صحيفة المثقف

الكبير الداديسي: نعي إبراهيم الحجري وقراءة في إحدى رواياته

الكبير الداديسيكالصاعقة نزل على المثقفين خبر رحيل الروائي والناقد إبراهيم الحجري في عز عطائه بعد غيبوبة مفاجئة لم يفك الطب شفرتها، وكالزلزال أصاب عائلته الصغيرة زوجته وابناؤه، وصبرا جميلا لوالدته التي فقدت قبل فترة قصيرة من أخاه، وعزاؤنا أن الكاتب لا يموت، فقد خلف إبراهيم خلفه ثراثا أدبيا هاما منه:

1- "أبواب موصدة" مجموعة سردية، دار القرويين، البيضاء 2000.

2- "أسارير الوجع العشيق"، منشورات وزارة الثقافة، الكتاب الأول، 2006م.

3- آفاق التجريب في القصيدة المغربية الجديدة، منشورات وزارة الثقافة، سسلسلة أبحاث، 2006م.

4- "استثناء" قصص، منشورات مقاربات، 2009م.

5- النص السردي الأندلسي: نقد، منشورات المجلة العربية، المملكة العربية السعودية، 2010م.

6- رواية صابون تازة، دار رواية، القاهرة، مصر العربية، الطبعة الأولى 2011م

7- المفهومية في التشكيل العربي: نماذج ورؤى، منشورات دائرة الثقافة والإعلام، الشارقة، الإمارات العربية المتحدة 2012م.

8- البوح العاري رواية، دار النايا، دار محاكاة، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2012.

9- الشعر والمعنى؛ نقد أدبي، دار النايا، دار محاكاة، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2012.

10- شعرية الفضاء في الرحلة الأندلسية، دار النايا، دار محاكاة، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى، 2012م.

11- القصة العربية الجديدة، دار النايا، الشركة الجزائرية السورية للنشر؛ دمشق- الجزائر،2013م.

12- المتخيل الروائي العربي، دار النايا، الشركة الجزائرية السورية للنشر؛ دمشق- الجزائر، 2013م.

13- العفاريت، رواية، دار النايا، الشركة الجزائرية السورية للنشر؛ دمشق- الجزائر، 2013م.

والمناسبة شرط نقدم للقارئ العربي في هذا المقال رواية من المغرب هي رواية العفاريت لإبراهيم الحجري كنموذج يتقاطع فيها الجنس والدين وهي مجرد عينة لاتجاه له حضور في الرواية المعاصرة يعكس (رؤية للعالم) العربي من زاوية معينة ...

رواية العفاريت[1] رواية صغيرة الحجم (120 صفحة مع وجود عدد من الصفحات شبه فارغة وصفحات أخرى لم تتضمن سوى عناوين الفصول) لكن رغم صغرها فهي تتضمن روايتين كان مختلفتين كان بإمكان السارد أن يجعل من كل واحدة منهما رواية مستقلة كبيرة الحجم، فاختار التكثيف والمزاوجة بين رواية تتمحور حول المقدس، وأخرى لا تدور إلا حول ما هو مدنس جاعلة من الدين والجنس خيطا رابطا بينهما. الرواية صدرت في طبعتها الأولى سنة 2013 عن دار النايا للدراسات والنشر والتوزيع بسوريا والشركة الجزائرية السورية للنشر والتوزيع ودار محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع.

تحكي رواية (العفاريت) حكاية مركبة زمنيا موحدة مكانيا تسير فيها الأحداث زمنيا على خطين متوازيين لا يلتقيان:

الديني المقدس أوخط الزمن الماضي: زمن الشيخ سيدي مسعود بن حسين في العصر السعدي (القرن السادس الميلادي) وفي هذا الخط تحكي الرواية كيف حل مسعود بن حسين في أرض دكالة (أولاد فرج) قادما إليها من بلاد القصبة (تادلة) مثقلا بالعلم والكرامات بعدما انفصل عن شيخه ومعلمه سيدي بوعبيد الشرقي الذي حدد له مكان إقامته (ارحل يامسعود يا ضراب العود أنت الآن قطب والقطبان لا يجتمعان اذهب على التلة الخضراء على الضفة الغربية لوادي ام الربيع وابن لك متاهة تفضي بك إلى الأسرار العلوية)[2] ـ وعندما وصل المكان المعلوم، ترك لفرسه اختار مكان بناء الراوية، ليستقر في منطقة آهلة بالأولياء (أبو شعيب السارية غربا/وعبد الله أمغار في الجنوب الغربي، وأبو يعزى يلنور نحو الجنوب الشرقي، / سيدي إسماعيل/وسيدي موسى وغيرهم) وتمكن من أن يحظى بتقدير من عاصره من الأولياء وتقدير العامة له لما له من كرامات فهامت إليه الوفود من الإنس والجن، وعقد معهم التحالفات والمعاهدات وجاء في معاهدة الجن .جاء في معاهدة مع الجن وقعها كل من ميمون، ميرة، شمهروش وعائشة وتلاها كبير الجن ما يلي:

(إننا معشر الكائنات اللامرئية نقر بمركزيتكم الدينية، ونشهد بفيضكم الرباني، وإخلاصكم للمعشوق، وعليه فإننا نرجو أن تقبلوا بنا أتباعا لطريقتكم ونهجكم الصوفي وترضوا بنا جندا قي صفوفكم ندافع عن زاويتكم أذى من عاداكم، ونطرد من حوليكم الشر، ونحتفي باستقامة نهجكم ونتخذكم حكما للفصل في نزاعاتنا ونستفتيكم في أمورنا صغيرعا وكبيرها ونقضي حاجاتكم بالسرعة التي تقدر عليها...)[3]

هكذا غدا مسعود يحكم بين الناس والجن بالعدل ويرد المظلومين حقوقهم لا يرضخ لا يدعن لسلطة أحد بمن فيهم السلطان الأكحل الذي زار الزاوية، وقرر هدمها والتخلص من مؤسسها بعد الاستقبال الذي خصه به ورأى فيه السلطان استقبالا يحط من قيمته كسلطان... لكن مسعود استطاع دحر جنود السلطان بعد الاستعانة بأحلافه الذين طلب معونتهم في إحدى جذباته:

ىسيدي محمد الفحل، آتيني بالنعرة والنحل

آمولاي بوشعيب آتيني بالعوين في الغيب

أسيدي بنور آتيني باللريح والشاقور

ىسيد عبد الله أومغار أتني بالحجر والمزرار)[4]

فغارت النعرة على الجياد، وغار النحل على الجند ودفعت بهم الريح شرقا نحو وادي أم الربيع، ورمتهم مجانيق خفية بالحجر المصهور) وبذلك دحر جندَ السلطان

مقابل هذا الخط الذي تميز فيه البطل بالقداسة سارت أحداث الرواية على خط آخر مناقض هو خط آخر مدنس أو خط زمن الحاضر، وهو زمن تدور أحداثه قبيل الحرب العالمية الثانية وبعدها، وبهذا الخط افتتحث أحداث الرواية إذ انطلقت بوصف لساحة زاوية سيدي مسعود في الحاضر وهي تعج بحركة زوارها من قاصدي الشفاء وطالبي العفو، والمترددون عليها للبيع والشراء (كحبيبي بائع الخبزو ولد مبارك بائع النعناع بريك الإسكافي، ميسي ..) ناهيك عمن يرتادها لأغراض أخرى ككحطار، بركاوي، والحمقى والعاهرات والسكارى والمحتالين ... ومن تلك الحشود يختار المؤلف شخصية بوشعيب الراعي /العسكري كواحد من العفاريت الإنسية ليمحور حوله أحداث هذا الخط المدنس: كان بوشعيب يعيش حياته و(هو هائم طول عمره منصرف إلى ما تمليه عليه هواجس اللحظة متخطيا كل الخطوط الحمر لا يبالي بالحدود ومن تم كان يصنع مأسيه المتلاحقة)[5]، كان الشاب بوشعيب راعي غنم قائد مغربي متواطئ مع المعمر، ليجد نفسه مشاركا في الحرب العالمية الثانية بعدما (رأت فرنسا ومعها الحلفاء أنه من عين الصواب الاستعانة بالموارد البشرية الهائلة التي توفرها المستعمرات بإفريقيا وشمالها)[6] أبلى البلاء الحسن في الحرب وترقى في رتب الجندية الفرنسية، فتغيرت حياته من الراعي الذي (كان يقضي حاجاته في الخلاء كأي كلب ... ويفرغ ضعفه الجنسي في أية دابة) إلى شخص (أصبح الآن يأنف من مضاجعة السمراوات المستوردات من إفريقيا وجنوب أمريكا وشرق أوربا كان عندما يفرغ من إحداهن يقول لها حمارة شارفة أحسن منك)[7]، لكن دون أن يعوض ذلك السعادة التي كان يحس بها في مروج دكالة وراء الغنم، وبعد انهزام الجيش النازي، وإثر كثرة فضائحه، وبعد ضبطه متلبسا مع فتاة قاصر (Anne) حكمت عليه السلطات الفرنسية بثلاث سنوات سجنا نافذة (لم يكد يقضي منها خمسة عشر يوما حتى أطلق سراحه بعفو عسكري مع الالتزام بإفراغ البلد)[8] .. هكذا رجع بوشعيب إلى المغرب وبدد ما جمع من ثروة على النساء، مشاريع فاشلة، ودفع غرامات على الاعتداءات التي كان يرتكبها (فأصبح مواطنا منبوذا، معتوها، مشوه السمعة بلا أفق ولا كرامات، تتحاشاه حتى الدواب والأطفال)[9] لذلك هجر قريته ليستقر قرب الزاوية مدعيا الانتشاب إلى شجرة الولي الصالح سيدي مسعود بن حسين، (كي يمارس رياضته المفضلة: ركوب صهوات النساء بذريعة صرع الجن ومداواة المومسات..)[10]

بنيت الرواية على المزاوجة بين هذين الخطين، في بناء مركب يتوحد في المكان في قرية أولاد فرج وبالضبط في حرم زاوية سيدي مسعود كبؤرة مكانية تنطلق منها الأحداث لتعود إليها في خطين متوازيين مبنيين على التقابل: مسعود كان يسير على خط التقوى والورع ما أن استقر بأولاد فرج حتى (بات المريدون يتكاثرون يوما عن يوم، ويفدون من كل الجهات) وصار قطبا ومحجا للمريدين وكبار الصلاح العارفين (كان كل من سيد غانم وسيدي معاشو وسدي موسى وسيدي أحمد سالم وسيدي أحمد الشريف وسيدي أحمد بن دريس وسيدي عبد العزيز بن يفو من الذين يواضبون على القبة الخضراء بحكم علاقتهم المتينة بصاحب المقام)[11] مقابل ذلك جعل السارد نت جيل بوشعيب العسكري من هذا المكان (الذي كان مقدسا) ماخورا مفتوحا ومجالا لاسترزاق محتالين يمتظاهرون بمسوح الدين وكل قد اختار في الاحتيال التخصص الذي يجيده:

فإذا كان مسعود بمكانته الدينية فردا في صيغة الجمع (يجمع بين عدة تخصصات) يتحكم في الإنس والجن، يصلح ذات البين، يداوي، يحكم لا يخشى لومة لائم .. فإن رجال اليوم أفراد وزعوا منافقين ادعوا الانتساب للزاوية وغدوا يستغلون الناس وقد حدد كل واحد لنفسه هدفا فما أن تقصد مريضة الزاوية حتى تجد نفسها ضحية تنهشها عفاريت إنسية: ولنرى كيف تعامل هؤلاء العفاريت مع أول ضحية تقدمها الرواية (الفتاة الرشيقة التي قدمت من الدار البيضاء):

الطويهر خوي: يزيل عمامته المتسخة ويضعها على رأسها ذي الشعر المقصوص بتقطيعة الكوب كاري وعيناه تنفلتان إلى صرتها العارية وصدرها المتمرد الذي يدفع الثوب إلى الأمام على شكل قبة تارة وتارة يزيغ ببصره صوب حقيبة مصروفها اليومي)[12]

البحديوي صاحب القميص الأبيض والعمامة الخضراء يريد أن يستدرجها لتكتري كوخا في داره العتيقة...

العسكري .. ذو الجلباب الأبيض .. لا يرى فيها البزطام بقدر ما يرى ساقيها المرمريتين وردفيها الذين يملآن سروال الجينز... يرى فيها قبة مغرية وسط البطن.. يرى فيها طريدة تسيل اللعاب يرى فيها مشيتها التي تحمق لأنها تشبه مشية Anne التي كانت سبب شقاوته

العويويق (سمي بذلك لأنه كلما بدأ يداوي الضحية أطلق العنان لعيقتة بالصياح الذي يشبه تمام وقوقة الدجاج يطارد هو الآخر الفتاة الرشيقة)

الحجيجيم الأبله الذي يسيل اللعاب من فمه (لا يطمع في شيء غير بسمة من الفتاة الرشيقة فيحس أن العالم كله تحت رجله)

البوحاطية (المرأة البدينة العجوز العاقر التي تتلحف إزارا ابيض وتتبع الطرائد الأنثوية والذكورية معا تتصيدهم لزبناء وهميين تمتلك بطائقهم المسبقة، توفر دارها للكراء ولممارسة البغاء وتؤمن المأوى للخارجين على القانون، وتنقل الأخبار الجديدة إلى الدرك فهي عينهم في الحي وهي تتربص بالفتاة الرشيقة هاته؛ عسى أن تكون سلعة تبيعها لأحد زبنائها الميسورين الذين يتنافسون حول السلعة البرانية)[13]

الرداد الهافات بائع الشمع بالتقسيط .. يطارد هو الآخر الفتاة الرشيقة طمعا في أن يستدرجها لتقتني بضاعته قائلا:(خوذي آ البنت الباروك قبل ما تدخلي للسيد)[14]

يظهر من خلال تتبع أحداث الرواية أنها تلامس بعمق تلابيب الثلاثي المقدس، الطابوهات الممنوع مقاربتها والاقتراب منها والتي ما قاربتها رواية إلا ثارت ثائرة العامة والخاصة ضدها: (السياسة، الدين والجنس):

صحيح أن السياسة أقل حضورا في الرواية (وإن كان الهدف من الرواية سياسي هو لفت انظار المسؤولين إلى الحال التي أضحت عليها زاوية سيدي مسعود بعدما كانت منارا علميا ودينيا) إذ تكاد تختزل السياسة داخل النص الروائي في إشارتين (حظور السلطان الأكحل للزاوية ومحاولته هدمها وإخضاع صاحبها من جهة والإشارة إلى البوحاطتة باعتبار عين الدرك والسلطة في الزاوية من جهة ثانية) عدا ذلك لا إشارة سياسية في الرواية وكأن الكاتب انتبه إلى أن طابو السياسة  بدأت تنكشف عراه، وأن حراس السياسة والمستفيدون منها (وهم قلة) فهموا آليات اللعب ووعوا أن التضييق على منتقديهم يجعلهم أبطالا فأصموا آذانهم عما يكتب بعدما لم يعد لهم الوقت للقراءة لذلك قل العزف على وتر القضايا السياسية والإيديولوجية، مقابل ذلك اختار الكاتب العزف على وتري الدين والجنس لما لهما من تأثير على الفئات الشعبية، ولقدرتهما على تحريك الرأي العام، ولقدرة هاتين التـيـمتين على تفيف رواج لبعض الأعمال الإبداعية (ما دام كل ممنوع مرغوب) منذ أن فجر (الخبز الحافي) عين الرواية الجنسية والأمثلة كثيرة في كتابات الرجال والنساء:

في رواية (العفاريت) إذن تداخل صريح بين بين الدين والجنس وفي كل تيمة نميز بين خطين مختلفين: ففي الدين هناك خط خطي الدين النقي الطاهر الذي مثله سيدي مسعود ضراب العود يأخذ من الدين الجوهر وخط التدين الظاهري الذي يستغل أصحابه الدين من خلال الاتفاق حول شكل معين من اللباس يوحي للجهلة أنهم اصحاب كرامات وفي هذا السياق حرص السارد على أن يميز هؤلاء بلباس موحد (الجلباب الأبيض والعمامة الخضراء) ... في خط الدين كان مسعود يتميز بقوى خارقة (معجزات تؤسطر الأحداث) وتظهر البطل بقوى خارقة تجعل الفاس تحفر وحدها: (يحكى أن الناس المجاورين الذين أمدوه بالفأس كانوا يرون أن الفأس تحفر وحدها وهو جالس ينظر إليها) [15] .. والرحى تطحن وحدها فخادم السلطان الأكحل (رأى محتارا الخادمة السمراء تجلس بشكل عادي تراقب الرحى تدور من تلقاء نفسها وترمي الطحين في جوانبها كالشلال الدافق)[16]، وبقدوم مسعود إلى أرض دكالة عرفت المنطقة الخير العميم، فبقدومه (بدأ الناس يهجرون أولياءهم القدمى الذين كانوا يمشون على الماء، ويشربون الماء المغلي، ويزوجون العوانس، ويروضون الأفاعي... وقصدوا زاوية هذا الرجل ]الذي [ يقهر الجان، يسلسلهم ويستدعيهم إلى محكمته العادلة ليقتص من الظالمين منهم وياسر المعتدين على البشر في سجنه الصغير ..)[17] .. كل ذلك في تزاوج بين الواقعي التاريخي والأسطوري الخرافي  فشخصية سيدي مسعود شخصية حقيقة في التاريخ ذكرت كتب التاريخ أن (جده مولاي عبد الرحمان كان فقيها جليلا وكان قبل استقراره ببلاد بن افرج كان بمدينة حوطة قبل خرابها بالسيل بازاك الهيط ثم بمراكش ثم تزوج بالمرأة مريم بنت أحمد الفرجية الدكالية وترك معها ثلاث أولاد ذكور مولاي عبد الرحمان سيدي ابن احساين ومولاي الحسن ثم مات ودفن أمام مراكش، ولده سيدي احساين ولد سيدي مسعود دفن في بولعوان.) لكن ما يصدر عنه في الرواية يتجاوز حدود العقل والواقع ..

وعلى الرغم من الطابع الديني الذي ميز شخصية مسعود في الرواية وكراماته فإنه في الجنس كان كغيره من البشر، مارس الجنس مع أربع نساء تزوجهن على سنة الله ورسوله، أنجب من كل واحدة ولدا وكان في جنسه شرعيا وليس هو من اختار نساءه، وسعى إليهن (فقد زوجته القبيلة بأربع أبكار من المصونات وسقن إليه طائعات فرحات) وأنسلهن أربعة أولاد في ذات السنة (ازدان فراش الولي بالشرقي، بوزكيكيرة (أبو زكرياء) منانة وفرغوس في سنة واحدة وأقسم ألا يضيف إليهم سيئا)[18] مما يبين أن مسعود كان متعدد الشركاء جنسيا ... وهي نفس الخاصية التي ميزت شخصية بوشعيب لكن بشكل (مدنس) فقد مارس بوشعيب الجنس مع عدة نساء من مختلف الجنسيات، في المغرب وفرنسا دون أن تربطه بواحدة منهن أية علاقة (شرعية) ومن إولئك النسوة وتم التركيز على أربع شريكات لكل واحدة تجربة خاصة:

بنت شامة التي ما أن مات زوجها حتى تحين الفرصة للتعرف عليها / حليمة بنت فاطمة المتزوجة التي تظاهرت بالجنون وقدت الزاوية بحثا عن رجل فحل، فوجدت في بوشعيب بغيتها/ المرأة المجنونة من الدرجة المتردية المحبوسة في الخلوة والتي تسلل إليها ليلا وحاول اغتصابها فاتهى النزال بوفاتها/ إضافة إلى الفتاة الفرنسية القاصر Anne كانت سببا في طرده من فرنسا .. والأهم في كل ذلك الدابة الشهباء التي ظلت ذكراها تلازمه كلما عاشر امرأة ...

يتضح إذن أن هناك تشابها بين الجنس المدنس،والجنس المقدس: تتشابه التجربتان الجنسيتان للشخصيتين الرئيسيتين في الرواية في كون البطلين عاشا تجربتهما الجنسية مع عدة شركاء وفي كون كل بطل له علاقة خاصة مع واحدة من شريكاته أكثر من الأخريات؛ ويختلفان في نوعية العلاقة التي ربطت بين كل بطل ومعشوقته المفضلة: فكانت ربيعة الحسينية سيدة زوجات مسعود، يفضلها على غيرها ( جسدها كان يحوله من حال على حال ويحول وجهته من المسار الأرضي إلى المسار السري السماوي ... تحصل بينهما تماسات عنيفة فيهتز المقامان ويسموان معا إلى أهواء برزخية لا ساحل لها ولا حدود ويخيل إليها أنها تجده في رحلتها العلوية قابعا هناك في تسبيحه القدسي مغلفا برهبة علوية وتعود فتجده في خلوته ساهما ... يعودان لبعضهما لتشتد الوحشة إلى المقامات يعود إليها فتذكره بالآخر في جوهره بعد أن تغرقه في نعيم الجسد)[19] كان يقول فيها: (هذه المرأة تاج به أسكر، وبه أحترق وبه أفنى وبه أخيط الفاصل والواصل هي عتبتي التي تدلني على الخيط بين الخطيئة واللا خطيئة بين الروح والجسد بين الفناء في اللذة والفناء في الحب ... جسدها الحافل بالمتاهة قبة ساحرة لا أخرج منها إلا وقد اغتسلت من كل أدران الجسد التي تقودني،خارج المقام على اقتراف الخطيئة)[20] (يلتقي الجسدان في الليل والنهار، في اليقضة والحلم فتزهر بلاد فرج) مقابل ذلك كانت علاقة بوشعيب بعشيقته المفضلة (الدابة الشهباء) تعبير على الجانب الحيواني في العلاقة الجنسية ولم يشبع شبقه من النساء إلا بنت شامة (التي كانت تدعو حمارها الصغير إلى الفراش وتروضه على ذات الاثنين ... مثلما كا يفعل هو في ليالي الحصاد عندما كان يتسلل إلى إسطبل الأتان الشهباء ليمارس شذوذه البهيمي ببساطة وجد كل منهما دابته التي يشتهي)[21]

عندما يتحدث السارد عن مسعود كان يكتفي بالتلميح في وصف طاهر للعلاقات الجنسية . وعندما يعرج على تجربة بوشعيب يتجاوز كل عتبات التصريح إلى الوصف الداعر في وصف مكشوف لبعض المشاهد  مستعينا ببعض الحيوانات للتعبير عن الأعضاء التناسلية (السلاحف الحلزونات...) التي تناسب العلاقات الجنسية القائمة في ظروف الخوف والليل والتسلل .. أو بعض الأدوات الحربية (كالسيف، الصاروخ، سكود ..) أثناء حديثه للمبارزات الجنسية القائمة على التحدي واستعراض الفحولة، دون أن يميز في ذلك بين تصوير مشاهد جنسية بين الحيوان (حصان بوشعيب وفرس بنت شامة، وحفلة الجنس بين البغل والحمارة اللذان وضب لهما الظروف ليتابع نفاصيل استعراض البغل غير المخصي لفحولته..) أو بين الجن والإنس عندما يصف كيف يمارس الجني ميمون الجنس على امرأة أمام زوجها وأمام الفقيه: (عندما يحل الجني في المساء الكالح تهرع إلى فراشها... يضاجعها بما يملك من كبت ويصب فيها جام فحولته، يلتهمها عضوا عضوا، ويسلخ أنوثتها البيضاء، يتلذذ هو بينما هي تحترق بلهب جسده الناري المحموم برغبة لا تضاهى .. وبعد أن يفرغ يكون كل شيء قد انتهى)[22] ليجعل جسد هذه المرأة ميدانا لجنس الذكور من الجن والبشر (وبعد أن يذهب الفقيه ينصب زوجها أشرعته ويطفئ النور ويركب (ويتبورد) طول الليل بحثا عن الولد الذي لن يأتي هكذا يتعاقب على الجسد الرشيق فاتكان لا يعرف لأيهما يرفع ولاءه الأول ناري والثاني طيني وبين النار والطين ضاعت حكامة الجسد فراح يتهجى سيرة أخرى متاهية في الأضرحة والسادات) لتجد نفسها مرة أخر محط تكالب العفاريت الآدمية في زوايا الزاوية، وخاصة عفريت لا يميز بين المرأة المحصنة والداعرة، ولا بين القاصر والبالغة من النساء، ولا بين المتزوجة والمطلقة والأرملة، بل ولا بين المرأة والأثان.. مما جعله محط تحرش من اللواتي تبحثن عن الإرتواء (هناك من الفتيات من كانت تبحث عن العسكري، أو تتحرش به كي تمر بالتجربة، تجربة الامتطاء الصعب، نظرا لسمعته الفضيعة بين معشر النساء ومعشر الأتان)

يستنتج إذن من خلال رواية (العفاريث) لإبراهيم الحجري أنها كتبت بهدف سياسي من أجل إثارة انتباه المسؤولين للتهميش الذي طال الزاوية ودعوتهم للحفاظ على ثراث هام من الذاكرة الجمعية للمغاربة ولمنطقة معينة كانت إلى عهد قريب منارا دينيا ومكانا لكرامات ومعجزات، محجا للتطهر ورمزا للطهارة والنسك والزهد في الحياة، ومقصدا للعلماء والعارفين والمتطوعين ... فأصبحت اليوم، بعد التحول الخطير الذي أصاب زاوية سيدي مسعود موطنا للفساد والرذيلة، تجتمع فيه كل مظاهر الفقر، الجهل، الشعوذة،الاستغلال، وغدت ملجأ للمتشردين والحمقى والمعتوهين والمسكعين، نهبا لعصابات تستغل الدين لتبيع الوهم لمرضى نفسانيين . وللتحسيس بخطورة الوضع اضطر المؤلف للعزف على وتري الدين والجنس وهو العارف بأهمية وخطورة الوترين مقارنا بين الماضي (ماضي الكرامات، التقوى، الوضوح والإخلاص ...) والحاضر (حاضر النفاق، الشعوذة، واستغلال المقهورين ..) وعض السلطات الطرف عما يجري لعرض في نفس يعقوب مما جعل من النص نصا يتقاطعه الأسطوري الخرافي بالواقعي التاريخي، وتطبعه نوستالجيا إلى الماضي واستهجان للحاضر الذي وإن تنوعت مظاهر الدجل فيه تبقى غريزتي إشباع البطن والفرج المحرك الأساس لإنسان هذا العصر خاصة الأمي الفقير منه.. وعندما تشتد الحاجة وتشتعل الرغبة مع قلة ذات اليد تكون الظروف مهيأة لدخول الشعوذة والدجل.......

بهذه التحفة الروائية تبقى ذكرى الفقيد مكتوبة في ذاكرتنا الجمعية وإنا لله وإنا إليه راجعون

 

ذ. الكبير الداديسي

...........................

[1] - سنعتمد في هذه الدراسة الطبعة الأولى الصادرة سنة 2013 عن دار النايا للدراسات والنشر والتوزيع بسوريا والشركة الجزائرية السورية للنشر والتوزيع ودار محاكاة للدراسات والنشر والتوزيع.

[2] - ص – 37

[3] - ص – 41

[4] - ص – 99 – 100

[5] - ص – 21

[6] - ص – 27

[7] - ص – 30

[8] - ص – 32

[9] - ص – 33

[10] - ص – 33

[11] - ص – 43

[12] - ص – 47

[13] - ص – 48 – 49

[14] - ص – 49

[15] - ص – 39

[16] - ص – 97

[17] - ص – 69

[18] - ص – 70

[19] - ص – 72

[20] - ص – 73

[21] - ص – 62

[22] - ص – 50

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم