صحيفة المثقف

عمرون علي: قراءة في رواية مزرعة الحيوان

عمرون علي عندما يُحَوِّلُ الْاِسْتِبْدَادُ الْاِسْتِعْبَادَ الى طَبِيعَةَ ثَانِيَةٍ

"الثورة لا تنتمي أبدا لمن يفجر شرارتها وإنما دائما لآخر من يأتي

ويسحبها إليه كالغنيمة"

ستيفان زويغ ـ كاتب نمساوي (1881ـ 1942)


مدخل عام

العدل فضيلة أخلاقية ومطلب اجتماعي، فضيلة لا تتحقق من منظور افلاطون الا بارتقاء النفس الى مراتب العفة والشجاعة والحكمة،فالعدل محصلة لتوازن النفس وهو فضيلة الروح تماما كالظلم الذي هو اخلال بتوازن النفس وهو رذيلة الروح، ومن ثنائية الحق والواجب الى فكرتي المساواة والتفاوت الى العدل كإنصاف، كانت الثورات ولازالت فعلا تراكميا و جسرا للعبور الى مملكة الحرية ولذلك يمكن القول مع كوندورسيه "إن كلمة ثورة لا تنطبق إلا على الثورات التي يكون هدفها الحرية"  والتي يجب التأسيس لها، ولذلك نجاح أي ثورة هو مشروط بوجود فكر خصب مبدع،فكر فلسفي  يؤسس للعدل و يرسم طريق الحرية،فكر تنويري ثوري تقوده النخبة وتتبناه الجماهير في لحظة تاريخية يرتفع فيها منسوب الوعي وتتحول فيها إرادة الشعوب الى إرادة فاعلة وحاسمة،ينطبق هذا على كل الثورات الكبرى  ومنها الثورة البلشفية 1917 والتي حملت شعار (الأرض،الخبز،السلام) وكان مطلبها الأول " المساواة الاجتماعية الكاملة " مبدأ نص عليه بيان الحزب الشيوعي السوفياتي،لكن دائما هناك مسافة وفجوة بين التنظير والتطبيق . "فعندما مات لينين في 21 جانفي من عام 1924، بدأ ستالين يتطلع إلى الاستئثار بالسلطة دون شريك، ووجد في البوليس السري الروسي خير مساعد للتخلص من المعارضين، والتجسس على غيرهم.. وبدأت بعد ذلك حملته على تروتسكي فاتهمه بأنه يعمل على إثارة الحرب الأهلية في روسيا ....وأنه  شديد التعلق بوسائل الذعر والإرهاب وأساليبها، ابعده إلى القسطنطينية في عام 1927، بعد طرده من الحزب الشيوعي في نفس العام، و قُتِل في مكسيكو بتحريض ستالين في يوم 20 أوت من عام 1940 " [1]

الثورة البلشفية بكل ما حملته من إنجازات وما عرفته من نكسات كانت محور جدال في الفلسفة والادب بين مؤيد ومعارض وفي هذا السياق الجدلي ظهرت رواية مزرعة الحيوان لمؤلفها جورج أورويل *والتي تبدو في منطلقها الأول محاكمة للشيوعية، ولكنها في العمق ادانة للاستبداد وللأنظمة البوليسية، هي رواية كتبت بأسلوب رمزي. عن مجموعة من حيوانات المزرعة أطاحت بمزارعها وسيدها المستبد، في محاولة لبناء وطن أفضل و نظام أعدل ولبناء حياة خيرة وسعيدة لأنفسهم، ثورة كانت مجرد حلم، استقر في ذاكرة الميجور، وهو خنزير عجوز، حلم ببناء مجتمع عادل فيه تمتلك جميع حيوانات إنجلترا مزرعتها الخاصة في ظل المساواة الكاملة." في الواقع أن دلالات رواية (مزرعة الحيوان) أخذت لذاتها تلك الدلالات السياسية و النفسية و الحسية و البؤروية الهامة، و هو ما يجعلها من أشهر الروايات في تأريخ الأدب الغربي القديم و الحديث، بالطبع تظل دوما علامة تهكمية نادرة إزاء مكابرة الأهواء و الطغيان لدى ساسة و زعماء الشعوب، ولعل أبرز ما تمتاز به أدوات الرواية، هو أسلوبها التمثيلي البارع في تجسيد عوالم من الطبقات المسحوقة من الشعوب الخانعة تحت سياط إرادة الطاغوت من أبناء جلدتها ذاتها"  [2]

الثورة فعل تراكمي

حقارة حياة العبودية والمعاناة التي هي فوق طاقة البشر، وامتهان كرامة الانسان  والشعور بتفاهة الحياة مبررات تدفع  في البداية اغلب الناس الى التعايش مع حالة البؤس والاستسلام الى حياة العبودية وتحت الضربات المتتالية لسياط الاستبداد يصبح البحث عن الخبز الهدف الوحيد لهؤلاء التعساء، ولكن قد تولد الثورة من رحم الاستبداد والمعاناة، على اعتبار انه لكل فعل رد فعل ومع ذلك لا يمكن التنبؤ بزمن حدوث الثورة،  كما لا يمكن الإمساك بتعريف واحد لها فهل هناك تحديد علمي لمفهوم الثورة؟ يجيب الدكتور عزمي بشارة عن هذا التساؤل قائلا :"   كل ما يمكن قوله ان هناك محاولات يصعب ان ترتقي الى مفهوم علمي فالكلمة دارجة في الاستخدام اليومي للغة، وحتى في الكتابة التاريخية اطلقت كتسمية على عدد كبير من الظواهر المختلفة في شدتها والتي تمتد من أي تحرك مسلح – او حتى غير مسلح – ضد نظام ما،الى التحركات التي تطرح اسقاط النظام واستبداله الامر الذي يصعب عملية تدقيق المصطلح "  ومما يزيد في صعوبة تحديد مفهوم علمي للثورة هو التباسها وتداخلها مع الفاظ قريبة منها مثل الانقلاب والإصلاح والتمرد والعصيان والانتفاضة . [3] 

هكذا لا أحد يعلم متى ستنطلق شرارة الثورة التي تنبأ بها ميجر، ولم يكن ثمة ما يحمل على الاعتقاد أنها ستتحقق خلال حياة الحيوانات التي اجتمعت واستمعت للعجوز وهو يدعوها إلى حمل وصيته وتبليغها إلى الأجيال القادمة، لكن على الرغم من ذلك، كانت الحيوانات مؤمنة أن من واجبها التحضير والإعداد للثورة" أيها الأصدقاء أنا لست عرّافا ولا أضرب الودع، وليس بوسعي استشراف المستقبل. لا أعرف في الحقيقة متى ستبدأ الثورة وكيف سيكون شكلها؟! هل ستبدأ بعد أسبوع أم في غضون شهر أو سنة؟!  لا أدري، ولكني على يقين تام، كرؤيتي لهذه القشة أمامي، أن الفرج آت لا محالة وأن النصر، طال الزمن أم قصر، سيكون لنا "

من الطبيعي ان تولد الثورة عندما يصل العنف الى اعلى درجاته، فحينما تعجز السلطة القائمة على تقديم حلول ملموسة لمعاناة ومشاكل الناس، و عندما تتسع الهوة بين طبقات المجتمع تتغير منظومة القيم ويصبح الحق مقرونا بالقوة وملازما لها، ومع انعدام كفاءة التخطيط يفقد الخطاب السياسي قدرته على الاقناع،وتزداد الأوضاع تأزما وهكذا مع اتساع دائرة الفقر والجهل يحدث التمرد كما حدث داخل مزرعة الحيوان « دخل الليل على الحيوانات من دون طعام؛ فنفدت مقاومتها، ولم تستطع على الجوع صبرا. وكان لابدّ مما ليس منه بدّ، فحطمت إحدى البقرات بقرونها باب مخزن المؤنة وتبعتها بقية الحيوانات إلى داخل المخزن وأكل كل حيوان ما استطاع أكله. وعلى أصوات الصخب الذي أثارته الحيوانات الجائعة استيقظ السيد جونز واستدعى رجاله على وجه السرعة، وخلال دقائق دخل مع أربعة منهم المخزن وأوسعوا الحيوانات ضربا بسياطهم وركلا بأحذيتهم الثقيلة كيفما اتفق. وكان ذلك أكثر مما تستطيع الحيوانات الجائعة تحمله. وبالإجماع، ومن دون تخطيط مسبق، صبت الحيوانات جام غضبها على مستعبديها، ووجد السيد جونز ورجاله فجأة أنفسهم وسط حيوانات هائجة تنطحهم وترفسهم وتعضهم من كل صوب وجانب، وخرج الوضع عن نطاق سيطرتهم. فقد أصابهم التمرد المفاجئ لحيوانات اعتادوا ضربها واثارة هلعها كلما حلا لهم، بالذعر والخوف، وسركان ما كفوا الدفاع عن أنفسهم وولوا الأدبار مطلقين سيقانهم للريح على الطريق المؤدية إلى البوابة الرئيسية، والحيوانات تجري خلفهم حتى أخرجتهم إلى الطريق العام وأوصدت البوابة خلفهم. وحينئذ ـ فقط ـ أدركت الحيوانات ما حدث: لقد قامت الثورة وكُللت بالنجاح، وطرد جونز وزوجته وأصبحت المزرعة ملكا لها.

تحدث الثورة في عالم البشر عندما تتوافر شروطها، في لحظة تكون فيها إرادة الحياة اقوى من الرغبة في الاستسلام للموت، تحدث عندما يقرر الشعب تحديد مصيره بنفسه « الثورة، هي تلك اللحظة التاريخية التي تتحدى فيها إرادة الشعب الحرة نظام الهيمنة والسلطة، وأدوات السيطرة والتسلط، تلك اللحظة التي لا يبقى فيها الشعب مجازًا على ألسنة المثقفين، ورمزًا في أذهان نقاد الأنظمة، بل يصبح واقعًا فعليًا عينيًا» [4]

الوصايا السبع

أوهام الثورة وكنزها المفقود

نجاح الثورة مرهون بترسيخ مبادئها وتحويلها الى واقع ملموس من هنا وضعت الحيوانات دستورها الجديد والذي نص على ما يلي :

1 ـ كل من يمشي على قدمين فهو عدو.

2 ـ كل من يمشي على أربع أقدام أو له أجنحه هو صديق.

3 ـ يحظر على الحيوان ارتداء الملابس.

4 ـ يحظر على الحيوان النوم على سرير.

5 ـ يحظر على الحيوان تعاطي الخمر.

6 ـ لا يجوز لحيوان قتل حيوان آخر.

7 ـ كل الحيوانات متساوية في الحقوق والواجبات.

من الطبيعي جدا مع انتصار الثورة ان يشعر الناس بحالة الابتهاج بعد تحررهم من الخوف والاستعباد، وبانتصار الثورة تظهر شعارات جديدة و أيضا رجال يحتكرون السلطة لقد  " كان من الطبيعي أن تضطلع الخنازير بمهمة توعية وتدريس بقية الحيوانات وتنظيمها. فهي، وباعتراف الجميع، أكثرها ذكاءً. وكان من بينها خنزيران يافعان لهما شأن كبير: الأول يدعى سنوبول (تروتسكي) والآخر اسمه نابولين (ستالين). كان نابولين ضخم الجثة وقبيح الطلعة.. لا يجيد الكلام، ولكنه يشتهر بطريقته "الميكيافلية" في الوصول لما يريد، فالغاية عنده دائما تبرر الوسيلة. أما سنوبول فكان خنزيرا مفعما بالحيوية وأكثر نشاطا عن نابولين، وكان طليق اللسان وسريع البديهة، وله قدرة على الابتكار، ولكن شخصيته كانت أقل عمقا من نابولين.

ومن بين الخنازير التي كانت تنتظر ذبحها واحد اسمه سكويلر... سمين الجسد وذو وجه مدور وعينين لامعتين، وكان رشيق الحركة وحاد الصوت. كان سكويلر متحدثا بارعا له قدرة رهيبة على الحوار والإقناع.. مما حدا بالحيوانات الأخرى الى القول أن باستطاعة " سكويلر" تحويل الأسود إلى ابيض!

ومع ظهور الطبقة الحاكمة الجديدة يتم التخطيط   لسرقة ميراث الثورة، وعلى الرغم من أن القرارات كانت تطرح للنقاش العام خلال جلسة الأحد، إلا أن الخنازير أعطت لنفسها الحق في اتخاذ ما تراه مناسبا من القرارات بعد سماع وجهات نظر الحيوانات الأخرى. وكان سنوبول ونابولين أكثر المجتمعين حضورا في تناول المسائل المطروحة وفي ابداء ووجهات نظرهما، لكن الملاحظ أنه قلما يوافق أحدهما على اقتراح يطرحه الآخر. وكعادتها في كل لقاء، تنهي الحيوانات اجتماعها بإنشاد "حيوانات إنجلترا"

في اغلب الأحيان يتم الاستلاء على الثورة  والعودة الى الحالة الأولى، من هنا ارتبط استعمال كلمة ثورة في الفكر اللاتيني بالدوران في حلقة دائرية متكررة ، حيث كان العالم الفلكي بوليبيوس هو أول من وضع هذا المصطلح (revolution) وقد اكتسب هذا المصطلح أهميته المتزايدة  عندما استخدمه العالم نيكولاس كوبرنيكوس وأطلقه علي الحركة الاعتيادية الدائرية للنجوم حول الشمس .والواقع ان الاستيلاء على ميراث الثورة يتم في الغالب من خلال : 

01- التأسيس لمجتمع مدني وهمي: لقد شغل سنوبول نفسه بتنظيم الحيوانات الأخرى في مجموعات أطلق عليها "اللجان الحيوانية"، فقد شَكَّلَ لجنة إنتاج البيض للدواجن، وجمعية الذيول النظيفة للأبقار، وجمعية تعليم الحيوانات البرية، وجمعيات أخرى مختلفة الأنشطة إلى جانب إدارة مدرسة لتعليم القراءة والكتابة.

02- السيطرة على الجهاز الإداري والعسكري ومعظم المؤسسات الحيوية  فقد اتخذت الخنازير من غرفة العدة مقراً للقيادة، وأخذت تتدرب مساءً على حرف مثل الحدادة والنجارة وبعض المهارات الأخرى الضرورية.. مستعينة بكتب عثرت عليه في بيت المزرعة.

03- الدعاية الإعلامية الزائفة :  فقد اشتهر سنوبول بخطبه الرائعة في الاجتماعات، وكانت تلك وسيلته للحصول على الأصوات، في حين عُرف عن نابولين قوة شخصيته لكسب أصوات المقترعين، وكان يحظى بشعبية واسعة بين الخراف، التي أخذت مؤخرا تهتف بـ"الخير في ذوات السيقان الأربعة والشر في ذوات الساقين.

04- استخدام العنف وتخوين المعارضة: مع اتساع دائرة  الخلاف بين  سنوبول ونابولين وعندما تأكد نابولين أن الهزيمة ستكون من نصيبه، وقف وعيناه يتطاير منهما الشرر وأطلق صيحة عالية لم يسمع لها مثيل من قبل.. ارتفع على إثرها خارج الحظيرة نباح مخيف، واقتحمت الحظيرة تسعة كلاب ضخمة تطوق أعناقها ياقات نحاسية، واندفعت مباشرة نحو سنوبول الذي تفادى قبضة أسنانها في الوقت المناسب. وتدافعت الحيوانات الخائفة الى البوابة لمشاهدة المطاردة: كان سنوبول يركض عبر المرعى المرتفع الطويل المؤدي إلى الطريق العام بأقصى سرعة ممكنة لخنزير في مثل سنه، وكانت الكلاب تجري خلفه، وفجأة انزلقت قدمه فسقط، وتأكد للحيوانات التي كانت تتابع المطاردة بعيون ملؤها الدهشة أن الكلاب انقضت عليه، لكنه سرعان ما نهض ليواصل الهرب، وبذل في اللحظة الأخيرة جهدا مضاعفا لإبعاد الكلاب عن ذيله. وحين سنحت له الفرصة لم يدخر جهدا في الانسلال داخل حفرة تحت سياج المزرعة. اختفى سنوبول ولم يشاهد له أثر منذ ذلك الوقت. اعتلى نابولين المنصة ووقفت خلفه الكلاب التسعة، وأعلن أنه لا يرى مبرراً لمواصلة عقد اجتماعات يوم الأحد، وقال إنها مجرد مضيعة للوقت. أما المسائل المتعلقة بعمل المزرعة فستبت في أمرها لجنة مختصة من الخنازير وسيضطلع هو شخصيا برئاستها ولكن من دون مناقشتها مع الحيوانات الأخرى، وستستمر مراسيم رفع العلم وإنشاد "حيوانات إنجلترا"، وستُعطى التعليمات بشأن العمل كالعادة.

لم يتعرَّف أحد في البداية على هذه المخلوقات الغريبة الشرسة التي كادت تقضي على سنوبول، ولكن سرعان ما تضح الأمر، فبعد أن هدأَ روعها تذكرت الحيوانات الجِرَاء التي أخذها نابولين من أحضان أمهاتها وتولى رعايتها بعيدا عن الأنظار! وعلى الرغم من أن نموها لم يكتمل، إلا أن أجسامها كانت ضخمة وأشكالها متوحشة كالذئاب، ولوحظ أنها كانت تهز ذيولها لنابولين مثلما كانت الكلاب الأخرى تفعل مع جونز.

05- سياسة التخويف والترهيب: على الرغم من شدة الصدمة التي خلفها طرد سنوبول في نفوس الحيوانات، إلا أن إلغاء اجتماع أيام الأحد أصاب الحيوانات بالهلع، وعندما أراد بعضها الاعتراض على القرار، لم تجد الحجة المناسبة، حتى بوكسر أبدى تذمره، وحاول جاهدا حشد أفكاره غير أن عقله لم يسعفه، ولم يستطع في النهاية التعبير عن وجهة نظره، فلاذ بالصمت.

المثقف الانتهازي وفزاعة الإرهاب

كلاب حراسة الاستبداد

تزيف الوعي يعتمد في الغالب على خلق أوهام ومغالطات تسمح بالتلاعب بعقول الجماهير ومنها خلق قضايا ومشكلات فرعية وغرس روح اليأس وتعطيل إرادة الافراد والتخويف من العودة الى حالة الفوضى او الإرهاب وانه ليس في الامكان أحسن مما كان ومقارنة الحالة التي يعيشها المجتمع بحالات أخرى من باب اننا نعيش أفضل من غيرنا.

لقد أثار تشومسكي هذه النقطة ؛ حين أصدر كتابه “صناعة الرضا الجماهيري: الاقتصادي السياسي للإعلام”، عام 1988، وفيه يقول: إنّه “بدءاً من الثقافة الجماهيرية، ووصولاً إلى منظومة البروباغندا الإعلامية، هنالك ضغط مستمر على المواطنين، يشعرهم بأنّهم لا حول لهم ولا قوة، وليس بمقدورهم فعل شيء سوى التصديق والموافقة على القرارات التي تمّ اتخاذها من قبل  السلطة ويرى تشومسكي ان الاعلام أداة المثقفين  المعاصرين، الذين يخدمون السلطة، وأنّ أغلبية النخب الثقافية ينحصر دورها في تبرير

مواقف حكومات بلادها . في مزرعة الحيوان ا ستمد الاعلام الفاسد مرجعيته من الولاء المطلق للسلطة (حالة الخنزير سكويلر) ومن الجمعيات والجماعات التي يسهل ترويضها واغراؤها (حالة الخراف) الى توظيف الخطاب الديني (الغراب موسيس)

لقد لاحظت بعض الحيوانات، خلال الصيف، اختفاء حليب البقر من دون أسباب واضحة. لم يبدِ أحد اهتماما بالأمر، لكن اتضح لاحقا أن الحليب كان يخلط مع طعام الخنازير. وعندما بدأ موسم قطف التفاح، افترضت الحيوانات أنه سوف يُقَسم بينها بالتساوي، بيد أن الأوامر صدرت بجمع التفاح وتخزينه في غرفة العدة بعد أن استأثرت به الخنازير لنفسها. وعلى الرغم من تذمر الحيوانات الاخرى من ذلك، إلا أن الخنازير لم تعرْ ذلك اهتماما.. لاسيما أنها وَحَّدت موقفها في تلك القضية، حتى أن سنوبول ونابولين ـ اللذين قلما اتفقا ـ لم يختلفا بشأن ذلك الإجراء، وأبديا موقفا موحدا منه، وأُرسل سكويلر لإبداء الإيضاحات الضرورية وإزالة اللبس!

ـ أيها رفاق.

صرخ سكويلر، وهو يقفز من مكان لآخر. وقال:

ـ آمل ألا يظن أحدكم أن ما قمنا به كان بدافع حب الذات والترفع! فالحقيقة أن من بيننا نحن معشر الخنازير من يكره التفاح والحليب، وأنا شخصيا أحد هؤلاء. ولكن غايتنا الوحيدة هي الحفاظ على صحتنا، فقد أثبت العلماء أن التفاح والحليب يحتويان على مواد ضرورية للغاية لحياة الخنازير.

وأضاف قائلا:

ـ إن الخنازير، كما تعلمون، تضطلع بالمهام العقلية في المزرعة، فإدارة العمل وتنظيمه يعتمدان علينا.. نحن نسهر الليالي ولا ندخر جهدا من أجل راحتكم، لذلك السبب يا رفاق  نشرب الحليب ونأكل التفاح.

وسأل بصوت هادئ، بعد ان تَفَحصَّ وجوه الحيوانات أمامه.. يبحث بعينيه اللامعتين عن مدى تأثير حديثه عليها:

ـ هل تعلمون، يا رفاق، ماذا سيحل بنا إن نحن تقاعسنا عن أداء مهامنا؟

وترك السؤال معلقا لبرهة قبل ان يجيب بصوت أعلى واكثر قوة:

ـ سيعود جونز.. أجل سيعود جونز.

ثم استدرك بصوت رخيم أراد به تجسيد حجم الكارثة التي ستحل بهم لو عجزت الخنازير عن القيام بواجبات القيادة:

ـ وطبعا لا أحد منكم يريد عودة جونز.. أليس كذلك؟!

في منتصف الصيف، ظهر في المزرعة فجأة الغراب موسيس بعد غياب طال بضع سنوات. لم يتغير حال الغراب تماماً، فهو لا يزال كسولا، ويتحدث بنفس الحماس السابق عن جبل حلوى السكر. كان يجثم فوق غطن شجرة فاردا جناحيه الأسودين ويتحدث لكل أذن تسمع: "هناك يا رفاق". يقول ذلك بصوت جهوري، وهو يشير إلى السماء بمنقاره الكبير:

ـ هناك على الجانب الآخر من تلك السحب السوداء التي يمكنكم رؤيتها يقع جبل حلوى السكر. في تلك البلاد السعيدة ينبغي لنا نحن الحيوانات المعذبة أن ننشد الخلود السرمدي من معاناة العمل! 

وأدعى الغراب أنه ذهب الى هناك وراء بينما كان محلقا في العلى قطع السكر التي تنمو على أسياج الحقول الخضراء. "أفليس من الحق والعدل وجود حياة أخرى أفضل في مكان ما من هذا العالم؟" هكذا كانت بعض الحيوانات تتساءل وهي تصغي اليه وتصدق حديثه، وتبرر اقتناعها بصواب أفكاره. فحياتها الآن ليست سوى سلسلة من الجوع والشقاء.

بيد أن مجموعة من الخنازير كانت أكثر وضوحا في التعبير عن انزعاجها، حين استهجنت أربعة منها يافعة القرار، فتقدمت نحو المنصة وأعلنت بصوت عال معارضتها لإلغاء الاجتماع، ولكن الكلاب المحيطة بنابولين أطلقت فجأة زمجرة توعد أرغمت الخنازير المناوئة على السكوت والعودة ذليلة إلى أماكنها. وبعد ذلك ارتفعت أصوات الخراف تهتف "الخير في ذوات السيقان الأربعة والشر في ذوات الساقين" لمدة ربع ساعة حتى انفض الاجتماع.

من "مزرعة الحيوان" الى "ضيعة الخنازير"

"كل الحيوانات سواسية لكن بعض الحيوانات أكثر سواسية من غيرها"

عندما تفشل الثورة يعود المجتمع الى حالة الاستبداد ويتم تعظيم القائد الجديد واليه تنسب جميع الإنجازات حتى ولو كانت على الورق  ويعود المجتمع من جديد الى حالته الحميرية، لقد أصبح مألوفاً أن تعزى الإنجازات كافة وكل ضربة حظ إلى نابولين. فقد تسمع دجاجة تتحدث لدجاجة أخرى قائلة: "لقد وضعت بفضل إرشادات قائدنا الرفيق نابولين خمس بيضات في ستة أيام" أو بقرتين تتبادلان الحديث وهما تشربان من البركة فتقول إحداهما للأخرى:" شكرا للرفيق نابولين ما أعذب هذا الماء".

نابولين صار الآن خنزيراً ناضجاً ومكتمل المدارك يزن حوالي 335 رطلاً، واكتنز سكويلر شحما ولحما وغاصت عيناه في وجهه المنتفخ ولم يعد يستطيع الرؤية بهما إلا بصعوبة! وحده بنجامين الحمار لم يتغير كثيراً غير أن الشيبُ لَوَّح شعر منخاريه، وأصبح  أكثر ميلا إلى الصمت منذ أن توفى صديقه بوكسر.

بدت المزرعة أكثر غِنَى غير أن الرخاء وترف العيش لم يصب حياة الحيوانات باستثناء الخنازير والكلاب. ولعل ذلك يعود جزئياً إلى كثرة عددها وليس لأن هذه المخلوقات لا تعمل على غرار غيرها من الحيوانات. فهناك من أعمال إدارة المزرعة والإشراف عليها وتنظيمها ما لا نهاية له، حسب توضيحات سكويلر المتكررة، وأكثرها ذات طبيعة يتعذر على الحيوانات فهمها.

وبالنسبة للحيوانات الأخرى، لم يطرأ على حياتها تتغير، حسب علمها، عما كانت عليه دائماً. ثم أنها ما تزال تعاني الجوع وتنام على القش وتشرب من البركة وتقاسي البرد شتاءا وأذى الذباب صيفاً.

أما من تبقى على قيد الحياة من الحيوانات، التي شاركت في الثورة، فكانت حاجتها لاستعادة صور الأيام الأولى للثورة َتَشحَذُ ذاكرتها الضعيفة، وكانت تحاول قدر ما تتيح لها قدرتها الذهنية معرفة ما إذا كانت حياتها السابقة أفضل أو أسْوَأ عما هي عليه الآن. لكنها لا تستطيع تذكر شيء، فليس لديها ما تقارن به مستوى معيشتها الحالية سوى قائمة أرقام سكويلر التي تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن حياتها تتحسن شيئا فشيئا على الصُعُد كافة، وهي الآن أفضل كثيرا عنما كانت عليه!

وحده بنجامين العجوز يدعي أنه يتذكر كل صغيرة وكبيرة في حياته الطويلة، وهو لا سواه يعلم أن الحياة لم تكن قط ولن تغدو أبدا أفضل أو أسوأ: إنها سلسلة من الجوع والقسوة وخيبات الأمل، بحسب قوله: إنه قانون الحياة السرمـدي.

ومع ذلك فإن الحيوانات، سواء كبيرة السن.. تلك التي شاركت في الثورة أم صغارها أو تلك التي قدمت من مزارع تبعد عشرة أو عشرين ميلا، لم تفقد الأمل الذي طالما حلمت به. والمهم أنها لم تتخلْ قط، ولو للحظة، عن إحساسها بالفخر لانتسابها لمزرعة الحيوان: المزرعة الوحيدة في البلاد كلها.. في كامل تراب إنجلترا التي تملكها الحيوانات وتدير شؤونها.

وفي أمسية بهية من أمسيات الريف الانجليزي، وفي أعقاب عودة الحيوانات من العمل إلى مباني المزرعة، سمعت الحيوانات صهيل فرس خائفة؛ فتوقفت عن المسير، والتفت تبحث عن مصدر الصوت الذي ازدادت حدته، فانطلقت عائدة إلى الساحة حيث كانت تقف كلوفر وقد أخذها الذهول وتملكها رعب شديد، وشاهدت الحيوانات ما أثار الهلع في نفس كلوفر: خنزيراً يمشي على قائمتيه الخلفيتين. أجل: إنه سكويلر.. كان يمشي على نحو أخرق، ولكن بتوازن تام على الرغم من أنه لم يعتد الوقوف بجسده الضخم على ذلك الوضع.

وبعد ذلك بقليل خرج من بيت المزرعة رتل طويل من الخنازير تمشي جميعا على أرجلها الخلفية.. بعضها أتقن المشي أفضل من بعضها الآخر، واستطاعت كلها أن تكمل دورة واحدة حول الساحة بنجاح. وعلى نباح الكلاب الهادر وصوت الديك المطري الحاد، ظهر نابولين بنفسه: منتصب القامة.. وقد رفع فنطيسه عاليا.. يمشي الهوينى بِتُؤَدة ورفق ويمسك سوطاً بين أصابع حافريه الأمامية، ويرمي الحيوانات المحتارة بنظرات متعجرفة، وكلابه تسير من حوله.

خيم صمت مميت على المكان، وتدافعت الحيوانات بعضها الى جنب البعض الآخر خوفا ودهشة، وأخذت تراقب رتل الخنازير الطويل يسير سيرا بطيئا حول الساحة، وقد بدا لها وكأن العالم برمته انقلب رأسا على عقب!

وحين خفت الدهشة، وتلاشى وقع ما رأته، وحانت اللحظة التي آن للحيوانات أن تبدي فيها بعض عبارات الرفض والاعتراض، على الرغم من الفزع الذي كانت تثيره زمجرة الكلاب المحيطة بنابولين، والاستكانة التي تأصلت في نفوسها طوال السنوات: فلا تذمر ولا انتقاد مهما حدث، في تلك اللحظة تماماً، ارتفع ثُغَاءُ الخراف مدويا في سماء المزرعة: "أربع أقدام جيدة، قدمان أفضل!". استمرت الخراف تغثوا خمس دقائق بلا توقف، وعندما هدأت، كانت فرصة التعبير عن الرفض قد فاتت، بعد أن غدت الخنازير داخل بيت المزرعة.

الخاتمة

رواية مزرعة الحيوان تظهر لنا الجانب المؤلم لحياة الحيوانات البائسة، في ظل العبودية روتين يومي واستعباد لا ينتهي، استعباد يتغذى من الخوف و يستمد مشروعيته من الأكاذيب والخداع والغباء، ويبدو  اليوم في مجتمعاتنا العربية أن نعيش نفس المأساة. حياتنا تبدو بلا قيمة والخوف يسكننا ليس فقط من الاخر المستبد بل وأيضا من التحرر منه، تنطبق هذه الرواية على الأنظمة الشيوعية كما تنطبق على معظم الدول الرأسمالية،  والاستبداد نلمسه اليوم  في المجتمعات الدينية المتطرفة، كما يظهر في المجتمعات العلمانية.  وأيضا في الدول التي تحكم باسم المؤسسة العسكرية. ان هذه الرواية كما قال احد الكتاب  تعليقً على البشرية وأنانيتنا وحكومتنا المستبدة، رواية تدفعنا الى التساؤل باستمرار. هل سأكون غبيًا مثل الخروف، هل سأمتلك حكمة الحمار بنجامين: وهو أكبر حيوانات المزرعة سناً.ً وأكثرها عصبية.. عابس الوجه.. لا يضحك إلا فيما ندر. وإذا سئل: لماذا؟  كان يرد دائما بنفس الجواب أم الولاء الذي لا يتزعزع لخيول العمل؟ آمل ألا أكون خنزيرًا مستبدا أبدًا!

 

عمرون علي أستاذ الفلسفة

المسيلة – الجزائر-

...........................

الهوامش

[1] حيدر عبد الرضا. قراءة جديدة في رواية (مزرعة الحيوان) للكاتب جورج أورويل.

[2] ستالين. فرج جبران. مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة. 2015.ص 53.52

[3] عزمي بشارة . في الثورة والقابلية للثورة .ص 13

[4] نفس المرجع

* ولد جورج أورويل في الهند عام 1903، انتقلت أسرته إلى إنجلترا عام 1907 والتحق بكلية إيتون عام 1917. غادر بريطانيا عام 1921 لينضم إلى سلك الشرطة الإمبراطورية الهندية في بورما، لكن سرعان ما إستقال امتعاضا من سياسة ممثلي حكومته في الشرق. عاد إلى بريطانيا بعد ذلك حيث عاش سنوات عدة فقيرا بين الصعاليك والمتشردين وسجل مشاهداته عن تلك التجربة في روايته "صعاليك في باريس ولندن".

وفي نهاية عام 1936 ذهب إلى أسبانيا للقتال إلى جانب الجمهوريين ضد قوات الدكتاتور فرانكو فأصيب بجراح. أصيب بمرض السل وتوفي عام 1950 عن عمر يناهز السادسة والأربعين وهو في أوج عطائه.

صدر له كتب عدة، ولكن شهرته ذاعت بعد نشر رواية "مزرعة الحيوان" التي رفضت بعض دور النشر إصدارها في البداية، ونفد منها، خلال الأسابيع الأولى من توزيعها، مليون نسخة.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم