صحيفة المثقف

إيان كريشتون سميث: السيد هيني

2637 crichtonبقلم: إيان كريشتون سميث

ترجمة: صالح الرزوق


كانت الساعة العاشرة ليلا والسيد بينغهام مشغول بالكلام مع المرآة. قال:”سيداتي وسادتي”. ثم  توقف، نظف حنجرته، قبل أن يتابع قائلا:”المدراء والزملاء. مرت أربعون عاما منذ أن دخلت مهنة التدريس - هل هذا ينفع ليكون بداية مناسبة يا عزيزتي؟”.

ردت زوجته  لورنا:”بداية جيدة يا عزيزي”.

قال زوجها بقلق واضح:”هل تعتقدين أن إضافة بعض الطرائف تحسنها. حينما تقاعد السيد كوري تلقوا كلمته باستحسان لأنه ضمنها بعض النكات والفكاهات. أنا سألقي كلمتي في إحدى حجرات قسم العلوم المحلية وسيشربون الشاي ويتناولون الفطائر. وسيكون ذلك بعد نهاية الحصص”.

قالت زوجته:”قليل من الفكاهات لا يضر. إنما أفضل أن يكون الاجاه العام جديا”.

رفع السيد بينغهام كتفيه. وجهز نفسه لمواجهة المرآة. وفي تلك اللحظة قرع جرس الباب.

قالت بتحسس:”من تراه يكون في هذا الوقت من الليل؟”.

“لا أعلم يا عزيزتي، هل أرد؟”.

“إن سمحت يا غاليتي”.

وضعت زوجته بأناة ما في يدها من حياكة وتوجهت للباب. وسمع السيد بينغهام صوت همهمة وبعد لحظات عادت زوجته لغرفة المعيشة مع رجل ربما يبلغ الخامسة والأربعين من عمره أو ما يقارب ذلك وله وجه مسكون بالشحوب، ولكن بدا عليه أنه متحمس وجاهز ومتنبه قليلا.

قال للسيد بينغهام:”أنت لا تعرفني. لكن اسمي هيني. وأعمل بالإعلان. وأكتب القليل من الطقطوقات مثل هذه:

حينما تغلب الكآبة على كلبك

قدم له دالتون. فهو الأفضل.

وكنت أحضر حصصك في فترة 1944 - 1945. وسمعت أنك تقاعدت وأتيت لأقدم لك المساعدة”.

قال السيد بينغهام وهو يبتعد عن المرآة:”آه؟”.

قالت زوجته:”أليس هذا شيئا طيبا من السيد هيني؟”.

وأضافت:”تفضل بالجلوس”. واحتل السيد هيني مقعده، وهو يجر بحرص ساقي بنطاله كي لا يتلفهما. ثم قال للسيد بينغهام:”شاهدتك مالكة البيت الذي أسكن فيه في البلدة. ولفترة طويلة اعتقدت أنك مزارع. لا بد أنها مخطئة باعتقادها. ربما بسبب وجهك المعافى والأحمر. أخبرتها أنك كنت أستاذي في اللغة الإنكليزية لعام كامل. والآن أنا في مجال الإعلانات. من أفضل الإعلانات المقفاة التي كتبتها ما يلي :

وجبة الكلاب دالتون تجعل كلبك

مطيعا ومرحا.

ولك الفضل فأنت من علمني تينيسون وبوب. وأتذكر كليهما بشكل جيد”.

قال السيد بينغهام:”الحقيقة أنني لا أتذكرك. لنقل لا شيء عندي ضدك شخصيا. الألوف من الأشخاص مروا من تحت يدي. وبعضهم يزورني بين حين وآخر. هل هذا صحيح يا عزيزتي؟”.

قالت السيدة بينغهام:”نعم. هذا يحصل دائما”.

قال السيد بينغهام:”ربما يمكنك تحضير كوب من القهوة يا عزيزتي”.

وعندما نهضت زوجته وذهبت إلى المطبخ، مال السيد هيني للأمام كثيرا وقال:”أتذكر أنه كان لك ولد. أين هو الآن؟”.

قال السيد بينغهام باعتزاز:”هو في إدارة التعليم. لقد أفلح بحياته”.

قال السيد هيني:”حينما كنت أحضر دروسك كنت في الحادية عشرة أو الثانية عشرة. وكانت مجموعة من الأولاد تسخر مني. لا أذكر إن أخبرتك سابقا أنني يهودي. أحد الأولاد كان اسمه كولين. أطول مني وشعره أقل سوادا”.

قال السيد بينغهام بحنق:”لا تحاول أن تلقي باللوم ضمنا على ابني. كان اسمه كولين لكنه لا يرتكب مثل هذه الحماقات. ولا يستعمل عضلاته ضد أحد”.

قال السيد هيني بدماثة:”حسنا. مر على ذلك وقت طويل. وبكل حال الماضي مر وانتهى. وللأسف الحاضر لا يسر ولا يبهج بنفس المقدار. كان كولين زعيم حلقة من الأولاد. وله عينان زرقاوان. في تلك الأيام كنت أعاني من تأتأة تزداد في وقت الشدة العصبية. آه. ها هي السيدة بينغهام ومعها القهوة. شكرا يا مدام”.

قال السيد بينغهام لزوجته:”أخبرني السيد هيني أنه حين كان في المدرسة تعرض له ولد اسمه كولين وبشعر أشقر”.

قال السيد هيني: “صحيح. ولكن كما قلت مضى على ذلك زمن طويل ومن الأفضل نسيانه. كنت صغيرا وضعيفا وأرتدي النظارة. أعتقد يا سيدة بينغهام أنك كنت تعلمين في تلك المدرسة يومذاك”.

قالت السيدة بينغهام:”سكر؟. نعم. كانت سنوات حرب ومعظم الرجال مشغولون. قمت بتدريس اللاتينية. لكن زوجي كان مختلفا”.

قال السيد هيني:”أمو. أماس. أمات. (*أحب. تحب. يحب). أتذكر أنني كنت أحضر حصتك أيضا”. وأضاف وهو يحرك القهوة دون تركيز:”لم أكن ولدا يلفت الانتباه. وربما لن تتذكريني. ولكن أتذكر القصيدة البليغة لبوب التي أثرت علي أيما تأثير. وهكذا يا سيد بينغهام حينما سمعت أنك تقاعدت أتيت بأسرع ما يمكن أن تحملني ساقاي دون تأخير. أنا متأكد أنك أبليت بمهنتك. وأنا اخترت مهنة مناسبة. وأنت يا سيدي دون أن تعلم وجهتني الوجهة الصحيحة للقيام بمهنتي”.

استرق السيد بينغهام نظرة اعتزاز من زوجته.

وقال السيد هيني:”أتذكر الحادثة عينها جيدا. وعليك أن تتذكر أنني كنت صبيا صغيرا ووحيدا ولست جيدا باللعب. فالوقوف بالعصا لا يعني أنك لاعب كريكيت. لم أكن مناسبا للعصا والكرة أبدا. وفوق ذلك كان الأولاد الكبار يحاصرونني ويضربونني كل صباح في غرفة المرجل قبل بداية الحصص. وكانت غرفة المرجل حارة جدا. كنت موهوبا قليلا في تلك الأيام. بالتأكيد ليس كثيرا. فقط القليل من الموهبة الشعرية. كتبت الشعر ولكن بشكل عام احتفظت به لنفسي.  وفي إحدى الأمسيات أذكر أنني أحضرت كتاباتي لأعرضها عليك يا سيد بينغهام. ولا أعلم إن كنت تذكر تلك الحادثة الصغيرة يا سيدي”.

قال السيد بينغهام:”كلا. لا يمكنني أن أقول إنني أتذكر”.

“كنت معجبا بك يا سيدي. فأنت رجل متحمس للشعر جدا ولا سيما تينيسون. ولذلك عرضت عليك أشعاري. لا زلت أذكر تلك الأمسية جيدا. كانت تمطر بغزارة وكانت الغرفة حقا كئيبة وطلبت من أحد الصبيان  أن يشعل النور. وأنت قلت: لنلق بعض الضوء على الموضوع يا هيوز. بوسعي تذكر هيوز بوضوح بمقدار ما يمكنني تذكر طرفاتك وتعليقاتك. وفي كل حال أشعل هيوز الضوء وكان يوما غائما، فالوقت ليس أيار لكن كانون الأول. والشمس الضعيفة بلون الجمر معلقة في السماء. وقرأت واحدة من قصائدي. وكما قلت لا يمكنني تذكرها الآن لكنها لم تكن موزونة. وقلت إنك ستبين لي الفرق بين الشعر الجيد والشعر السيء، بمقارنة تجربتي البسيطة مع شعر تينيسون الذي هو غالبا مقفى. وعندما غادرت الغرفة كنت محاطا بمجموعة من الأولاد يقودهم صبي أشقر بعينين زرقاوين يدعى كولين. والغاية من هذه الحكاية أنني اخترت مجال الدعاية والإعلان وقادني ذلك لتنمية قافيتي. لقد كانت إلهاما بالنسبة لي. إلهام من الله مباشرة. وأنه يجب أن أتقن القافية كما نصحتني. وهكذا ترى يا سيدي أنك مسؤول عن هذه المهنة التي أفلحت بها”.

 قال السيد بينغهام بسخط:”أنا لا أصدق كلامك يا سيدي”.

“ماذا لا تصدق يا سيدي”.

“ذلك لم يحصل مطلقا. ولا يمكنني تذكر أي شيء منه”.

رد ببساطة:“السيدة غروس مالكة العقار الذي أقطن فيه من شاهد الفقرة التي تخصك في الجريدة. وأخبرتها أنني يجب أن أتصل بك مباشرة. وإذا اعتقدت أنك مزارع فأنا مختلف معها. وأخبرتها أن ذلك الرجل لا يعرف أي شيء عن الأثر الذي تركه في طلابه. ولهذا السبب أنا هنا”.

ثم أضاف:”والآن كلمني عن ابنك يا سيدي. هل تزوج؟”.

“كولين؟”.

“هو بعينه يا سيدي”.

“نعم هو متزوج. لماذا تريد أن تعرف؟”.

“لا يوجد سبب يا سيدي. آه. شاهدت صورة على الخزانة بالألوان. وهي صورة لعريس وعروسه.

كيف لا نحيي تألق العروس

وبجانبها زوجها الطيب البشوش؟.

ما رأيك بهذه القافية. لا يوجد شيء أفضل من الزواج كي يستقر الرجل؟. مع ذلك يا إلهي أنا شخصيا لم أتزوج. أعتقد أنني لا أمتلك الثقة بالنفس لبناء مؤسسة هامة من هذا النوع. ومن فضلك. هل يمكنني أن أعرف اسم السيدة سعيد الحظ؟”.

قال السيد بينغهام بحدة:”اسمها نورا. نورا ماسون”.

قال السيد هيني بحماس:”حسنا. حسنا. إه. نورا؟. كلنا نتذكر من هي نورا. أليس كذلك؟. كانت سيدة مليحة وفاتنة. ولكن يوجد لكلامي تتمة. كل تلك الشيطنات الطفولية يجب أن نودعها في سلة مهملات الماضي. إه، نورا ماسون؟”. ابتسم ابتسامة ناصعة وتابع:”يسعدني أن ابنك اقترن بها”.

قال السيد بينغهام وهو يرفع من صوته:”حسنا”.

“أتمنى أن تبلغهما أمنياتي وتحياتي. من كل قلبي آمل ذلك. أخبرني هل لابنك كولين ندبة على جبينه بسبب ضربة على الرأس بكرة الكريكيت؟”.

قال السيد بينغهام:”وماذا لو له ندبة؟”.

“دليل للتأكيد يا سيدي. كما هو الوضع في التراجيديا الإغريقية. نفسي في هذه الأيام قصير يا سيدي. وكنت حسير النظر. وأستحق كل ما يجري لي. والآن يا سيدي. لننس ذلك، اسمح لي أن أقول إن غايتي الحقيقية بالقدوم إلى هنا أن أقدم لك هدية تذكارية مني شخصيا وليس بالنيابة عن الآخرين. فراتبي مريح جدا. وأفكر بشيء... يا إلهي تداركنا الوقت. تجاوزت الساعة الحادية عشرة والنصف ليلا.  اسمع هذه القافية:

في الحادية عشرة ليلا

تبرز وتتشاحن أشباح ظلالا .

كنت أقول أفكر بتقديم شيء مثل...”.

قال السيد بينغهام بغضب:”حان الوقت لتنصرف يا سيدي. انصرف يا سيدي وخذ معك إيحاءاتك. لا أريد أن أسمع منك المزيد”.

قال السيد هيني بصوت مجروح:”عفوا”.

كرر:“قلت انصرف يا سيدي. شارف الوقت على منتصف الليل. فلتغادر من هنا”.

نهض السيد هيني على قدميه وقال:”ليكن. لو هذه هي حقيقة مشاعرك يا سيدي. رغبت فقط أن أبلغك تحياتي”.

قال السيد بينغهام:”لا نريد تهنئاتك. حصلنا على ما يكفي من الآخرين”.

“إذا أتمنى لكليكما ليلة طيبة وأنت على وجه الخصوص، يا سيد بينغهام، لأنه بعد أن غادرت المهنة تركت أثرا علينا ولوقت طويل”.

صاح السيد بينغهام:”اخرج يا سيدي”. وانتفخت شرايين جبينه.

تحرك السيد هيني ببطء نحو الباب، ويبدو أنه كان يرغب بالوقوف وإضافة كلام آخر، ثم بدل رأيه. وسمع من بقي في الغرفة صوت إغلاق الباب.

قال السيد بينغهام وهو يتنفس بصوت ثقيل:”علينا أن نذهب للفراش يا عزيزتي كما أعتقد”.

قالت زوجته:”طبعا يا عزيزي”. وأغلقت الباب وقالت:”هل بمقدورك إطفاء النور أم أفعل ذلك؟”.

قال السيد بينغهام:”يمكنك أن تطفئيه أنت يا عزيزتي”.

وبعد إطفاء النور همدا لبعض الوقت في الظلام يصيخان السمع لضجة ليلية خافتة كانت تأتي من السيد هيني بشكل صاخب ومقلق. 

قالت السيدة بينغهام جازمة:”لا يمكنني تذكره. ولا أعتقد أنه كان من طلاب المدرسة”.

قال السيد بينغهام وهو يتحرى الخطوط العامة لزوجته في عتمة شبه تامة:”أنت محقة يا عزيزتي. هذا صحيح يا عزيزتي”.

قالت السيدة بينغهام وهما يستلقيان في الفراش جنبا لجنب:”لدي ذاكرة حية وأنا متأكدة”.

سمع السيد بينغهام صوت البومة، كان صوتا طريا يخرج من حلق الطائر، فالتف حول نفسه، وسريعا ما غرق بالنوم. ثم أصاخت زوجته السمع لشخيره، وحدقت ببصرها المعدوم بالأشياء والأثاث المتراكم في غرفة النوم والذي جمعته بإصرار وحب خلال سنوات.

 ***

...........................

* إيان كريشتون سميث (Iain Crichton Smith  (1928 - 1998 روائي وشاعر إسكوتلاندي. كتب باللغتين الإنكليزية والغيلية. من أعماله “النهر الطويل” 1955، “أشواك وورود” 1961، “غزال فوق التلال” 1962.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم