صحيفة المثقف

محمود محمد علي: أبو نصر الفارابي .. مفكراً سياسياً

محمود محمد عليلا شك في أنه يصعب تعريف الفلسفة السياسية – كما يصعب تحديد وتأطير ذاتها، لأنه يمكن أن يضم كل ما يتعلق بالحياة السياسية لمجتمع ما من المجتمعات، له تنظيم معين، وسلطة معينة . وهذا يعني أن مثل هذه الفلسفة تتناول علاقة الفرد بغيره من الفراد ضمن نطاق الأطر السياسية المحددة، وعلاقة هؤلاء بالسلطة الحامية حكماً لهذه الأطر، وكذلك تتناول هذه الفلسفة نوع السلطة المشار إليها ؛ وبعبارة أخري فإن الفلسفة السياسية، إنما هي محاولة فكرية لمعرفة طبيعة الدولة، أي لمعرفة أسسها السياسية . إنها ليست علماً موضوعياً لبحث الظواهر السياسية في الدولة، بل هي محاولة لفهم حياة شعب من الشعوب، وبالتالي فكل فلسفة سياسية فلسفة سياسية لابد أن تتضمن نوعاً من البحث الأنثربولوجي .

ولو أخذنا هذا التعريف ودرسناه علي ضوئه الفكر السياسي عند الفارابي  (260هـ-874م/339هـ-950م) لما وجدناه يخرج عنه . فالمعلم الثاني، قد حاول أن يحدد طبيعة الدولة المثالية، والشروط التي يجب توفرها في رئيسها، وأول ما يافت النظر في التفكير السياسي لدي الفارابي هو ربطه بين هذين القطبين اللذين لا يلتقيان علي صعيد الممارسة السياسية إلا نادراً ألا وهما: الأخلاق والسياسة، وهذا هو الإطار الذي نلمسه في كتاب " آراء أهل المدينة الفاضلة" و"نحصيل السعادة" و"السياسة المدنية" و" رسالة في التنبيه علي سبيل السعادة "، بل في " إحصاء العلوم" أيضا .

وقد عاش الفارابي في زمن انعطفت فيه الدولة العباسية نحو الضعف وتفسخت فيه الخلافة، فقد عاش الفارابي في بداية القرن الرابع الهجري، حيث أخذت الدولة العباسية في الانحلال، وزالت هيبتها في نفوس شعوبها بسبب تسلط العنصر التركي على ملوكها ؛ فكان من المحتم أن تصدم هذه الأحوال المتبدلة وعي المفكرين المسلمين عامة إبان عصرهم ذلك، ويظهر أن الفارابي قد أصابه شيء غير هين من هذه الصدمة، فلجأ إلي إقامة فكرة السياسي على أساس البحث النظري أو الخيالي أو المجرد، نتيجة الشعور بعدم الاقتناع أو بعدم الرضا بالأوضاع القائمة، والرغبة في إقامة نظام مثالي يتلافي عيوب النظام الموجود ويحقق المزايا المنشودة.

فالمدينة الفاضلة هي المدينة التي تسير فيها المور بصورة خيرة وسعيدة، حيث لا مجال فيها سوي للفضائل، وحيث الألإراد يشكلون مجتمعاً واحداً متماسكا. فإذا لم يتوفر هذا في " المدينة" بطلت عنها صفة الأفضلية، وأصبحت إما "جاهلية" لا تطمح إلي السعادة، ولا ترغب إلا في نوازل الأبدان والتمتع بها،وجمع الثروة، والتصرف وفق الهواء الشخصية بلا ضوابط ولا قيم، وإما " فاسقة" يعرف أهلها طريق الخير ولكنهم يتبعون طريق الشر؛ وإما "مبتذلة" يسير أهلها أولاً في درب أهل المدينة الفاضلة، ثم ينقلبون علي أعقابهم ، وإما "ضالة" تسير خلف رئيس مخادع يدعي إلهية قراراته .

ويعرف الفارابى المدينة الفاضلة: بأنهاالمدينة القائمة على التعاون على الأشياء التى تنال بها السعادة وهى تشبه الجسم الصحيح الذى يتعاون كل أعضائه على تتميم الحياة وحفظها، وسكان المدينة الفاضلة لهم صفات مشتركة وكل فرد منهم له معارف وأعمال تختلف عن غيره .

ويذكر الفاربي مضاداتها من المدن الأخرى التى قسمها فى أربعة أقسام كبيرة هى: المدينة الجاهلة وهى التى لم يعرف أهلها السعادة الحقيقية واعتقدوا أن غاية السعادة فى اتباع الشهوات والتمتع بالملذات، وهناك المدينة الفاسقة وهى التى يعلم أهلها كل ما يعلمه أهل المدينة الفاضلة ولكن أفعالهم مثل أفعال أهل المدينة الجاهلة، وهناك المدينة المتبدلة وهى التى كانت آراءها فى القديم آراء أهل المدينة الفاضلة ولكنها تبدلت وأصبحت آراء فاسدة، وهناك المدينة الضالة وهى التى يعتقد أهلها آراء فاسدة فى الله والعقل الفعال، ويكون رئيسها ممن أوهم أنه يوحى له وهو ليس كذلك.

ويرى الفارابى أن كل نفس من أهل المدينة الفاضلة علمت الحقيقة والعقل الفعال تكون قد اكتسبت الخلود وخلدت فى السعادة، وأنفس أهل المدينة الجاهلة مصيرها الزوال والعدم وأنفس أهل المدن الفاسقة تخلد فى الشقاء، أما أنفس أهل المدن الضالة فمصيرها الزوال. يتحدث الفارابى فى نهاية كتابه عن رأى أهل المدينة الجاهلة فى العدل فهو قائم عندهم على قهر القوى للضعيف والقضاء عليه واستعباده، وإذا طبق العدل عندهم فى البيع والشراء ورد الودائع فإن مرد ذلك يكون الخوف لا حب العدالة.

ولكن الفارابى يؤكد العدل بمعناه الحقيقى الذى تقوم على أساسه الحياة الصحيحة فى المدن الفاضلة وهو نفس ما طالب به مفكرو الفقه السياسى الإسلامى. ومن الطريف فى الكتاب أن الفارابى يحذر الناس ممن يحث القوم على تعظيم الله، وعلى الصلاة والعبادة وترك خيرات الدنيا بحجة الحصول على خيرات الآخرة، ويرى أن كل ذلك أبواب من الحيل والمكيدة للانفراد بالحصول على خيرات الآخرين.

وهنا لجأ الفارابي في فلسفته السياسة، من خلال كتابه: "آراء أهل المدينة الفاضلة" إلى التطلع إلى مدينة فاضلة شأنها أن تعكس أصالة مجتمع فاضل تتحقق في كنفه السعادة والكمالات الضرورية للمجتمع، وأن هذه المدينة تمثل لديه أكثر من دلالة روحية واجتماعية وسياسية لحركة المجتمع الإسلامي .

وإذا كان المجتمع الفاضل هو المحور الذي قامت على أساسه نظرية الفارابي السياسية، فإن هذا المجتمع يقوم على دعامتين رئيستين: مدينة فاضلة تتحقق فيها السعادة باعتبارها الهدف المنشود، ورئيس أو ملك لهذه المدينة يكون أكمل إنسان أو عضو فيها، ويكون بالنسبة لها بمثابة العقل من البدن . ولذلك نجد الفارابي يتحدث في كتابه: "آراء أهل المدينة الفاضلة" يتحدث عن ماهية المدينة الفاضلة ومكانتها بين أنواع التجمعات البشرية، وكذلك يتحدث عن رئيس المدينة أو الدولة كما تصورها الفارابي .

ولتحقيق هذا الغرض نجد الفارابي يبدأ كتابه بمدخل فلسفي حول واجب الوجود وصفاته، ثم يعرض للنفس الإنسانية وقواها، وكيفية تكونها، ثم يتناول الأسباب الداعية للاجتماع البشري، ولماذا يحتاج إليه الإنسان، وما الضرورة التي تفرض وجود رئيس، وصفات المدن الفاضلة ومضاداتها، والصناعات الواجب توافرها فيها وآراء أهل المدن الجاهلة والفاسقة، ويرى أن المجتمعات البشرية فيها الكامل وفيها غير الكامل، والكامل منقسم إلى ثلاث، العظمي، وسطى، والصغرى، وهي المعمورة، والأمة، والمدينة، وغير الكامل: مثل القرية، والمحلة، والسكة، والمنزل، ويرى أن الخير الأفضل ينال بالمدينة، وليس بأنواع الاجتماع البشري الأقل منها. ثم يؤكد أن الغرض من تأليف كتابه المدينة الفاضلة ذكر قوانين سياسية يعم نفعها جميع من استعملها من طبقات الناس في سلوكه مع كل طائفة من أهل طبقته، ومن فوقه ومن دونه؛ حيث إن لكل نوع من هؤلاء سياسة تختلف عن الآخر. ثم يتناول قوى الإنسان الناطقة والبهيمية ويربطها بالسلوك السياسي، ويعرض لتكوين المجتمع السياسي ودور النبوات، ويتناول سلوك الإنسان السياسي من خلال مجموعة من القيم مثل العدل والمشاورة والنصيحة وتحصين الأسرار .

وفي كتابه "السياسة المدنية" يبدأ الفارابي في حديثه عن العقل الفعال، ويميز بين الإنسان والحيوان من حيث دور العقل، ثم يتناول الاجتماعات المدنية ويقسمها إلى ثلاث: عظمي، ووسطى، وصغري، ويقسم موضع الإنسان إلى اثنين: الأول يرأس ولا يرأسه آخر، ويقصر الأول على الحاكم الفيلسوف ثم يعرض للمدينة الفاضلة ومضاداتها من مدن فاسقة وظالمة وجاهلة .

ولم يقف الفارابي عند هذا الحد، بل إننا نجده في كتابه "تحصيل السعادة" يربط بين السياسة والأخلاق. مبينا أن الغاية النهائية منها هي تحقيق السعادة للأمة البشرية. لذلك نراه يحدد موضوع العلم المدني في كتابه هذا بأنه: "الفحص عن الغاية في وجود الإنسان، وهي الكمال، ثم الفحص عن الوسائل التي ينال بها ذلك الكمال وهي الخيرات والفضائل"، ويقسم الفارابي الفضائل أربعة أجناس: الفضائل النظرية، والفضائل الخلقية، والفضائل الفكرية، والصناعات العملية، ثم يحدد الفضيلة الواجبة لكل فئة من فئات المجتمع، فمثلا الجيش لابد أن يركز على فضيلة القوة الفكرية مع القوة البدنية، ويركز على دور الملك في تربية أمته، ورعيته، على الفضيلة حتى تتحقق لهم السعادة.

 

د. محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

...........................

1- د. أحمد علي: مدينة السماء ومدينة الأرض: بحث في جدل الأخلاق والسياسة عند الفارابي، أعمال المؤتمر الدولي الرابع: السياسي في البلاد الإسلامية - الفكر والأنماط والأماكن، جامعة منوبة - مخبر النخب والمعارف والمؤسسات الثقافية بالمتوسط، 2015.

2- عبد الرازق عيسي : «الفارابى».. الفيلسوف فى رحلة البحث عن «المدينة الفاضلة».. مقال بجريدة المصري اليوم، 2020.

3- وليد فستق: السياسة في الفلسفة الإسلامية : الفكر السياسي عند الفارابي، مجلة الفكر العربي المعاصر، ع 15,14، 1981.

4- محمود محمد علي وآخرون: الفكر السياسي الإسلامي منذ الينابيع الأولي وحتي القرن التاسع الهجري، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الاسكندرية، 2016.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم