صحيفة المثقف

محمود محمد علي: سامي الدروبي.. الأديب والدبلوماسي (1)

محمود محمد عليما بين الأدب والدبلوماسية مشترك كبير، إذ يتفاوت هذا المشترك بين كاتب وآخر، ولعل هذا المشترك يتقاسمه كثير من الرجال العظام الذين هم هدية النعيم للإنسانية في بعض المناسبات، وهم يمثلون في التاريخ الأقطاب الذين ينتصبون عادة عند مفارق الطرق فيرشدون المسافرين إلي الطريق الصحيح، وفد كان الأستاذ الدكتور "سامي مصباح الدروبي" أحد هؤلاء الرجال الذين لم يبعثوا فقط لشعوبهم وحدها، بل لإرشاد الجنس البشري بأسره، وقد حملت رسالته الروح الحقيقية للعروبة والقومية العربية، وقد أعلنت علي الملأ في وقت كان فيه العالم بصورة عامة، والوطن العربي بصورة خاصة يعاني أحوالاً سيئة بسبب قوي الشر في القرنين التاسع عشر والعشرين.

يقف المفكر والفيلسوف والأديب السوري "سامي الدروبي" في طليعة المثقفين العرب الذين دفعتهم الظروف إلي الإقامة في الغرب الأوروبي، ويكاد يكون أكثر هؤلاء صلة بالواقع العربي من حيث إلحاحه المستمر علي البحث في قضايا هذا الواقع وتقديم صورة موضوعية له تُظهر العالم الغربي علي مبلغ ما يمكن أن يقدمه العرب للعالم، وما يستطيعون أداءه من رسالة إن هم تجاوزوا ما هم فيه من ضعف وشتات هما لدي النظر نتاج غربي بالدرجة الأولي . وقد اتسمت دراسات الدكتور سامي الدروبي بملمحين أساسيين لا يستطيع قارئ كتبه العميقة إلا التسليم بهما، وهما: الإخلاص ثم الشمول . إذ لا يمكن ومهما اختلفت معه في كثير من مقدماته أو في كثير مما يخلص إليه إلا أن تقر له بهذه اللهجة الصادقة التي تُنبئ عن نفس ممتلئة ألما لما يتهدد أمتها من أخطار، فضلاً عن منهجه الذي امتزج فيه المنطق بالتحليل بالوقائع علي نحو نفتقده في كثير مما نقرءه من كلام عن مجتمعنا ومشاكله وتطوراته.

ولذلك أقول:  يمثل الدكتور "سامي الدروبي" علماً مهماً من أعلام التجديد والإصلاح الفكري العربي المعاصر، وغدت نتاجاته الفكرية والفلسفية والأدبية مرجعيات مهمة في تأصيل الذات والمحافظة علي الهوية، وفي التعبير عن شخصية المفكر العربي في ظل المواجهات الحضارية التي عاشها، ولكن لعل أبرز أفكاره الممتازة أنه كان "يعتقد اعتقاداً جازماً بأن نهضة الأمة العربية، وبعث تراثها وأمجادها يقتضيان الاطلاع الشامل علي الحضارة الحديثة، وتمثل وجوهها المختلفة فكراً وفلسفة وأدباً وفناً "(1).

ولذلك من الوفاء في نظري لجهود الإصلاح الفكري العربي المعاصر، إحياء ذكري الدكتور " سامي الدروبي" بعد ما يزيد علي أكثر من عقد كامل من وفاته، بطريقة علمية تعرض وتحلل الحياه الفكرية والتوجهات الإصلاحية لسامي الدروبي الذي أسهم بدور فعال في الأدب والنقد والترجمة، والدبلوماسية التي ساعدته بعد ذلك في بلورة الهوية والتأسيس لفكرة الدولة السورية؛ لا سيما وأن جيلا كاملا من أدبائنا العرب خاصة في القرن الماضي كان يتغني بترجماته الرائعة لجميع أعمال دوستويفسكي، والتي تعد الترجمات الأشهر بالنسبة له، حيث يروي عن الدكتور " طه حسين " عندما سأله أحد الصحفيين قبل وفاته: ماذا تقرأ ؟، فأجاب أقرأ دوستويفسكي، معرباً بقلم سامي الدروبي، وأضاف: كأني بسامي الدروبي مؤسسة كاملة، حيث يقرأ الفكرة في أصلها باللغة الأجنبية، ومن ثم  يضفي عليها من فكره الخلاق وأسلوبه السامي فتخرج فكرة جديدة، فكانه القارئ يقرأ نصاً عربياً أصيلاً لأديب عربي مشرقي الأسلوب، قوي العبارة، جزل الألفاظ، وهو ما سمي (:مدرسة سامي الدروبي) التي تميزت برصانتها وأسلوبها المميز، وإتقانها، وتعابيرها المعبرة، هذه المدرسة التي تضع الفائدة والمعرفة للقارئ العربي قبل كل شئ آخر ؛ وقد تمني الأديب "رجاء النقاش" أن تقوم مؤسسة قومية باسم (مؤسسة سامي الدروبي للترجمة) تكون مهمتها ترجمة عيون الفكر العالمي بالأسلوب نفسه وعلي الأسس نفسها التي وضعها سامي الدروبي (2).

ولذلك وجدنا الأستاذ " جورج صدقني" يقول عنه:" كان سامي الدروبي يجب أن يترجم، ولكنه لم يكن مترجماً هاوياً، ولا كانت الترجمة هواية لديه . كانت الترجمة في نظره رسالة حضارية . ولطالما بشر في هذا العصر من تاريخ العرب يجب أن يكون عصراً للترجمة، ولطالما حلم بأن يكون هذا العصر عصر الترجمة الثاني بعد عصر الترجمة الأول أيام العباسيين . ورأيه في ذلك أن الأمة العربية بأمس الحاجة إلي أن تفتح نوافذها للهواء والشمس . ولم تكن الترجمة لديه رسالة يبشر بها بالكلام وحسب، بل انبري بنفسه إلي حمل لوائها فكان علما من أعلامها البارزين (3).

وُلد الدكتور سامي الدروبي في عام 1921 وتوفي في عام 1976، أديب وناقد ومترجم ودبلوماسي سوري من مواليد مدينة حمص، وقد درس  سامي الدروبي في مدارس حمص الابتدائية والثانوية، ثم واصل دراسته في تجهيز دمشق، القسم الثانوي للبكالوريا، وتابع دراسته في دار المعلمين العليا لمدة عامين، وعمل معلمًا سنة واحدة قبل أن يوفدَ إلى مصر أواخر عام 1943 ليدرس في كلية الآداب- قسم الفلسفة في القاهرة. تخرَّج سنة 1946، وعمل خلال عامي 1948 – 1949 بدمشق معيدًا في الجامعة، ثم أوفِدَ إلى باريس خلال الأعوام 1949 – 1952 لتحضير الدكتوراه في الفلسفة، وعاد من باريس وعُيِّنَ مدرّسًا في كلية التربية، ثم أستاذًا لعلم النفس.. بعدها أنجز الدروبي مهمته كمترجم فذّ وسط زحام وانشغالات عمل لا ينتهي وخبرات توزعت بين الجامعة وكواليس العمل الدبلوماسي، فقد عمل أستاذا جامعيا للفلسفة في حمص، ثم عميدًا لكلية التربية بجامعة دمشق فوزيرًا للمعارف، ثم سفيرًا لسوريا في يوغسلافيا، مصر، إسبانيا، والمغرب، ومندوبا لسوريا في جامعة الدول العربية في القاهرة التي كانت أقرب المدن لمزاجه وقلبه.

وخلال إقامته بالقاهرة منحه الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر ما لم يمنحه لأي شخص آخر، فقد عامله كصديق أتاح له أن يجالسه وقتما يشاء، بحثا عن "خبرة إنسانية" أو سعيا لمشورة، وفي كل اللقاءات التي جمعت بينهما كان ثمة مقعد يشغله في المخيلة.. كاتب روسي يجري استدعاؤه في أي حديث بين الرئيس وصديقه المترجم الذي كان سفيرا لبلاده في القاهرة. وبلغت درجة الصداقة بينهما أن عبدالناصر عرض عليه، بعد انفصال سوريا ومصر عقب فشل الوحدة بين البلدين، منصب سفير في الخارجية المصرية ليبقى إلى جواره، وقد توفي 1976، ومُنح جائزة لوتس في عام 1978، أي بعد رحيله.

وقد أنجز الدكتور "سامي الدروبي" مهمته كمترجم فذّ وسط زحام وانشغالات عمل لا ينتهي وخبرات توزعت بين الجامعة وكواليس العمل الدبلوماسي، وخلال إقامته بالقاهرة منحه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر ما لم يمنحه لأي شخص آخر، فقد عامله كصديق أتاح له أن يجالسه وقتما يشاء، بحثا عن "خبرة إنسانية" أو سعيا لمشورة، وفي كل اللقاءات التي جمعت بينهما كان ثمة مقعد يشغله في المخيلة.. كاتب روسي يجري استدعاؤه في أي حديث بين الرئيس وصديقه المترجم الذي كان سفيرا لبلاده في القاهرة. وبلغت درجة الصداقة بينهما أن عبدالناصر عرض عليه، بعد انفصال سوريا ومصر عقب فشل الوحدة بين البلدين، منصب سفير في الخارجية المصرية ليبقى إلى جواره.

وتحفل مذكرات زوجته إحسان البيات بالكثير من التفاصيل الكاشفة عن عمق العلاقة مع عبدالناصر وعائلته، لدرجة أن عبد الناصر كان يهتم بالحالة الصحية لسامي الدروبي كما كان يدعوه بعد إصابته بمرض القلب، بل بعث إليه دواء يابانياً أرسل في طلبه خصيصا؛ يقول د. عمر عبدالسميع في مقال له نشر في الأهرام عنوانه «حين بكى عبدالناصر» عند تقديم الدكتور سامي الدروبي أوراق اعتماده للرئيس جمال عبدالناصر سفيرًا لسوريا في الجمهورية العربية المتحدة في الأول من سبتمبر عام 1966 أي بعد الانفصال بكى السفير سامي الدروبي وهو يقول: إذا كان يسعدني ويشرفني أن أقف أمامكم مستشرفًا معاني البطولة والرجولة فإنه يحز في نفس أن تكون وقفتي هذه كأجنبي، كأنني ما كنت في يوم مجيد مواطنًا في جمهورية أنت رئيسها، ولكن عزائي في هذه الوقفة التي تطعن قلبي يا سيادة الرئيس والتي يمكن أن تشعرني بالخزي حتى الموت، ومضى الدروبي في كلمته بصوت متهدج يبكي، وفي أثناء كلمته بكى جمال عبدالناصر، ورئيس مجلس الوزراء علي صبري ووزير الخارجية محمود رياض، ونشرت الصحف الأجنبية صور تقديم أوراق الاعتماد في صدور صفحاتها الأولى مسجلة أول حادث في التاريخ يبكي رئيس جمهورية في أثناء تسلمه أوراق اعتماد سفير يبكي هو الآخر (4).. وللحديث بقية..

 

أ.د محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – بجامعة أسيوط.

.................

1- جورج صدقني: سامي الدروبي مترجماً، الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، ع 59,6، 1976، ص 6.

2- أحمد سعيد هواش: الدكتور سامى الدروبى بين الإبداع الفكري والنضال القومي 1976 – 1921، الموقف الأدبي، اتحاد الكتاب العرب، مج 45 , ع 53، 2016، ص 92.

3- جورج صدقني: المرجع نفسه والصفحة نفسها.

4- د. عمر عبدالسميع: حين بكى عبدالناصر، مقال منشور بالأخرام المصرية.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم