

قالت:”أراهن أنك لا تعرف أن نفس هي أول لحظة في الوعي”.

صحح لها قائلا:”كلا. النفس تعني الجانب المادي من الكائن، العاطفة الملتهبة”.

قالت:“إذا حينما مارست الحب معي كان ذلك بنفسك وليس قلبك؟”.

رد بالإيجاب بشكل باهت. ولم يشعر بالطمأنينة من جراء السؤال. فقد عاد له خجله الذي تذكرته من أيام مؤتمر عمان حيث جرى أول لقاء بينهما. ثم أضاف بنعومة:”لا أعتقد أنني فهمت معنى سؤالك”.

قالت:”بعكسك أنا أمارس الحب بقلبي وليس بنفسي. وأحترم الإسلام، غير أنني ضد معتقداتك. الجنس ليس شرا. فهو أنفاس الحياة. وهذه هي أنفاسي”.

لزم الصمت لعدة دقائق. ثم قال في خاتمة المطاف:”هل أنت جائعة؟”.

بلغا نهاية الجسر، والتمع الدانوب بالأشعة الفضية المتبقية من شمس الغروب. وملأت السحب السماء كأنها قطن منفوش. وباشر قارب نجاة مخطط باللون البرتقالي  يترنح على الأمواج الهادئة إلى الأعلى والأسفل. ومرت دقائق وسؤاله معلق في الهواء. كان الكلام قد أرهقها. ما الغاية من الكلمات إن كان استعمالها يتوقف على تبادل الأكاذيب؟.

في النهاية قال:”أنا جائع. ما رأيك بتناول البيتزا؟”.

بعد أن ودعت ياسين في تلك الليلة، وذهب كل منهما لشقته الخاصة، قررت أن تتخلى عن عملها في جامعة أيوا وتعمل بمهنة تجليد المؤلفات. وكانت تتملكها مشاعر غريبة: إنها ترغب بممارسة الحب، ليس مع كائن بشري آخر، ولكن بيديها ومع هذه المؤلفات.

 

.........................

ريبيكا روث غولد Rebecca Ruth Gould  أكاديمية أمريكية تعمل أستاذة كرسي الحضارة الإسلامية في جامعة برمنغهام، بريطانيا. والقصة من مجموعتها الأولى "غرام الغرباء" 2021. والترجمة بإذن شخصي.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم