صحيفة المثقف

مصدق الحبيب: منظرو الاقتصاد (21): فاسلي ليونيتيف

2632 فاسلي ليونيتيف(1905 – 1999) Wassily Leontief

هو الاقتصادي الروسي- الامريكي الذي ولد في ميونخ - ألمانيا ونشأ في لينينگراد (سانت بيترسبرگ حاليا). كانت عائلته موسرة بعض الشئ وكان والده استاذا للاقتصاد درس في ألمانيا وتزوج من إمرأة ألمانية من أصل روسي تعود جذور عائلتها الى منطقة سانت بيترسبرگ منذ أواسط القرن الثامن عشر، وكانت تعمل في حقل تأريخ الفن. بعد ان حصل والد فاسلي على الدكتوراه من جامعة ميونخ عاد الى وطنه للتدريس في جامعة لينينگراد، وهناك نشأ فاسلي وتعلم في مدارس المدينة وتفوق فدخل جامعة لينينگراد وهو بعمر 15 عاما وحصل على الماجستير في الاقتصاد بعمر 19 عاما. كان ذلك عام 1924 عندما استلم ستالين السلطة بعد وفاة لينين. لم تشعر العائلة بالاستقرار في وطنها المضطرب بالجو السياسي غير الامين فانتقلت الى ألمانيا حيث تسنى لفاسلي اكمال الدكتوراه في الاقتصاد في جامعة فريدرش وللم في برلين عام 1928.

بعد نيله الدكتوراه واصل عمله في معهد كيلKiel لدراسات الاقتصاد الدولي الذي حصل عليه قبل تخرجه بسنة واستمر فيه لغاية 1929 حيث انتدب للعمل كمستشار اقتصادي لدى وزارة السكك الحديد في الصين لمدة سنة واحدة. انصب عمله في معهد كيل على اشتقاق دوال الطلب والعرض رياضيا وتطبيقيا مستخدما البيانات الاقتصادية الحقيقية. ثم بعد ذلك وفي عام 1931 جاءت فرصة العمل في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية في الولايات المتحدة الامريكية. تلتها فرصة العمل في جامعة هارفرد عام 1932 ليلتحق بجوزيف شومبيتر ويشكلا ماسمي بالجيل الذهبي لاقتصاديي هارفرد. في عام 1946 نال درجة الاستاذية في هارفرد وبقي هناك استاذا لمدة 41 عاما، انتقل بعدها الى جامعة نيويورك عام 1973 والتي بقي فيها لحين وفاته عام 1999.

عند بدء عمله في هارفرد، عزم على انجاز صياغة تطبيقية لنظرية التوازن الاقتصادي العام، خاصة حسب مفهوم فالراس، فحصل على منحة اكاديمية وبدأ بتتبع ودراسة البيانات الاقتصادية المتوفرة لدى المكتب الامريكي لاحصاءات العمل. بموجب هذه البيانات تسنى له تنظيم النشاط الاقتصادي وتقسيم الاقتصاد الامريكي الى 500 قطاع . كان ذلك من أجل ان يضع يده على كيفية ترابط العلاقات فيما بين القطاعات ومنتجاتها ويصوغها بنموذج رياضي عام تخصصت فيه معادلة خطية لكل قطاع تبين العوامل التي تؤثر فيه. وبذلك تمكن من ايجاد العلاقات المتداخلة بين القطاعات وتقدير مدى تأثير احدهما على الآخر. في عام 1943 استطاع ان يكون اول من استخدم الكومبيوتر الميكانيكي من الجيل الاول الذي توفر في جامعة هارفرد. بهذا العمل تمكن من صياغة مصفوفة او جدول المدخلات- المخرجات مستخدما البيانات الاقتصادية الامريكية للفترة 1919-1929. كان ذلك منجزا وحدثا تاريخيا اطلق عليه اسم تحليل المدخلات- المخرجات الذي اصبح مقترنا باسم ليونتيف، كما اصبح فيما بعد اداة اساسية لتبيان تداخل الانشطة الاقتصادية ودوال الطلب والعرض فيما بين القطاعات المختلفة. قام بنشر نتائج هذا العمل بكتاب عنوانه هيكل الاقتصاد الامريكي للفترة 1919-1929. تلا ذلك بعدة بحوث في هذا المجال شكلت بمجموعها المساهمة الكبرى له في النظرية الاقتصادية التي نال بموجبها جائزة نوبل للاقتصاد عام 1973.

في هارفرد، فضل قسم الاقتصاد ان يجعل ليونتيف متفرغا للبحث في البداية فلم تتوفر له الفرصة الكافية للتدريس الا بعد ثلاث سنوات حيث بدأ عام 1935 بتدريس مادة نظرية الاسعار، وسرعان ما اصبح درسه حاضنة للطلبة المجتهدين الذين شكلوا الجيل الاول في الاقتصاد الرياضي. كما حصل ان ينال فيما بعد أربعة من طلابه جائزة نوبل في الاقتصاد، حتى ان اولهم پول سامولسن نال الجائزة عام 1970 أي قبل استاذه ليونتيف بثلاث سنوات. أما الطلاب الثلاث الآخرين الذي نالوا الجائزة هم روبرت سولو عام 1987 وفرنن سمث عام 2002 وتوماس شيلنك عام 2005.

يعتبر ليونتيف من أوائل من انغمسوا في التحليل الاقتصادي الكمي والنماذج الرياضية وتطبيقاتها غلى ارض الواقع، وذلك باستخدام الاحصاءات المتوفرة عن كل مفصل من مفاصل النشاط الاقتصادي. وبالرغم من هذا الاتجاه فقد عُرف، خاصة في سنواته الاخيرة، بتوجيه النقد واللوم على طرق تدريس الاقتصاد التي اهتمت فقط بالاشتقاقات الرياضية للنظريات واهملت تبيان معانيها وجدواها في الحياة العملية. ومع انه كرس اغلب جهده الاكاديمي لتطوير تحليل المدخلات-المخرجات الاقتصادية، فانه ساهم مساهمات جدية وفعالة في جوانب اخرى من النظرية الاقتصادية كالتجارة الخارجية ونظرية الاسعار وتاثير تغيرات البيئة على النمو الاقتصادي وطرق البحث العلمي في الاقتصاد والسياسات الاقتصادية والاجتماعية. في عام 1933 نشر بحثا نظريا مهما حول استخدام منحنيات السواء في تحليل اقتصاديات التجارة الخارجية، ,وفي عام 1934 قدم تحليلا عن نموذج الكوبوب غير الخطي Non-linear Cobweb Model .وفي عام 1936 نشر بحثين، احدهما حول نظرية كينز النقدية في البطالة، وثانيهما عن السلعة المركبة والارقام القياسية، وهو البحث الذي سجلت فيه له مساهمة فريدة في صياغة مفهوم السلعة المركبة Composite commodity التي نسبت ايضا للاقتصادي البريطاني جون هكس. في عام 1937 نشر بحثه في تحليل العلاقات المتداخلة بين الاسعار، المخرجات، الادخار والاستثمار، وفي عام 1941 نشر كتابه المعنون هيكل الاقتصاد الامريكي. في عام 1946 ساهم في اقتصاديات العمل بتحليله لعقد الاجور السنوي، وفي عام 1956 نشر معالجته لموضوع نسب عوامل الانتاج في هيكل التجارة الخارجية. في 1991 قدم لنا فكرته عن الاقتصاد عموما كدورة جارية ومتصلة ببعضها، وهذا المفهوم Circular Flow مايزال يشكل الدرس الاساسي لطلبة الاقتصاد عن ماهية النشاط الاقتصادي وكيفية سير عجلته عمليا. وفي عام 1993 نشر فلسفته وفهمه الشخصي لعلم الاقتصاد وتساءل عما اذا كان ممكنا ان يعاد النظر في هيكلة هذا العلم ليصبح علما تطبيقيا بالدرجة الاولى.

أما مساهماته الكبرى التي حملت اسمه فيمكن تلخيصها بأربعة:

1) تحليل المدخلات-المخرجات Input-output Analysis، كما اسلفنا

2) متناقضة ليونتيف Leontief Paradox

3) دالة انتاج ليونتيف Leontief Production Function

4) السلعة المركبة Composite Commodity Theorem

يتلخص تحليل المدخلات- المخرجات كما لمحنا اعلاه بطريقته المبتكرة والمعقدة آنذاك بتتبع العلاقات والتأثيرات المتشابكة والمتداخلة فيما بين المنتجات والشركات المنتجة والقطاعات. فمثلا زيادة الطلب على الاثاث تتطلب زيادة انتاج الاثاث مما يقود الى زيادة انتاج كل العوامل الداخلة في انتاج الاثاث كالخشب والبلاستك والحديد والقماش والاسفنج والاصباغ والجلود والمسامير والصمغ والخيوط والاكسسوارات الصغيرة وغيرها مما يدخل في الانتاج. وكل واحد من هذه العوامل الداخلة قد يقود في انتاجه كمخرج الى مدخلات اخرى. فالخشب يتطلب زيادة قطع الاشجار وهذا يتطلب المكائن والمعدات والسيارات والعمال والادارة كما يتطلب اجراءات ودوائر قانونية ومحامين ووكلاء، ومدافعين وناشطين في البيئة وسياسيين ، وهكذا. والنتيجة هي ان كل المنتجات التي يطلبها المستهلك والمنتج متداخلة ببعضها وتقود الى تداخل شركاتها وقطاعاتها وعملائها فيتداخل الانتاج بالاستهلاك والتوزيع والتسويق والاعلان والكل يتعامل بالقاسم المشترك وهو النقود التي تتداول من يد الى اخرى ومن غرض الى آخر. وهذا التدفق المستمر للنشاط الاقتصادي بكل تشابكاته يسري تأثيره بشكل متسلسل كالحلقات المتصلة بالسلسلة الواحدة او مايسمى Chain reaction ويسمى ايضا Domino effect وهو ما يمكن تتبعه وملاحظة علاقاته وحساب تأثيراته عبر تحليل المدخلات-المخرجات الذي اصبح اسهل بكثير اليوم قياسا بأيام ليونتيف، وذلك بفضل تطور تكنولوجيا الكومبيوتر وبرامجياتها.

أما متناقضة ليونتيف فهي ظاهرة تم اكتشافها من خلال العمل في مصفوفة المدخلات-المخرجات. فقد لاحظ ليونتيف من خلال بيانات التجارة الخارجية في الاقتصاد الامريكي ان الولايات المتحدة تصدّر مايعرف بالسلع كثيفة العمل Labor-intensive goods وتستورد السلع المعروفة بانها كثيفة رأس المال Capital-intensive goods، وهو مايخالف نظرية المزايا المقارنة Comparative advantage theory في الاقتصاد الدولي التي تقول ان من الانسب اقتصاديا لكل بلاد ان تصدر السلع التي تمتلك فيها مزايا مقارنة وتستورد السلع التي تفتقر فيها لتلك المزايا. وبما ان الاقتصاد الامريكي يعج بالسلع كثيفة رأس المال ويفتقر نسبيا لكثافة العمل فان حقيقة البيانات ناقضت النظرية في هذه الحالة.

في خضم اشتغالاته على البيانات الاقتصادية الامريكية واجهته بعض الحالات المحدودة من حالات الانتاج التي تطلبت معالجة رياضية خاصة كصياغتة لما سمي بـ "دالة انتاج ليونتيف"Leontief Production Function وهي دالة الانتاج ذات النسب الثابتة لعوامل او مدخلات الانتاج والتي لاتقبل التعويض او الاستبدال فيما بين العوامل الداخلة في الانتاج. كما تمتاز هذه الدالة بعرضها لما يسمى بمرونة التعويض الثابتة Constant Elasticity of Substitution . ففي المثال الابسط لمنتج ما (مخرج) مثل Q ذي عاملي انتاج (مدخلين) هما x1 & x2، تتخذ الدالة الصيغة التالية:

Q = min { x1/a , x2/b}

حيث ان a & b يمثلان قيمتان تكنولوجيتان ثابتتان

أما مفهوم السلعة المركبة فينسب الى ليونتيف، كما ينسب الى الاقتصادي البريطاني جون هكس. ومفاده انه لو افترضنا ان مجموعة من اسعار السلع والخدمات تتحرك بشكل مواز لبعضها، أي انها تتغير بنفس النسب فان ذلك يجيز لنا، رياضيا على الاقل، ان نضمها الى بعض ونعتبرها سلعة مركبة واحدة ذات سعر واحد، مما يسهل الاشتقاقات الرياضية ولا يؤثر كثيرا على المنطق الاقتصادي.

بقي ان نذكر جوانب اخرى من حياة هذا الاقتصادي اللامع. تزوج فاسلي مرة واحدة عام 1932من الشاعرة أستيل ماركس ورزقا ببنت واحدة عام 1936 اسمياها سفتلانا. من هواياته صيد السمك بالسنارة والتمتع بالبيرة والواين، خاصة اثناء عطلته التي يمضيها في مزرعتيه في ولايتي فرمونت وكنتكت. ويقال ان انتدابه كمستشار في الصين جاء بعد محادثة مع رجل صيني متنفذ في احد بارات نيويورك.

يذكر ليونتيف في مذكراته عن طفولته في سانت بيترسبرگ حادثتين بقيتا في ذهنه، الاولى هي المشهد المهيب لتشييع الروائي الروسي ليو تولستوي حيث يتذكر المشهد بالرغم من انه لم يكن يدرك ماحصل ولماذا تجمع الناس بهذا العدد الهائل. والثانية انه رأى الزعيم البلشفي فلاديمير لينين يخطب في الجماهير بحماس لكنه هنا كان يدرك مايجري لانه كان شابا يافعا آنذاك. وقد ذكر ان والده كان معارضا لثورة اوكتوبر وما حدث من تغيير شامل في حياة المواطنين، فاصبح هو كشاب مراهق معارضا مندفعا ايضا قام بتوزيع المناشير واعتقل عدة مرات.

 

ا. د. مصدق الحبيب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم