صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: ابن خَفَاجَة الأندلسي.. شاعر التأمل

يسري عبد الغنيابن خفاجة المدّاح والراثي أقل شأناً ووزناً من ذلك الشاعر الوصَّاف والغَزِل. ابن خَفَاجَة الأندلسي هو إبراهيم بن أبي الفتح بن عبد الله بن خَفَاجَة الهواري الأندلسي، شاعر من الكتَّاب البلغاء، غلب على شعره وصف الرياض ومناظر الطبيعة، ولد سنة 450هـ، وهو من أهل جزيرة شقر من أعمال بَلَنْسِيَة شرقي الأندلس.

شقَر .. موطِن ولادته ونشأته ؛ كان لها الأثر البالغ في تكوين شخصية شاعرنا المتوفى عام 533 هجري، خصوصاً الجانب الذهني منها، وهي الموضع الذي عزز نزعته الأدبية، وأطلق العنان لخياله الشعري.

ذلك، لأن شقَر “أنزه بلاد الله وأكثرها روضةً وشجراً وماءً”، كما وصفها ياقوت الحموي.

أحد الجسور الواصلة لمدينة بلنسية حيث عاش الشاعر ابن خَفَاجَة الأندلسي -في العام 1860م

يعد ابن خفاجة من أكبر شعراء الأندلس من حيث المقدرة الفنية في وصف الطبيعة الأندلسية، فقد كانت ولادته –كما ذكرنا- في مدينة شقر، وهي رمز للسحر والجمال؛ لغزارة أشجارها وكثرة أزهارها، فتغنَّى برياحينها، وهام بأفيائها، وأصبحت طبيعة الأندلس مصدر إلهام لابن خفاجة، وليس غريباً أن يوصف ابن خفاجة بـ (جنَّان الأندلس) و(صنوبري الأندلس) فقد سارت بأشعاره الركبان، وراح أهل الأندلس يرددونها على ألسنتهم وخاصة قوله:

يَا أَهــــلَ أَندَلُــــسٍ لِلَّــهِ دَرُّكُـــمُ .. مــــاءٌ وَظِلٌّ وَأَنهارٌ وَأَشجارُ

مـا جَنَّــةُ الخُـلدِ إِلّا في دِيارِكُــــمُ .. وَلَـــو تَخَيَّرتُ هَذا كُنتُ أَختارُ

لاتَختَشوا بَعدَ ذا أَن تَدخُلوا سَقراً .. فَلَيسَ تُدخَلُ بَعدَ الجَنَّةِ النارُ

موضوعات شعر ابن خَفَاجَة الأندلسي:-

المديح:-

قصائد المديح عند ابن خفاجة يسيرة، يقول في إحدى قصائده المدحية:

مـــاذا عَلَيـــكَ وَقَد نَأَيــتَ دِيــــاراً .. لَــــو طافَ بي ذاكَ الخَيالُ فَزارا؟

وَنَظَمــتُ مِن قُبَـــلٍ بِصَفحَـــةِ جيدِهِ .. عِقــداً وَقَد لَبِسَ العِناقَ شِعارا

فيمَ التَعَلُّلُ في هَــواكَ وَقَد طَـــوى .. مِنّــي الضَنى وَبِكَ النَوى أَسرارا؟

وقال يمدح الفقيه أبا العلاء بن زهير:

شـــأوْتُ مَــطَـايَـا الصِّــبَا مَــطْلَـبَـا؛.. وطُـــلـتُ ثَنَــايَــا العُــلَــى مَــرْقَــبَـا

وأَقْبَــلــتُ صَـــدْرَ الــدُّجَــى عَــزْمَــةً.. تُــوَطِّــىءُ ظَــهْــرَ السُّــرَى مَــرْكَـبَـا

فَــجــبـتُ إلـى سُــدفَـةٍ سُـــدفَــةً.. وَخُـــضْتُ إلـى سَبسَــبٍ سَــبسَـبَـا

الغزل:-

جاء الغزل في ديوان ابن خفاجة في قصائد مستقلة، كما جاء مضمناً في قصائد أخرى كالمديح ووصف الطبيعة والحماسة والرثاء، ومن ذلك قوله:

أَما وَاِلتِفاتِ الرَّوضِ عَن أَزرَقِ النَهرِ.. وَإِشراقِ جيدِ الغُصنِ في حِليَةِ الزَّهرِ

وَقَد نَسَمَت ريحُ النُّعامى فَنَبَّهَت .. عُيونَ النَّدامى تَحتَ رَيحانَةِ الفَجرِ

وَخِــــدرِ فَتـــاةٍ قَـد طَـــرَقتُ وَإِنَّـمــــا .. أَبَحــتُ بِهِ وَكرَ الحَمامَةِ لِلصَّقرِ

وقال متغزِّلاً:

فَتَــــقَ الشَّــبـابُ بوَجنَتَــيهَـــا وردَةً .. فـي فَــرعِ إِسْحِــلَـةٍ تَمِــيدُ شَــبَابَا

أضْحَــتَ سَـوالِـفُ جِـيدِهَــا سُــوسـانَـةً.. وَتَــوَرَّدَتْ أَطْــرَافُهَــا عُنَّــابَـا

بـَيْضَـاءُ فَـاضَ الحُـــسْنُ مَـاءً فَوْقَهَـا.. وَطَــفَــا بِهِ الـدُّرُ النَّفيــسُ حَــبَابَــا

بَـيْنَ النَّحُــورِ قِــلادَةً تَحْــتَ الظَّــلا.. مِ غَمَــامَـــــةً دونَ الصَّــبَـاحِ نِــقَابَـا

نـادَمْتُــهَـا لَيـــــلاً وَقَــد طَــلَعَتْ بِــهِ.. شَمْسَـــاً وَقَــد رَقَّ الشَّــرَّابُ سَـرَابَـا

وتَــرَنَّــمَـتْ حـتَّى سَمِــعــتُ حَمَـــامَــةً.. حَتَّـى إذا حَسَـــرَتْ زَجَــرتُ غُــرَابَـا

الوصف:-

وقال واصفاً النَّعامة:

ولرُبَّ طيَّـــــــــارٍ خَفيفٍ قد جـَـــــرَى .. فشــــلا بجـــــــارٍ خلفَــه طيَّارِ

من كُــــــلِّ فاجرةِ الخُطــــا مُختالـــــةٍ .. مشيَ الفتاةِ تَجُرُّ فضــلَ إزرارِ

مخضوبةِ المِنقـــــــارِ تحسَبُ أنَّهـــا .. كَرَعَتْ على ظمإٍ بكـــأسِ عُقارِ

لا تَستقرّ بِها الأداحـــــي خشيــــــــــةً .. من ليـــــــلِ ويلٍ أو نهـــارِ بَوارِ

وقالابن خفاجة يصف الجبل

1- وأرعن طمّاح الذؤابة باذخٍ يطاول أعنان السماء بغاربِ

2-يسدُّ مهبَّ الريحِ من كلِّ وجهةٍ ويزحمُ ليلا شهبهُ بالمناكبِ

3-وقورٌ على ظهر الفلاة كأنه طوال الليالي مفكرٌ بالعواقبِ

4-يلوث عليه الغيم سود عمائمٍ لها من وميض البرق حمر ذوائبِ

5-أصختُ إليه وهو أخرس صامتٌ فحدَّثني ليل السرى بالعجائبِ

6-وقال ألا كم كنتُ ملجأ قاتلٍ وموطن أوَّاهٍ تبـتَّلَ تائبِ

7-وكم مرَّ بي من مدلجٍ ومـؤوِّبِ وقـال بظلِّي من مطيٍّ وراكبِ

8-فما كان إلا أن طوتهم يدُ الردى وطارت بهم ريح النوى والنوائبِ

9-فحتى متى أبقى ويظعنُ صاحبٌ أودِّ منه راحلا غيرَ آيبِ

10-وحتى متى أرعى الكواكب ساهرا فمن طالعٍ أخرى الليالي وغاربِ

الرثاء:-

يحتل منزلة رفيعة في ديوان ابن خفاجة، ويتصف بالصدق؛ إذ أن الأشخاص الذين قد رثاهم جمعته بهم ذكريات ومجالس جميلة، ومن ذلك قوله:

وَرُبَّ لَيـــالٍ بِالغَميــمِ أَرِقتُهــا .. لِمَرضـى جُفونٍ بِالفُراتِ نِيامِ

يَطــولُ عَلَيَّ اللَيــلُ يا أُمَّ مــالِـكٍ .. وَكُـــلُّ لَيالي الصَبِّ لَيلُ تَمامِ

وَلَم أَدرِ ما أَشجى وَأَدعى إِلى الهَوى .. أَخَفقَهُ بَرقٍ أَم غِناءُ حَمامِ

وَقَفتُ وُقوفَ الشَكِّ بَينَ قُبورِهِم .. أُعَظِّمُها مِن أَعظُمٍ وَرِجامِ

وَأَندُبُ أَشجى رَنَّةٍ مِن حَمامَـــةٍ .. وَأَبكــي وَأَقضي مِن ذِمامِ رِمامِ

وقال يرثي أم الفقيه قاضي القضاة أبي أميَّة:

فــي مِثـلِــهِ مِـنْ طــــارِقِ الأرزاءِ .. جــــادَ الجَمَــادُ بعَـبرَةٍ حَمــرَاء

مِـنْ كُـــلِّ قـانَيـةٍ تَسـيــلُ كـأنَّهــا .. شُهـبٌ تَصَـوّبُ مِـنْ فُرُوجِ سَـماءِ

تَحمَــى فتَغـرَقُ مُقـلَـةٌ في جــاحِمٍ.. مِنهَــا وَتُحــرَقُ وجـنَةٌ في مــاءِ

مَحـتِ الكَــرَى بيـنَ الجُـفـونِ وربَّمـا.. غَسَـلَـتْ سَـوادَ المُـقلَـةِ الكَـحلاءِ

لا تُــورِث الأَحشــــــاءَ إِلَّا غُـــــلَّـــــةً.. والمـــاءُ ينفَـــعُ غُـلَّـــةَ الأَحْشـــاءِ

أهــوِلْ بــهِ مِــنْ يــومِ رُزءٍ فَـــادِحٍ.. سَحَــبَ الصَّــبَاحُ بِــهِ ذُيُــولَ مَسَــاءِ

مُـتَـلاطِــمُ الأَحْشـــاءِ تَحـسِــبُ أنَّـهُ.. بَحْــرٌ طَـمَى مُـتَــلاطِــمُ الأرجَــاءِ

وَلَــئِنْ صَـبَرْتَ وصَــبرُ مِثلِــكَ حِـــسْبَـةٌ.. فَلَــقَد أَخَــذْتَ بِشِيمَــةِ النُّبَــلاءِ

قال عنه ابن بسَّام: “تصرف في فنون الإبداع كيف شاء، وأتبع دلوه الرشاء، فشعشع القول وروَّقه، ومدَّ في ميدان الإعجاز طلقه، فجاء نظامه أرق من النفس العليل، وآنق من الروض البليل، يكاد يمتزج بالروح، وترتاح إليه النفس”.

وقال عنه المقري: “أبو إسحاق ابن خفاجة كان أوحد الناس في وصف الأنهار والأزهار والرياض والحياض والرياحين والبساتين”

نلمس في ديوان ابن خفاجة الشعري؛ قيثارةً متعددة الأوتار والأصباغ والألوان تلتقي في مقطوعاتها، لا سيما الوصفية الخاطفة الأخيلة الحلوة والفكر البديعة، وتتمايس صورها بأفواف من اللَّفظ الجامع بين الرَّصانة والطرافة، بحسب ما ذكره محُقق الديوان الدكتور عمر فاروق الطبَّاع.

يُلاحظ بأن ابن خفاجة المدّاح والراثي أقل شأناً ووزناً من ذلك الشاعر الوصَّاف والغَزِل، فوصفه متعدِّد الألوان والايقاعات، وغزله رقيقٌ صادق المشاعِر والأحاسيس، ولا سيَّما حين يعانق دُنيا المرأة من خلال عالم الطبيعة في ضوء مفاتن المرأة.

هذا الجنوح إلى الأجواء الحالمة؛ وانجذاب فؤاد الشاعر إلى عوالم المرأة والطبيعة ومجالس المدام؛ هما التعليلان اللذان نفسِّر بهما اعتبار ابن خفاجة في عداد الطبقة الثانية من شُعراء الأندلس، بعد ابن زيدون خاصة، بحسب الطبَّاع.

ويقول الأخير: إن شاعرنا كان معاصراً للدولة العامرية في بلنسية في فترة ازدهارها، بيد أنه لم يتصل بملوكها أو ملوك الطوائف في مدن الأندلس الشهيرة، مثل غرناطة وقرطبة وإشبيلية.

ويبرِّر الطبَّاع جفاء ابن خفاجة مع بلاط الملوك بالقول: إن ذلك ليس مرتبطاً بعدم شهرته أو بفعل خموله الشعري، وإنما لمزاجٍ رومنسي غلب عليه وشدَّه إلى أرجاء الطبيعة التي هام بها هيام عاشق متيَّم، كان يصبو إلى لوحاتها في وداعة الربيع، كما يصبو إليها في مجامر صيفها وصقيع شتائها.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

.......................

الاسانيد:

- الأثر المشرقي في شعر ابن خفاجة الأندلسي (231).

- الأعلام (1/56).

- ديوان ابن خفاجة.

- الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة (6/541).

- مبنى قصيدة وصف الطبيعة في شعر ابن خفاجة الأندلسي دراسة تحليلية.

- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب (1/681).

- نهاية الأرب في فنون الأدب، شهاب الدين النويري.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم