صحيفة المثقف

محمود محمد علي: الإسلام السياسي وإشكالية الحاكمية الإلهية (1)

محمود محمد عليمن الخطأ أن نقرأ الأفكار وكأنها مجرد ردود أفعال، فيتم تحليل الأقوال، وينحي عن المشهد تأصيل الأجوال . ولعل "الحاكمية"، تاريخاً ومصطلحاً ونسقاً، هي الأولي بقراءتها بعيداً عن هذا المأزق المنهجي الذي بحبسها في فكره مأزومة قبل ارتياد الآفاق التي حركتها من رحم التاريخ النائم إلي جدل الحاضر المتلاحم (1).

ولذلك قيل عن القرن 18م في تاريخ الفكر الأوربي؛ إنه "عصر الإلحاد"، وبدأت لغة التحقيب التاريخي يمكن أن يسمي القرن 19م في تاريخ الفكر الإسلامي بأنه” عصر الاضطراب”؛ الاضطراب في كل شيء في الدولة وسلطانها، وفي المجتمع وتنظيماته، وفي الإنسان التائه بين الواقع الرديء، والمأمول الذي يبدو وكأنه لن يجيء، ظلمات بعضها فوق بعض (2).

كانت الدولة العثمانية هي الإطار الذي تلتقي في داخله هموم الأمة وطموحاتها، وكان الإسلام هو مصدر شرعيتها، وأساس ترابط شعوبها رغم تفرع انتماءاتهم، وتنوع لغاتهم وتباين تصوراتهم للمستقبل المنشود، وكانت الدول الأوربية تري في انكسار هذه الدولة فكراً وسياسة، هي الطريق الأوحد لإفساح الطريق أمامها في مجال حيوي لا حياة لها فيه إلا بتكسير عظام هذه الدولة وتدمير بنيتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكانت فكرة الخلافة هي القلب الذي ينبغي إيقافه عن العمل، فنبضه يغذي حركة الصمود، فبقاء الخلافة يعني تراجع المشروع الغربي عن بلوغ غايته، وتلك خطوط حمراء في نظر دوله ومفكريه. لم تكن الفكرة دينية، وإن أفرزت تعصبا دينياً، واستخدمت من الجدل الطائفي ما يعزز أهدافها ويحقق مراكبها، كان الدين ملاذاً في أجواء الصراع؛ لأن فكرة رئيسية عند القديس "أوغسطين" كما هي فكرة جوهرية في مذاهب الإسلاميين (3).

وفي دراسة أكاديمية جادة بعنوان " الحرية والديمقراطية في خطاب الإسلام السياسي بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي"، والذي قام بإعداده كل من الأستاذ "طارق حمو"، والأستاذ "صلاح  نيوف"،وقد نشر الكتاب ضمن مطبوعات مركز الكتاب الأكاديمي في عام 2014.

وتأتي هذه الدراسة لأحد أهم المرتكزات التجديدية للحركة الإسلامية المعاصرة، في إطار المحاولات المستمرة لتأصيل المفاهيم الإسلامية وبنائها – جزء من بناء خطاب سياسي إسلامي معاصر يتخذ أداة لرؤية الواقع وتحليله، كمقدمة لتطويره وإصلاحه، ورغم أن المفهوم يكاد يكون من بديهيات الفكر والتصور الإسلامي، كما أعاد طرحه “سيد قطب” في كتابه معالم علي الطريق، حين ميز بين ثلاثة مستويات للحاكمية: حاكمية الاعتقاد والتصور، وحاكمية الأعراف والتقاليد، وحاكمية التشريع، ورأي سيد قطب أن الحاكمية الإلهية هي الثورة الشاملة علي حاكمية البشر في كل صورها وأشكالها وأنظمتها وأوضاعها، إلا أن هذا المفهوم – وخصوصاً أبعاده العملية والسياسية تحديداً – ما زالت عرضه للخلاف والجدل الشديدين بين الفرقاء في الساحة السياسية، ولعل أحد الأسباب المهمة – وراء ذلك- أنها طرحت تاريخياً، وما زالت تطرح حاليا في إطار الصراع بين مجتمعاتنا الساعية لإبراز هويتها والانطلاق من مرجعيتها الإسلامية والأنظمة الحاكمة التي تفرض سياسات عملية تكرس التبعية والتغريب والعلمنة .. فكما أنه مفهوم فكري إسلامي أصيل إلا أنه في الوقت نفسه " أداة" من أدوات الصراع السياسي في المنطقة، ومن هنا كان الخلاف والجدل والتهم المتبادلة (4)، بين معظم لتيارات الإسلامية وبالأخص جماعات (الإسلام السياسي).

ولذلك نجد في مقدمة هذا الكتاب الذي بين أيدينا، أن الكاتبين يعولان علي فكرة هامة، وهي أن:” موضوع الإسلام السياسي يحتل في وقتنا الحالي أهمية كبيرة، وبتزايد الاهتمام به علي صعيد العالم العربي، وكذلك علي الصعيد الدولي العام . لقد شهدت السنوات الأخيرة أحداثاً كبيرة علي مستوي منطقة الشرق الأوسط والعالم، لعب فيها (الإسلام السياسي) وجماعاته دوراً كبيراً، واستقطبت هذه الأحداث اهتمام الحكومات في الشرق والغرب، وبدأت مراكز القرار والدراسات تبحث في هذا الموضوع، وهذه الظاهرة التي بدأت بالتطور والتوسع وإشغال الرأي العام، سيما بعد الهجمات الإرهابية التي وقعت في العديد من المناطق، وسجلت كلها علي حساب جماعات (الإسلام السياسي) من التي تدعي الجهاد ضد الغرب، زاعمة خدمة شريعة الإسلام ونصرة الدين (5).

ثم يؤكد المؤلفان بأنه بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 م تزايد الاهتمام بشكل كبير وملفت بظاهرة (الإسلام السياسي)، وصدرت دراسات وأبحاث كثيرة وبلغات عديدة حول الظاهرة وأصولها، خلفياتها، وتطوراتها المحتملة في المستقبل، ومدي خطورتها علي السلم والاستقرار الدوليين، ومن ثم كيفية التعامل معها والتصدي لانعكاساتها (6).

ويستطرد الكاتبان بأنه:" بعد اندلاع الانتفاضة التونسية نهاية 2010، ومن ثم بدأت التحولات السياسية في العديد من البلدان العربية، فيما عُرف لاحقاً بـ” الربيع العربي” أو ” الثورات العربية”، ورفع الشعوب المنتفضة لمطالب الديمقراطية والحرية، وبزوغ الأمل الكبير في إنهاء مرحلة الديكتاتورية وحكم الفرد والنظام الأوحد، وخلق دولة العدل والقانون، وطغيان الصوت الشبابي المطالب بالتغيير، تزايد الاهتمام بالمنطقة، وبدأ العالم يترقب عملية الانتخابات والتحول الديمقراطي، ما بعد الأنظمة القمعية في البلدان العربية التي أسقطت أنظمتها كتونس، وليبيا، ومصر. كان هناك ترقب لدور جماعات (الإسلام السياسي) ومراقبة خطابها الذي تماهي في المراحل الأولي من الانتفاضات مع مطالب عامة الشعب، حيث الشعارات المطالبة بالديمقراطية والحرية، وضرورة احترام هاتين القيمتين . وبدأ العالم يتساءل: هل ستطبق هذه الجماعات قيمة (الديمقراطية)، وهل ستحترم قيمة (الحرية) في حال أن تصدرت الحكم واستملت الإدارة، أم إنها ستتخلى عن هذه الشعارات التي نادت بها في مرحلة ما، لصالح الأسس الإيديولوجية والعقائدية التي بينت عليها: تحكيم الشريعة الإسلامية، وبناء دولة الخلافة وتمكن فكرة الحاكمية لله؟ "(7).

كذلك في هذا الكتاب حاول المؤلفان الإجابة علي هذا التساؤل، ومراقبة سياسة جماعات (الإسلام السياسي)  في البلدان العربية التي شهدت تحولات جذرية، بعد سقوط الأنظمة القديمة، حيث انطلقت عملية بناء جديدة، وانتخابات، أتاحت أيضا لجماعات (الإسلام السياسي) المشاركة بكل حرية، وقد تتبع المؤلفان خطاب هذه الجماعات منذ البداية مروراً بالمشاركة في الانتخابات وحتي تسلم بعضها السلطة، مثلما حصل في مصر، حيث تسلمت جماعة " الإخوان المسلمين" السلطة، بعد فوزها في الانتخابات، كما حاول المؤلفان رصد التغيير الذي طرأ علي خطاب هذه الجماعات، وبشكل خاص في مصر، حيث ركز المؤلفان علي النموذج المصري، كدولة، من مكانة مركزية في العالم (فهي أكبر بلد عربي)، وتأثيرها الواضح علي مجمل المشهد السياسي العربي والشرق أوسطي، فراقب المؤلفان خطاب " الإخوان المسلمين" والتحولات والتغييرات التي طرأت علي هذا الخطاب: فيما يخص احترام قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)، كما تتبع المؤلفان التجربة منذ اندلاع المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام وإلي أن تم الإطاحة بالإخوان عبر انقلاب المؤسسة العسكرية، ومن ثم قدم المؤلفان قراءة استشرافية لمستقبل بعد إزاحتهم عن الحكم في مصر.

ومن خلال تقديم تحليل لتجربة (الإسلام السياسي) فيما يخص احترام وتطبيق قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية) في ما بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي، قام المؤلفان بتتبع ظاهرة (الإسلام السياسي)  منذ البداية، وحاولا شرح الأسس النظرية والمرتكزات التي تقوم عليها جماعات (الإسلام السياسي)، ومن ثم التعامل السياسي مع التطورات والأحداث بعد التغييرات الكبيرة في العالم العربي ما بعد 2012. لقد حاول المؤلفان أن يقدما تعريفا بهذه الظاهرة وشرحا حول ظهورها والأسس والمرجعيات التي تقوم عليها، وإبراز رموزها، ومن ممارستها للسياسة وكيفية تفاعلها مع الأحداث والمجريات وعلاقاتها مع القوي المختلفة في الداخل والخارج . كان الهدف كما يؤكد المؤلفان هو تقديم دراسة جادة في هذا الحقل تجيب علي التساؤلات التي ظهرت فيما يخص موقف وسياسة (الإسلام السياسي) ما بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي: وكيفية احترامها لكل من قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)، علي أمل تقديم شئ جديد وإضافة علمية في هذا الحقل(8).

وقد وضع المؤلفان هذا الكتاب الذي بين أيدينا في خانة تقديم إضافات جديدة للأبحاث الموجودة في حقل (الإسلام السياسي)؛ حيث يجتهد هذا الكتاب لتعريف (الإسلام السياسي) وشرحه والاجتهاد في كيفية التعامل معه في ضوء الحدث السياسي علي أرض الواقع، وهي محاولة كما يصفها المؤلفان متواضعة للإجابة علي بعض التساؤلات التي يطرحها المواطن العادي، وكذلك الباحث المنشغل حول (الإسلام السياسي) والمهموم بموقفه ومستقبله في منطقتنا: منطقة الشرق الوسط (9).

لقد شكل (الإسلام السياسي)  في نظر الكاتبان بمختلف جماعاته وأحزابه ظاهرة ملفتة باتت تؤثر في الأحداث والسياسات في منطقة الشرق الأوسط، وبدأت دوائر صنع القرار تهتم بالظاهرة وتجتهد من أجل معرفتها وكيفية التعامل معها في المستقبل، وبعد التحولات الأخيرة في العالم العربي تصدرت جماعات (الإسلام السياسي) الحسنة التنظيم، الواجهة وبدا أنها هي التي ستحكم في فترة ما بعد الأنظمة الفردية الشمولية . وكانت هذه الجماعات تبث للعالم الغربي، وكذلك للقوي السياسية في بلدانها، خطاباً معتدلاً في البداية، وتقول بأنها ستخترم قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية) اللتين ناضل من أجلهما الشعب ؛ وبالأخص فئة الشباب . وقد تزايد الاهتمام بهذه الجماعات محليا ودولياً وكثر الطلب علي المعلومات والأبحاث التي تحلل ماهيتها وخطابها وتستشرف مستقبلها . ولأهمية هذه الجماعات ودورها في الحياة السياسية، واختبار مدي مصداقية شعاراتها في اخترام قيمتي (الحرية) و(الديمقراطية)، سيما وهي تتجه إلي الحكم، منفردة، أو مشاركة، فقد رأي الكاتبان من الأهمية بمكان التطرق لهذا الموضوع والبحث فيه ورصد تطوراته وفهم وماهية هذه الجماعات والفصل في خطابها السياسي (10).

ولاشك في أن موضوع هذه الدراسة هو من أهم المطارحات المعاصرة الجدلية ؛ لما تنطوي عليه من مبان دقيقة متشعبة المداخل والفروع، وما ترتب علي المغالطات في فهم "الحاكمية لله" وخلطها بالسياسي بعيداً عن الفكري والثقافي من آثار بالغة الخطر، أسهمت كثيراً في تشكيل جزء من مشهد العالم اليوم.

وقد أبدع المؤلفان في ترتيب الأفكار، وتسلسل المباني علي الوجه الذي يخدم مقولتهما مستخدمين في ذلك منهجان: المنهج التاريخي والمنهج الوصفي، فأما المنهج التاريخي: من أجل الاستدلال في تفسير الظاهرة السياسية والتي هي هنا (الإسلام السياسي) ، حيث يتتبع الكاتبان بدايات الظاهرة والأفكار التي أثرت فيها وساهمت في تبلورها التاريخي كظاهرة سياسية مشاركة ومؤثرة في الأحداث . والمنهج الوصفي: وذلك من خلال دراسة الظاهرة السياسية، كما هي، للوصول إلي فهم العلاقة بين هذه الظاهرة والظواهر الأخرى، ومن ثم متابعة التغيرات التي طرأت عليها، وتحليل طريقة عملها وتفاعلها مع التطورات، ومن استشراف مستقبلها وتعاملها الاتي وموقفها من التطورات المحتملة (11).. وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

..............

1- محمد كمال الدين إمام: الحاكمية والاعتدال الإسلامي: رؤية نقدية، الإحياء، الرابطة المحمدية للعلماء، ع 46,45، 2018، ص 87.

2- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

3-المرجع نفسه، ص 88.

4- هشام أحمد جعفر، وآخرون: الأبعاد السياسية لمفهوم الحاكمية، المسلم المعاصر، جمعية المسلم المعاصر، المجلد 18، العدد 61، 62، 1994م، ص198.

5- الأستاذ طارق حمو والأستاذ صلاح علي نيوف: الحرية والديمقراطية في خطاب الإسلام السياسي بعد التحولات الأخيرة في العالم العربي، مطبوعات مركز الكتاب الأكاديمي، 2014، ص9.

6- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

7- المصدر نفسه، ص 10.

8- المصدر نفسه، ص 11.

9-  المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

10-المصدر نفسه، ص 12.

11- المصدر نفسه، والصفحة نفسها.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم