صحيفة المثقف

علي رسول الربيعي: الكراهيات والجماعات.. تنظير ونقاش للمصادر (3-3)

علي رسول الربيعيهذه دراسة بحثية عن الكراهية جاءت نتيجة حوار أجراه معنا الأستاذ الدكتور نابي  بوعلي، لكن ليس بالمعنى التقليدي سؤال وجوابه مباشرة؛ فقد ارتأينا ان تكون أجوبة  كدراسة موسعة تتناول قضية تُعد مركبة أنتظاماتها ومعقدة في ابعادها تتضمن  قراءة لأهم المصادر الاساس واقتراح راهنة منها  لهذا الحقل المعروف. وهي معمقة لأن تحتوي مراجعة تحليلية- نقدية لنظريات بارزة في هذا الحقل، تنطلق من رؤية وأطار نظري محدد.

ما الذي  يكون أو يشكل الجماعة؟

تعرّف مقاربات الهوية الاجتماعية الجماعة من الناحية الأدراكية (المعرفية): أيً من حيث تصور الناس لأنفسهم كأعضاء في جماعة.[1]على الرغم من أن مناهج الهوية الاجتماعية تهدف إلى توفير رابط بين مستويات التحليل الفردي والجماعي، إلا أنها فردية في التوجه، حيث تركز على أفكار ومشاعر الأفراد والطرق التي يتفاعلون بها مع بيئتهم الاجتماعية. تنبثق الجماعة، إذن، طبقًا لمنظور الهوية الاجتماعية، من العمليات الأدراكية الفردية التي تنبثق من حاجة الإنسان إلى النظام والتبسيط، والاندماج والتمايز، وفي بعض التفسيرات، من الحاجة الى الصور الايجابية عن الذات. هذه هي الضرورات الأدراكية الفردية التي تشكل جوهر المقاربة. ليست مهمة منظري الهوية الاجتماعية دراسة سبب تصنيف الناس بطرق معينة، بل تفسير الديناميكيات الاجتماعية المحتملة الناتجة عن ارتباطات الجماعة وما هي القوى التي تحرك هذه الديناميكية (على سبيل المثال، الحاجة إلى التصنيف، والحاجة إلى احترام الذات، والحاجة إلى التميز الأمثل). يمكننا أن نفهم من هذا المنطلق أن منظور الهوية الاجتماعية لا يهدف إلى أن تكون قادرًا على الإجابة على معظم الأسئلة المذكورة أعلاه. عندما يتعلق الأمر بتفسير الحرب (التي حدثت بين جماعات سنية واخرى شيعية  كما في العراق وسوريا أو كما حصل قبل ذلك الحرب الصربية الكرواتية)، فإن علماء الهوية الاجتماعية سيقولون على الأرجح: لا يمكننا شرح كيف ولماذا يحصل الانقسام، يمكننا فقط شرح العمليات الاجتماعية والنفسية التي تجعل الناس يتماثلون يلتحقون ببعض وينخرطون في الديناميكيات الاجتماعية للهوية المتزايدة على حساب الآخرى. ومن ثم، فإن النهج غير مهتم بسياسة تكوين جماعة الهوية ورسم الحدود، كما هو الحال  على سبيل المثال، في النظريات الأنثروبولوجية السياسية للعرق التي لها تفصيل آخر. لذلك من المهم أن ندرك أنه لا يعتبر من وظيفة منظري الهوية الاجتماعية شرح أصل أو تطور أو مضمون الجماعة وفئتها الاجتماعية. ولكن بالأحرى، يأخذ عالم النفس الاجتماعي هذه كنقطة انطلاق ويركز على عواقب تصنيفات الجماعة. أوضح تاجفيل هذا التقسيم العلمي للعمل:

يتم  تكوين محتوى الفئات التي يتم تعيين الأشخاص لها بحكم هويتهم الاجتماعية على مدى فترة طويلة من الزمن داخل الثقافة، ويعد أصل هذه الأفكار وتطورها مشكلة للمؤرخ الاجتماعي وليس لعالم النفس الاجتماعي. تتمثل مهمة عالم النفس الاجتماعي في اكتشاف كيفية نقل هذه الصور إلى أفراد المجتمع. يتفق هوغ وماكغارتي بطريقة مماثلة، أنه على الرغم من أن دمج السياق الاجتماعي يعتبر مهمًا لنظرية الهوية الاجتماعية، إلا أنه يتم التوسط فيها فقط من خلال عقل الفرد حيث يقولون: " بينما يتم قبول واقع الجماعات والمؤسسات كأمر طبيعي، الأً أننا كعلماء نفس اجتماعيون مهتمون بمثل هذه المؤسسات إلى الحد الذي يتم تمثيلهم فيها نفسياً''.[2] ومن ثم، يأتي الجواب  على "لماذا" تتشكل  جماعة الهوية من خلال النظر في حاجة الإنسان للتصنيف والنظام واحترام الذات (أوالتميز الأمثل، على سبيل المثال). ليس من خلال النظر إلى السياقات التاريخية والسياسية التي تولد التجمعات الإقصائية أو الوظائف السياسية التي يخدمها تشكيل  الجماعة. إذا حاولنا تصور هذا الاختلاف، فإننا نرى كيف أن النظريات الأداتية- الذرائعية  للكراهيات والصراع الجماعي مهتمة بكيفية رسم  حدود الجماعة أو محو هذه الحدود (بالتركيز على القوة/ السلطة والعنف والخطاب)، بينما يهتم علماء الهوية الاجتماعية بما يحدث داخل الجماعة من عمليات أدراكية وتقييمية وعاطفية.

كيف ولماذا تلجأ جماعة ما إلى الكراهيات والعنف؟

تؤكد مقاربات الهوية الاجتماعية على كيف تكمن حاجة الفرد إلى تمايز الهوية الاجتماعية في صميم سلسلة من ديناميكيات الجماعة التصعيدية التي قد تؤدي في بعض الحالات إلى العنف بين الجماعات. وفي نهاية المطاف، يُنظر إلى عدوان الجماعة على أنه استراتيجية مواجهة جماعية في خدمة الحفاظ على حالة الهوية أو استعادتها. تهدف مقاربات الهوية الاجتماعية إلى إنتاج نظرية عامة للكراهيات والصراع بين الجماعات من خلال وضع خطوة بخطوة لمجموعة صغيرة من الفرضيات المنظمة. يتخذ النهج الأنطولوجي (الوجودي) موقفا فرديا. يبدأ بالفرد ويهدف إلى تحديد وترتيب العوامل الأدراكية والتقييمية والعاطفية التي تمهد الطريق للجذب داخل الجماعة والعداء خارجها. تهدف النظرية، من الناحية الابستيمولوجية ( المعرفية)، إلى تقديم "تفسير" يكشف عن الأسباب الموضوعية للكراهيات والعداوات والعنف بين الجماعات بدلاً من تقديم فهم ذاتي لها (understanding)[3]: إنها تسعى إلى بناء نظرية اجتماعية نفسية للعلاقات بين الجماعات يمكن من خلالها التنبؤ ببعض التوحيد في سلوك ومواقف أعضاء بعض الجماعات (أو الفئات الاجتماعية) تجاه  جماعات أخرى.  يهدف الباحثون، من خلال اختبار دقيق لسلسلة من الفرضيات، إلى إنتاج تفسيرات عامة لسلوك الجماعة. إن وجهة النظر الأساسية هنا هي أنه يمكن التنبؤ بالسلوك البشري وأن الفاعلين يتصرفون وفقًا لمجموعة من القوانين النفسية.

يساعد التركيز على الأفراد في توضيح المشاعر العميقة والعاطفية التي ترافق أعمال العنف بين الجماعات. يتناول هورويتز– في هذا السياق- الجماعات الطوائفية ( العرقي أو الديني) في الكراهيات والصراع:  يستدعي الشغف المطلق لمتابعة الصراع  الطوائفي تفسيرًا يعترف بعالم المشاعر؛ فلا يمكن تفسير الظاهرة الدموية بنظرية لا تاخذ هذه المشاعر بنظر الأعتبار.[4] وهذا بالفعل ما تقدمه مقاربات الهوية الاجتماعية، من خلال التأكيد على أن حاجة الإنسان للانتماء قد تدفع بالعواطف والأنفعالات القوية. لكن مثل هذا الموقف الفردي له حدوده أيضًا. إنه يميل إلى تجريد الفعل الفردي من السياق الاجتماعي، وبالتالي افتراض بعض المشاعر والعواطف وطرق التفكير بوصفها شاملة وعامة في حين هي قد تكون متغيرة عبر الزمان والمكان. إن السؤال، من الناحية االأنطولوجية (الوجودية)، هو ما إذا كان يمكن تحليل الظواهر المعقدة مثل الكراهيات والصراع العنيف من خلال اللجوء إلى مثل هذه الأدراكية الفردية. يفسر النهج المعرفي الذي تقوم عليه نظرية الهوية الاجتماعية الكراهيات والصراع بين الجماعات باعتباره جزءًا لا يتجزأ من الحاجة البشرية للأتساق وللتوافق ومعالجة المعلومات وتبسيطها. إنه يترك بلا إجابة السؤال عن كيفية  تفجرالعداوات الجماعية اجتماعياً وسياسياً عبر الزمان والمكان، وكيف يتم تخطيط الصراع الجماعي وتنظيمه. لكن، هناك باحثون[5] على النقيض من ذلك، يجادلون بأن تصنيف الذات والآخر هو أكثر من مجرد نتاج للإدراك ومعالجة المعلومات ويستمد من الاستمرارية الخطابية والمؤسسية. لذلك، يعتبرون الكراهيات الصراع العنيف بين الجماعات ظاهرة اجتماعية سياسية وليست فردية.

تُظهر مناقشات تاجفيل حول نظرية الهوية الاجتماعية والعلاقات بين الجماعات والوظائف الاجتماعية للصور النمطية كيف أنه حاول وضع هذه الأفكار موضع التنفيذ. وقد ناقش أيضًا الطابع المعياري الاجتماعي للسلوك الاجتماعي، وعلاقته بالقواعد والمعايير والقيم التي تم إنشاؤها اجتماعيًا، كحجة أساسية ضد الاختزال في النظرية النفسية البيولوجية أوماقبل الاجتماعية. إن فكرته الجوهرية هي أن السلوك البشري تحكمه القواعد بشكل أساس. يسعى الناس إلى التصرف بشكل متناسب مع الظروف (وتقييم أنفسهم بشكل إيجابي) والأعراف والقيم الاجتماعية لجماعتهم والمجتمع الأوسع. تُستمد هذه المعايير والقيم من النظم الاجتماعية والأيديولوجية. وبالتالي لا يعتمد السلوك الاجتماعي على "حسابات المنفعة الذاتية... وعلى أساس عدد قليل من الدوافع البشرية العامة"،[6] كما تفترض العديد من النظريات النفسية الإجتماعية.

يذكرنا تيرنر بأهمية مراجعة وقراءة "النظريات في سياقها" وأخذ نشأتها في الاعتبار. كان أحد أهداف  تاجفيل في ذلك الوقت هو إنشاء علم نفس اجتماعي يكون "اجتماعيًا" حقًا وقادرًا على معالجة المشكلات الاجتماعية الخطيرة. كانت فكرته القائلة بأن العمليات الأدراكية العادية للتصنيف الاجتماعي تكمن وراء التحيز والعداء الجماعي تتعارض مع الآراء السائدة في ذلك الوقت. لقد رفض رؤية الكراهية الجماعية والتحيز على أنهما ينبعان حصريًا من غرائز إنسانية أو إحباطات أو سمات شخصية كما فعل فرويد وأدورنو من قبله. وبهذا، حوّل التركيز إلى "الوضع العادي الطبيعي" للعنف الجماعي. و يتماشى هذاكثيرًا مع النتائج التي توصل إليها بعض الباحثين[7] الآخرين، حيث يوضح تاجفيل أنه ليس السيكوباتيين والمتخلفين، ولكن البشر العاديين إلى حد كبير ينتهي بهم الأمر​​، من خلال سلسلة من الديناميات التصعيدية،  الى تعزيز الكراهيات ودعم أو ارتكاب العنف ضد ما يعتبرونه الجماعة الأخرى الخارجية بالنسبة لجماعتهم. وبالتالي ، فقد ساهم بشكل مهم في النقاش  حول دور المتفرجين  الصامتين في أوقات الحرب. لا يبطل، هذا بالطبع، بأي حال الانتقادات اللاحقة لـنظرية الهوية الاجتماعية بوصفها ليست اجتماعية (أو بالأحرى سياسية) بما فيه الكفاية. أكد تاجفيل على محدودية علم النفس الاجتماعي في إحدى كتاباته اللاحقة، فيما يتعلق بالجماعات والفئات الاجتماعية ، بالقول إنه " أنه من السخف التأكيد على  الموضوعية (من حيث المال ومستويات المعيشة واستهلاك السلع والخدمات) ليست أهم محدد لـلنزاعات. لا يمكن لأشكال التحليل الاجتماعي النفسي "أن تحل محل التحليل الاقتصادي والاجتماعي، ولكن يجب استخدامها لتكميله".[8]

كيف ولماذا لا يتوقفون؟

يمكننا القول، ومن خلال قراءة نظرية الهوية الاجتماعية بطريقة معاكسة، أن الكراهيات ومن ثم العنف بين الجماعات ينتهي عندما يدرك الأفراد أن احتياجات هويتهم الاجتماعية قد تم تلبيتها. أي عندما يُنظر إلى الاختلافات في المكانة على أنها شرعية ومستقرة، ويتم تلبية احتياجات الناس للإدماج والتمايز الآمنين. يقر الباحثون على نطاق واسع أنه بمجرد ظهور العنف الجماعي وقتل الناس بسبب هويتهم، فإن الديناميكيات التصعيدية ستؤدي إلى تكثيف الانقسامات بينهم، ونحو المزيد من الكراهيات. من الواضح يعطل هذا بشدة أي فرص لاستعادة الهوية الآمنة. ومن غير المرجح أن ينتج عن الكراهيات و الصراع العنيف بين الجماعات توازن جماعي جديد ومستقر، على الأقل ليس على المدى القصير أو المتوسط. ومع ذلك، إذا أردنا استخلاص دروس من مناهج الهوية الاجتماعية في مجال حل الصراع، فإن مركزية الحاجة النفسية هذه (لإعادة) تأسيس هويات جماعية آمنة وشرعية ومستقرة هي التي تبدو أكثر بروزًا. وعلى الرغم من أن هذا النهج لا يزود محلل  الكراهيات والصراع بمجموعات أدوات حول كيفية تحقيق ذلك، إلا أن بروير تحذرنا من الوقوع في فخ واحد على الأقل: استراتيجية الأهداف المشتركة.

قبل أن نتطرق إلى استنتاجاتنا النهائية، سننظر بإيجاز في الآثار المترتبة على حل النزاع لنظريتها التميز الأمثل.

يزداد التماسك داخل الجماعة في مواجهة التهديدات أو التحديات المشتركة. هذه هي النتيجة التي بنيت عليها جميع  تدابير "بناء الجماعة" و"إدارة الموارد البشرية": فمعًا يحقق الجميع المزيد. الوصول الى هذه النتيجة العامة هو حصيلة الاعتقاد بأن وجود أهداف أو تهديدات مشتركة يمكن أن يوفر أيضًا الظروف لجمع الجماعات المختلفة معًا، وبالتالي دعم التعاون وتقليل الصراع. ينعكس هذا الاعتقاد في خطاب السياسيين لـ "الشعب" عندما يواجهون تهديدات خارجية حقيقية أو خيالية. إن العبارات التي تتحدث عن "صف متماسك" و"ترك خلافاتنا وراءنا" معروفة لنا جيدًا. تُستخدم هذه اللغة أيضًا في المناقشات حول بناء السلام والمصالحة: كيف يمكن "إصلاح" علاقات الجماعة العدائية في بيئة ما بعد الصراع من خلال أحضار الأهداف والمشاريع وحتى الهويات الشاملة. لكن تجادل برور،[9] بخصوص التعاون بين الجماعات خلاف هذا تمامًا. فتدعي أن توقع الترابط والاعتماد المتبادل الإيجابي (العمل التعاوني المشترك) مع جماعة خارجية يعزز  الصراع والعداء بين الجماعات بدلاً من أن يقلله. السبب الرئيس لذلك هو الاختلاف الأساس بين ديناميات الاعتماد المتبادل  داخل الجماعات وفيما بينها. إن إشراك الإحساس بالثقة اللازمة للعمل الجماعي التعاوني في السياق الداخلي للجماعة أمر سهل نسبيًا. لكن الترابط المتصور والحاجة إلى التفاعل التعاوني بين الجماعات يجعل غياب الثقة جليًا بشكل مؤلم. إن هذا الإحساس بالثقة المتبادلة وغير الشخصية القائمة على الهوية المشتركة هو بالضبط الشرط الضروري للعمل المشترك. "بدون آليًة الثقة غير الشخصية القائمة على الهوية المشتركة، يلوح خطر استغلال التعاون بشكل كبير ويهيمن انعدام الثقة على اساس الحكم".[10] إذن إنه من غير المجدي، محاولة تقليل الصراع من خلال جلب أهداف أو تهديدات جدية وعالية من منظور نظرية التميز الأمثل؛ لأن  سوف لا يؤدي ذلك الأً إلى دفع خوف الناس من فقدان الاندماج والتمايز الآمنين، وينتج المزيد من الكراهيات والنزاع.

ربما يكون لهذا النهج مساهمة أكثر تفاؤلاً عندما يتعلق الأمر بمنع الصراع بين الجماعات. تتمثل الإستراتيجية الأولى الممكنة، التي قدمها هوغ وادلمان، في وضع أحكام لترجمة حالة عدم اليقين التي تعتبر "تهديدًا مخيفًا" إلى حالة يُنظر إليها بشكل أكثر إيجابية على أنها "تحدٍ: و"آلية رئيسة لجعل الناس يعتقدون أن لديهم الأمكانية اللازمة للتخلص من مشاعر عدم اليقين.[11] الحاجز الثاني ضد الكراهيات والتطرف والصراع العنيف هو أن يكون للناس هوية اجتماعية غنية ومعقدة. تبدو المجتمعات المجزأة وفقًا لتصنيفات قوية وأوليًة مثل الدين أو العرق، عرضة لديناميكيات التحيز والمحاباة والمحسوبية داخل الجماعة والعداء خارجها. يؤدي مثل هذا التقسيم خاصة إذا كان ثنائيًا (تقسيم المجتمع إلى  جماعتين) إلى المقارنة الاجتماعية وتصورات للمصالح المتضاربة أو غير المتوافقة، وبالتالي الكراهيات والصراع. ولكن قد يكون العكس صحيحًا أيضًا. فقد تكشف المجتمعات الأكثر تعقيدًا وتمايزًا عن أبعاد متعددة  في قدرتها على الصمود أمام الكراهيات والصراع. يعزز "التعقيد البنيوي الاجتماعي'' المرتفع تمييز الفئات الشاملة ويسمح للأفراد بأن يكونوا جزءًا من العديد من الجماعات الداخلية والخارجية الشاملة. يمكن للمرء، على سبيل المثال، المشاركة في العاب رياضية مع لاعبين من خلفيات عرقية مختلفة، والذهاب الى الجامع للصلاة مع أشخاص ذوي وظائف ومستويات دخل متنوعة، والعثور على زملاء في العمل من ديانات ومناطق مختلفة، وهكذا. تجعل مثل هذه العضويات الشاملة الفرد أقل اعتمادًا على جماعة واحدة لإشباع احتياجاته النفسية وأقل عرضة للاستقطاب. بالعودة إلى فرويد، ربما يجعلنا هذا التعقيد أقل استعدادًا لدفع "الثمن النفسي للانتماء الجماعي"، وأقل امتثالًا.

استنتاج

تساعدنا العمليات الأدراكية  التي تدخل في صميم مناهج الهوية الاجتماعية على الإجابة عن السؤال حول سبب تعارض الناس العاديين مع بعضهم البعض. يمنحنا هذا النهج نظرة ثاقبةعلى: لماذا وكيف يمكن أن تؤدي ارتباطات أفراد الجماعات إلى ديناميكيات تصعيدية في بعض الأحيان تجعل أعضاء الجماعة يقبلون ويدعمون العنف ضد "الآخر". ويخبرنا أنه بدون هذه النظرة لهذه العمليات الاجتماعية والنفسية، فإن أي تحليل لصراع  الجماعات العنيف يكون غير مكتمل. لا يمكن تجاهل دور الاستغلال الاقتصادي أو الأساطير الإثنية الرمزية، ولكن من غير المرجح أن يتطور الصراع العنيف بدون دعم الناس العاديين، الذين يتصرفون بناءً على سلسلة من الضرورات أو الالزامات الأدراكية العميقة الجذور.

تفسر مناهج الهوية الاجتماعية السلوك البشري، على عكس الفهم الثقافي للجماهير بوصفها تقبل وتستوعب النماذج ثقافية بشكل سلبي، بما في ذلك فئات الانتماء العرقي والأساطير السلبية الضارة، أي عدوان خارج الجماعة، على أنه نابع من العمليات الأدراكية التي تدعمها حاجة الفرد إلى حياة الجماعة والمعيشة الجماعية والتمايز والاندماج. فبينما يضع الأول مصدر الفعل البشري على مستوى البنية المعيارية للمجتمع، فإن الأخير يضعه على مستوى الفرد. لذلك، كما ذكرنا، من الناحية الأنطولوجية  يتخذ النهج موقفًا فرديًا.

تختلف مناهج الهوية الاجتماعية عن نظريات النخبة في العنف، مثل الذرائعية البنائية. إن إحدى النتائج المهمة التي يكشف عنها النهج الذرائعي هي انه يتم بناء الحرب وبناء وهويات الجماعة المعادية التي تشن الحرب باسمها. فتصنع الحروب، وبسبب ذلك، يمكن أيضًا أن يتم تفكيكها، مما يعني أن الحرب ليست حتمية أو حالة طبيعية بأي حال من الأحوال. العالم الاجتماعي هو ما يصنعه الناس، ومن خلال دراسة الطرق المحددة لـ "صنع العالم" من الداخل فقط يمكننا فهم الفعل البشري (بما في ذلك العمل العنيف).

نحن كدارسين للكراهيات والصراع العنيف علينا أن نبحث من هذا الموقف التفسيري  عن معنى الفعل. وبما أن الأفعال تستمد معناها من الأفكار المشتركة وقواعد الحياة الاجتماعية فقط، فنحن بحاجة إلى رؤيتها من الداخل: من خلال فهم الفاعلين. وهذا ما يسمى "الفهم المزدوج": لعمل فهم الفهم.[12] يمكن للباحثين فهم أفعال مجموعة معينة من الناس من خلال دراسة الطريقة التي تنتج بها معاني محددة فقط. وعلى العكس من ذلك، فإن نظرية الهوية الاجتماعية، على الرغم من الادعاءات القائلة بأن العلاقة بين الهوية الاجتماعية والعنف بين الجماعات هي علاقة شرطية، أيً عرضية وليست حتمية، أنها مبنية على افتراض أن مصادر العنف الجماعي تقع اساساعلى مستوى يلزم من أدراكات الأفراد. يُظهر هذا التركيز على الصراع باعتباره ناتجًا عن "قوانين '' نفسية يمكن التنبؤ بها إلى حد ما، والتي يمكن اكتشافها من خلال دراسة التماثلات في سلوك ومواقف أعضاء الجماعات.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

......................................

[1] Hogg, M.A. (2006) 'Social Identity Theory' in: P. J. Burke (Ed.) Contemporary Social Psychological Theories,

[2] Hogg, M. A. and C. McGarty (1990) 'Self-Categorization and Social Identity' in: D. Abrams and

M.A. Hogg (Eds.) Social Identify Theory: Constructive and Critical Advances, London: Harvester Wheatsheaf.

24.

[3] حول هذه المقاربات  في مناهج العلوم الانسانية المعاصرة أنظر، دكتور الربيعي، علي رسول :

https://www.almothaqaf.com/index.php?option=com_content&view=article&id=927942&catid=288&Itemid=601

[4] Horowitz, Donald (I 985) Ethnic Groups in Conflict, Berkeley: University of California Press,140.

[5] Condor, Susan (1982) 'Social Stereotypes and Social Identity' in: D. Abrams and M.A. Hogg (Eds.)

Social Identity Theory: Constructive and Critical Advances, London: Harvester Wheatsheaf.

Jabri, Vivienne (1996) Discourses on Viale: Conflict Analysis Reconsidered, Manchester and New York: Manchester University Press.

Simmons, Solon (2013) 'From Human Needs to the Imagination: The Promise of Post-Burtonian Conflict Resolution' in: K. Avruch and C. Mitchell (Eds.) Conflict Resolution and Human Needs: Linking theory and practice, Abingdon and New York: Routledge.

[6] Tajfel,1981, Human Groups and Social Categories,36.

[7]Sherif, M., 0. J. Harvey, B. J. White, W.R. Hood and C. W. Sheriff(l961) Intergroup Conflict and Cooperation: The Robbers Cave Experiment, Norman.

Milgram, Stanley (1963) 'Behavioural Study of Obedience', Journal of Abnormal and Social Psychology, 67 (4): 371-8.

حنة أرنديت،  ايخمان في القدس، تر، نادرة السنوسي، ابن النديم للنشر والتوزيع ودار الروافد الثقافية -ناشرون، بيروت، 2014.

[8] Tajfel, Henri (1981) Human Groups and Social Categories, Cambridge, 223.

[9]  Brewer, Marilynn. (2001) 'intergroup Identification and Intergroup Conflict: When does intergroup Love become Outgroup Hate?'

[10] Brewer, Marilynn. (2001) 'intergroup Identification and Intergroup Conflict: When does intergroup Love become Outgroup Hate?'33.

[11] Hogg, M.A. and Adelman, J. (2013) 'Uncertainty-identity Theory: Extreme Groups, Radical Behavior, and Authoritarian Leadership',450.

[12] Hollis, Martin (1994) The Philosophy of Social Science: An introduction, Cambridge: Cambridge University Press146.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم