صحيفة المثقف

نورالدين حنيف: في الكذب السياسي

نور الدين حنيفقديماً، تحدّث أفلاطون عن الكذب النبيل، وفولتير عن قيمة الكذب، ومكيافيلى رسم للتاريخ صورة الأمير الذي يكرس ثقافة الحيلة والخديعة والقوة لينتصر في المجال السياسي، وآخرون عديدون اعتقدوا ونظّروا لهذا الاعتقاد أن السياسة مجال كذب لا مجال أخلاق، وأن الفعل السياسي لا ينبغي أن يكون مجال عقل يضبط حركية الكائنات السياسية ويقودها إلى الخير والحق والجمال، بقدر ما هو مجال لتكريس قيم أخرى ترتبط أساسا بالمصلحة العامّة وبالنفعية.

عندما يتلبس السلوك أو الكلام لبوس الإيهام والخديعة والتضليل عن الحقيقة فهو الكذب لا مراء. وفي هذا السياق لا يُشترطُ أن يكون الكذب صريحاً موصوفا بالاسم ذاته حتى نسِمه بذلك مادام صاحبه يقبض على قضية الآخر داخل نية المخاتلة والنصب والتزوير: ونحن هنا لا ندين النية في ذاتها وفي إقامتها داخل الذهن، ولكننا ندين النية في تفعيلها وترجمتها إلى سلوك لا يقف عند حدود الافتراض، بل يتجاوزه إلى المسّ بالآخر في حقوقه. وفي هذا المنحى، يتجاوز التفكيرُ كلَّ الخطوط الحمراء التي توجب إدانة الكاذب، وقبل ذلك تجريم فعله مؤسسياً قبل أن يتم تجريمه أخلاقيا.

أما الكذب السياسي فهو لعمري أشد أنواع الكذب تجاوزا لهذه الخطوط الحمراء، لأنه يفِد إلينا من رحم السلطة التي من المفروض أن تكون بنية فوقية وتحتية منسجمة في ذاتها عبر تجلياتها الفعلية في واقع الناس، لأنها ترجمةٌ قانونية وتنفيذية لحقوقهم وواجباتهم. لكنها عندما تنجب مثل هذا الابن العاق الموسوم بالكذب السياسي، فإنها تفسح المجال أبواباً مُشرعة على احتمال الفساد وانتشاره وبالتالي على طغيانه حتى يتحول إلى أمر واقع ينتقل فيه الكذب من حالة التخفي إلى حالة الظهور المدعوم بشرعية الحضور.

وقد يبدو الأمر في أول تجلياته بسيطا على اعتبار أنه كذب أبيض لا يتجاوز في ضرره المساحة الذاتية، لكنه في عمق التحليل تغريضٌ يفتح المجالَ واسعاً لتكريس ثقافة التضليل في قمة ضررها لأنها تتسرب عبر شقوق تبريرية تمتطي صهوات المصلحة العامة، وبالتالي تصنع لذاتها مصداقية الحضور وبالتالي مصداقية التعاطي وفي آخر المطاف تتلبس لبوس البديل العصري الذي يرتفع بالكذب إلى الحظوة. هكذا يتحول المسار من فعل الإدانة لهذا السلوك إلى فعل الإشادة... والنتيجة الحتمية أنْ تتوارى خلف الضباب صيحات التجريم، وتعلو على السطح وتطفو قشرات سميكة من الوجود العضوي للكذب السياسي داخل رحم السلطة والمجتمع.

تعترف هذه المرحلة الناجحة في تحجيم الكذب السياسي وعملقته بفضل البنيات الفوقية المنافحة عن حضور هذا النوع من الكذب، عبر آليات الدفع به إلى قمّة انتشاره بشرعية متماسكة. ونقصد بذلك، خروج الثقافة العالمة إلى الذود عنه والكتابة والتشهير والإعلام فكراً وإبداعاً عبر المشّائين الذين تختلف أشكال صيحاتهم وأضربها، لكنها تتفق في غرابة مُغرِضة حول مبدأ واحد - إن جازت تسميته بالمبدأ - هو التسويغ المأجور، سواء تعلق الأجر بالحاجة المادية، أو تعلق بإشباع فكرة نزوعية تميل إلى ضرب فكرة أخرى مناقضة لها مصداقية التاريخ. وخير مثال لذلك ضرب فكرة الأخلاق لتمييع الحياة السياسية العامة كي تتقلص أدوار الدين والقيم في تشكيل المشهد، ولترك الحبل على الغارب كيْ تصول باقي التقليعات المُدّعية وتجول ما شاء لها الصول ، وما شاء لها الجولان.

تتبلور العلاقة بين الكذب السياسي وبين الثقافة العالمة بشكل كبير وسريع، عبر السيولة في التأليف لإذاعة مثل هذا الفكر المتلبّس وإشاعته... وتجتهد هذه الثقافة في صناعة الجهاز المفاهيمي الخاص بهذا المولود الواهم بالشرعية، في نظرها القاصر، بل إنها قد تربو على ذلك إلى بناء نظرية في التطبيل للكذب السياسي تطبيلا تبريريا لا تلمس العامّة من الناس فراغ تطبيله، وتلمس بدل ذلك، تعاليه وبهرجته وتعجيزه لفكرهم البسيط الموسوم بالثقة العمياء في المثقف، في تخريجاته الموصوفة في تمثلاتهم الشعبية بالقوة والتأثير. أما في حالٍ آخر يرتبط بقدرة هذه النظرية على مجادلة النقيض في الثقافة فحدّث ولا حرج، إذ تنبري إلى الخروج أشكال زئبقية من السفسطة المبنية على قوة الاستدلال والبرهنة حتى ليصاب المخاطب الذي لا يُعمل فكره عميقا، بالحيرة والشك في المعطيات التي بين يديه، وعوض أن يتشبث بطرحه القائم يستسلم لحالة من التسليم الانهزامي بالأمر الواقع، وفي أشدّ الحالات الموضوعية يخرج من الجدال، إرجاءً للفكرة حتى يستوي عنده الدليل والبرهان. خاصة وأنّ هذا المخاطب يرى في مجادلة هذه الثقافة المدافعة عن الكذب السياسي ثقافة قادرة على التحول من شكل الاِدّعاء إلى أشكال غريبة من القناعة، بمعنى أننا حين نجادل نقيضاً نعلمُ، ويعلم هو أيضا أنه على باطل، تسهل المحاورة ويسهل معها الإفحام... لكننا عندما نكتشف أن المسألة تتعلق عند المُحاور بقناعة جذرية، تصبح المسألة شديدة المفارقة، خاصة وأن الباطل عنده يتحول إلى حق، والنشاز إلى شرعية، والعبور إلى قرار يستحيل أن تقنع صاحب هذه الترسانة الفَقيهة بالنقيض، وبالعدول عمّا اكتسبه في سيرورته الفكرية البعيدة في مديات أهدافها وغاياتها وأجنداتها العملية الداخلة لا في سلوك عابر ومُغْرِض، وإنما في مشروع فكري كوني يمسخ مفاهيم الأخلاق والشرعية والعدالة والديمقراطية ويستبدلها بأشكال أخرى من الأخلاق العملية والشرعية الواقعية والعدالة الوضعية والديمقراطية المرنة وهلمّ جرا من أضرب التقليعات الرّنانة والمُقنعة في تمويهٍ غير بائن.

أعتبر الكائن السياسي أمهر الكائنات في توظيف حقول الخطابة والجدل والبلاغة واستعمال أدواتها وآلياتها لدعم أطروحاته في التمويه والخديعة للتأثير في الجماهير وقلب مفاهيمها حول كثير من البديهيات المرسومة في أذهانها باعتبارِها معطيات غير قابلة للتعديل. ومنها معطى الواقع الذي يحوّله السياسي الكاذب في ذهنية المتلقي من حقيقة معيشة إلى استعارة مرنة قابلة للتأويل. بل وقابلة لكثير من التأويل المفتوح على مصاريع غير مشروطة.

و تبلغ مهارات السياسي الكاذب في أبرز تجلياتها وهي تحول الواقع من موضوع محايد في نظر العامّة إلى موضوع مسؤول عن وضعيات هذه العامّة المزرية، وبالتالي تنشأ الإدانة وتتنامى، وتعلو وتتدحرج سريعةَ الحركة وهي تكبر في سيرورتها المُغرِضة مثل كرة الثلج لتصبح إدانةً مشروعة. في هذه المرحلة بالذات تتطور، بموازاةٍ غريبة، نفسياتُ العامّة ويكبر فيها صوت الإدانة ويعلو على كل الأصوات، وتنشأ لديها حالاتٌ شديدة بالرغبة في محاسبة هذا الواقع. في هذه المرحلة يكون التأزيم موضوعياً لكنه يتحول بفعل تدخل السياسي الكاذب إلى تأزيمٍ ذاتيٍّ لا ينفع في اقتلاعه الحل المستقيم اللائذ بالقيم الإنسانية النبيلة التي يضعها هذا السياسي الكاذب موضع اتهامٍ ويزجّ بها في أقفاص الإدانة، على اعتبار أنها عمّرتْ كثيرا في التاريخ ولم تجلب للناس سعادة حقّة، ولم تقضِ على أشكال التقهقر في واقعهم، ولم تجلب لهم إلا تأخيراً لمشاريعهم الحياتية وتعطيلا.

هكذا، يعلو صوت العاطفة والاندفاع على صوت العقل والتحليل، لأن السياسي الكاذب يتدخل في وقت الذروة عندما يصاب العامّة باليأس، ولا يرون في الأفق إلا من يلوّح لهم بالانفراج داخل خطابات مُلمّعة تُحدِّث فيهم رغباتهم في تجاوز وضعيات القهر، حتّى ولو تعلّق الأمر بقشّة في خضم اليمّ. أما عن الصيحات الجادّة والعامرة بالحق فقد برّزها السياسي الكاذب على أنها مجرّد أوهام تاريخية وأساطير دينية أكل عليها الدهر وشرب، وبالتالي، يذهب السياسي مذهب النقر على صوت الحداثة العالمية لأنها في منظوره المُغرض أشد الخطابات إقناعاً بحكم التصاقها بتجارب دولية ناجحة على أرضية الواقع، ولا يحول بيننا وبينها إلا فارق بسيط هو السعي إلى استجلابها واستنباتها في بيئاتنا العطشى للديمقراطية وللعدالة الاجتماعية.

إن عملية التطويق للعقل (الثالث) انسجاما مع التصنيف الأيديولوجي للعالم إلى عالم متقدم وعالم ثالث، هي عملية ماكرة بذكاء نوعي. تُظهرُ الحقيقةَ في جزئها الخادم لأجندات هذا السياسي المسلّح إما بثقافة مهارية نوعية عالمة، أو بديماغوجية بديلة للثقافة العالمة تضرب على أوتار الشعبوية وتنقر على الوجدان الفردي والجمعي لإنسان هذا العالم الثالث. يمارس هذا التطويق قبضاً بيدٍ من حرير على أعناق المخاطبين بهذا الخطاب القائم على فعل التزيين المقنّع والبهرجة المُلَمَّعة والتسويف الجميل والوعد المعسول واللغة المنسابة... في إطار شبكة من أنماط المكر السياسي القادر على ردم المسافات بين الكائن والممكن. والقادر على بناء صرحٍ مارد من الحقيقة الذاتية بديلا عن الحقيقة الموضوعية. وهي حقيقة متعددة وغزيرة لأنها مرتبطة بتأويل العامّة لهذه الحقيقة، كل من زاوية حاجته وحجم هذه الحاجة. وهي في آخر المطاف حقيقة معسولة وواعدة، بغضّ النظر عن هشاشتها وانتهاء صلاحيتها بانتهاء مسلسل الانتخابات أو عمر الولايات الماسكة بزمام السلطة.

و الغريب في الأمر أن ذاكرة المواطن في العالم الثالث ذاكرة قصيرة، غالبا ما تنسى حجم الكذب الذي مورس عليها في تاريخ سابق، ولا تراه في تجربة جديدة من الكذب السياسي... أو أن هذا المواطن لا يستفيد من التاريخ، ويحب، في مازوشية غريبة، أنْ يُكْذَبَ عليه، أو أنه، يُشبهُ كما وردَ في لسان الثقافة الشعبية المغربية ذلكم (القط الذي يحبّ خنّاقَهُ).

و لأن المواطن كائن ينسى بسرعة فإنه لا يعاقب ساسته الذين يكذبون عليه. أولاً، لأنه كائن مسالم وبسيط وأحيانا يتحول من بسيط إلى غرّ... وثانياً، لأنه مواطن غالباً ما يزورُّ عن الانخراط في ثقافة المؤسسة، وبالتالي لا يرغب في المظلات المدنية والحكومية القاضية بحماية حقه في تجريم الكذابين وبدرجة قصوى، السياسيين منهم...

و لأن السياسي يعلم أن المواطن معجون بهذه الصيغة وفي هذه الصيغة فإنه يتمادى في كذبه، عالماً أن هناك تسيّبا كبيرا في تغييب المؤسسة القاضية بتجريم كذبه وإدانته ومعاقبته...

هكذا تنبني اللعبة، بتلقائية غريبة، أولُها تخطيط وصيرورتها الباقية انسياب... وهي لعبةٌ تنسج خيوطها في طمأنينة اجتماعية هادئة، وفي تؤدة غير قانونية أكثر غرابة. تدعمها ثقافة المسالمة وليس السلم. لأن هذا الأخير يطرح ذاته في عمق إبستيمولوجي قوي يراكم حول الموضوع قشرات سميكة من مرجعيات الحق ومعرفة الذود عن هذا الحق. أما المسالَمة فهي سلوك انهزامي تبنيه ثقافة نُكوصية تؤمنُ وتقول بشعار (دعه يمشي) أو بعبارة شعبية مغربية صميمة (سَلّكْ ؤُ عَدِّي).

إن السياسي الكاذب يعرف كيف يقرأ هذه المعطيات الاجتماعية الموسومة بالتلقائية وبالشعبوية وبالمسالمة وبغياب المؤسسة الحاضنة. ومن ثمّة يجد نفسه كائنا محظوظا بالقدرة على العوم في هذا الماء الهادئ كيفما شاء له العوم، تدعمه في ذلك مجاديف السلطة التي تطلق له الحبل على الغارب يمخر في عباب السياسة الكاذبة ما شاء له المخر. وهي السلطة التي أطلقت اليد السياسية تصنع المفاهيم والمصطلحات، وترسل الأمثال والمسكوكات الشعبية تسري في البيئات الاجتماعية كما تسْرِي النار في الهشيم، تكرس الحالةَ ذاتها وتدعمها دعما يسير بها في اتجاه التغول والترسيخ، في اتّجاهِ الشّرْعَنَة.

كما أنّ تغوّل ثقافة الكذب السياسي وترسيخها في أوصال المجتمعات أمر خطير لا ينبغي تجاوزه في التحليل. لأن المسألة تندمغ في معادلة غير قابلة للحلّ، ذاك أن هذا التغوّل يأخذ مسار الزمن ويتجذر عميقا في الوجدان وفي السلوك ثم في القناعات. والخطورة لا تتأتى من تغوّله وإنما من اكتسابه لأجنحة المصداقية والشرعية، وبدل أن يتخفى الكذب السياسي ويتوارى خجولا قبيح المنظر، ينبري إلى الظهور في تبجح مقيت وفي صلفٍ أمقت. والنتيجة أننا عوض أن نهدر طاقةً معقولة ونسبية في مكافحة الكذب في وضعه الموضوعي حيث كل المؤسسات تدينه وتشجبه وتضعه في قفص التهمة، نتحول بفعل فاعل إلى مكافحة الكذب في وضعيته الجديدة التي أصبح يمتلك فيها شرعية الحضور. وشتّان بين القضاء على ظاهرة مرفوضة أصلا ولا شرعية لها، وبين القضاء على ظاهرة تدعمها المؤسسة وتصون لها شرعيتها.

هو الهدر التاريخي إذن، يأخذ منا كثيرا من الطاقة، ويحولنا إلى خطاب سياسي مأزوم ومعتلّ ومرضي. لكن الأغرب فيه أنه حالةٌ عامّة تكتسح جميع المجتمعات الإنسانية وتتوغل في عمقها الوجودي وفي وجودها الأعمق. وتتحول من حالات مرَضية قابلة للعلاج إلى حالات قائمة تفرض سياقها الغاشم على هذه المجتمعات، حاملة في يدها اليمنى شعار المصلحة العامّة وفي اليسرى شعار الحداثة الفارضة أنساق حيوات جديدة وجديرة بالعيش داخل منظورات تسويغية تقول بقبول كل شيء مادام يصب في فلسفة النفع العام.

من هنا، فداحة هذا المحكي في حياتنا العامة، والذي نسايره في تجذره الهادم دون التفكير الواعي بضرورة مكافحة ظواهره وردّه وردعه وتصويب الشأن السياسي شأنا قيمياً ينتصر للأخلاق ولتداعيات الأخلاق بدل الازورار عنها في مسلسل تاريخي حداثي كاذب.

لهذا تكبر في السياسي المقولات الكاذبة وتتجذر، ومن ثمّة تُسوّغ له القول، ويتمكن من القول، ويقول في قناعة من أمره أنه لا مناص من الكذب. ويقولها وهو المشبع بالقيم والمنتصر لها دوما والذائد عنها حتماً. وهنا بالذات ندرك حجم المفارقة لدى السياسي وهو يصنع التناقض الغريب في شأنه وفي شأن العامّة من الناس باعتبارهم موضوع هذا الكذب. إذ لا وجود لهذا السياسي في غياب مادة الكذب، أي جمهور المكذوبِ عليهم... من ثمّة، فالسؤال الينبغي طرحه هنا هو: ما أشكال المفارقة في موضوع الكذب السياسي؟

هناك شقّان في هذا المنحى المفارق: الأول يتعلق بغرابة هذا الكائن السياسي الذي يكذب على الناس في شأنٍ عمومي يتصل بحياتهم الراهنة والاستقبالية. وهو كائن غريب ومرَضي لأنه هو أول من يدرك أنه كاذب، وبالتالي فهو يضرب عرض الحائط هذا الداخل الذي يمثل حالة الإشراق فيه، وهي الحالة النادرة التي لا يستثمرها السياسي ولا يقلّب لها وجها ولا يقبل منها توجيهاً... وبعبارة أوضح، هو لا يرغب في استثمارها لأنها تتحول بفعل تاريخ تغييبها إلى نداء مخنوق ينبغي الاحتراز منه. هذه الحالة من الإشراق موجودة عند كل كائن حي ويختلف حضورها قوة وضعفا من كائن إلى آخر بحسب حجم تغذيتها وتطعيمها أو بتجويعها وإفقارها. إن هذه الحالة الإشراقية عند السياسي الكاذب هي أفقر الحالات الموجودة في الكائنات الحية المتكلمة في خطابات المسؤولية.

هذه الإشراقة المغبونة والمتعرضة للقصف من ذات السياسي نفسه هي إشارة قوية إلى سيمياء المازوشية والسادية في نفس الآن، بما يُفدِح الأمر ويجعله مقروءاً في عمقه الباني والهادم، حسب موقع المعني بالأمر وزاوية نظره، وأقصد المواطن في كل تجلياته الثقافية المسؤولة.فالبناء وارد في حالة الثقافة الواعية، والهدم أيضا وارد في حالة اللاثقافة.

و الثاني، يتعلق بالطرف المخاطب الذي يوجه إليه السياسي الكاذب خطابه، في ثنائية غير مفهومة البتّة. وهي ثنائية أشرحها كالتالي:

في الطرف الأول من الثنائية يقبع المواطن حاملا صوتاً ثميناً ومستكينا إلى قدرِ سياسي يخص حياته الخاصة والعامة، لا يصنعه هو ولكن ينتدب إلى فعل ذلك شخصا آخر يظن في سذاجة سياسية أنه سيمثله خير تمثيل. في هذا المنعطف تنسج اللعبة السياسية خيوطها العنكبوتية الآسرة للضحايا العالقة والتي تتحول إلى كائنات مخدَّرة، وغير قادرة على الفكاك. إلا أن الفرق بين العناكب والسياسيين أن الأولى تتغذى بالضحايا العالقة ميّتةً، في حين أن السياسيين الكاذبين يتغذون بالضحايا أحياء يرزقون.

و في الطرف الثاني من الثنائية يقبع السياسي الكاذب مشهراً في وجه المشهد السياسي برنامجا حزبيا يتقطر إدهاشا وكأن من صاغه خبير بالأحلام العسلية والطموحات الأغزر عسلا. وفي هذه المحطة بالذات ينبثق الوهم سيداً للموقف، بحيث يتحول السياسي إلى كائن يصدّق البرنامج الذي كان قبل اليوم أكذوبةً صنعها في لحظة انفصام مشهودة... ويتحول هذا الصدق إلى حقيقة عندما يكتشف السياسي أن المواطن المخاطب بهذا الشأن صدّق البرنامج وهضم طُعمه. وفي هذا التصديق المتبادل يتعملق الكذب ويتبجح ويتحول إلى طالب حق وشرعية ومصداقية وحضور. تمثل هذه الحالة وضعا سيكوباتيا غريباً، يمكن تلخيصه في العبارة التالية: السياسي يصنع الكذبة ويصدّقها.

إذن، ما هي الآليات الكفيلة بدعم هذا التصديق الواهم والمتحول في سياق سحري إلى ما يشبه الحقيقة ؟

إن أحسن الإجابات في هذا المقام تأتينا من قراءة ذلك التراكم الحاصل في التجارب التاريخية قديما وحديثا، والتي أولتْ للكذب السياسي حظوة مشهودة ومقصودة وفق منظور ينتصر للسلب بدل الإيجاب. وهو أمر مفهوم في سياق ديني يقول بطبيعة الكائن البشري المائل إلى الشر بدل الخير، وإلى القبح بدل الجمال، وإلى الباطل بدل الحق (إنّا هَديْناهُ السّبيلَ إمّا شاكِراً وإمّا كفورا) سورة الإنسان، الآية 3... وهو السياق الذي يعلن فيه الإنسان أيضا عن طبيعة الخصومة المجبول عليها (أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِن نّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مبِين) سورة يس، الآية 77 ، في سياق آخر أكثر دلالة على جبلّة الطمع (إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ) سورة ص، الآية 23

و يتبدّى لنا في غير تفسير، وإنما في استلهامٍ لقراءة الآية الأخيرة، نسقُ الطمع الدافع الأساسي لبناء الوعود المعسولة القائمة على بلاغة الخطاب، تمهيدا لحصادٍ غير مشروع وغير شرعي.

 

نورالدين حنيف - المغرب

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم