صحيفة المثقف

محمود محمد علي: المثقف والسلطان: مداهنة أو مصارحة؟

محمود محمد علي

إن العلاقة بين رجل الأدب ورجل السياسة، أو بين المثقف والسلطان، هي دون شك معتادة منذ قديم الزمان، ولنا في علاقة "بيديا" الفيلسوف بالملك الهندي "دبشليم" خير شاهد على ذلك، غير أن ما يلفت النظر في هذه الظاهرة، هو تمييز بعض العلاقات ببعد أغوارها، وعمق خلفياتها، ودقة أسرارها، كتلك التي جمعت بين "أبي الطيب المتنبي" والأمير "سيف الدين الحمداني"، أو بين "أبي حيان التوحيدي" والوزير البويهي "ابن سعدان".

بيد أنه ليس سهلاً الدخول في موضوع المثقف والسلطان، خاصة عندما ينتابنا الشوق والحنين، وشعور بالغربة مرير حين نطالع مجدنا التليد، والذي كشف كيف أن علماءنا الأفذاذ كانوا يعتبرون أنفسهم "ورثة الأنبياء"، حماة الشريعة، ومالكي الحقيقة والمعرفة الدينيتين، مما كان يمكنهم من التمتع بسلطة روحية نافذة، لا يجادل في أمرها أحد، ولكن ذلك يجلب لهم التقدير والطاعة.

ولعل ما يعمق هذه المشاعر ذلك الفارق الشاسع بين الأمس واليوم، فاليوم؛ وبالأخص عقب ثورات الربيع العربي رأينا جمهرة كبيرة من كتابنا ومثقفينا الذين ينشرون أوراقهم وأبحاثهم ومقالاتهم علي صفحات الجرائد وأغلب المؤتمرات يمالئون القاري والمثقف العربي أيا كان اتجاه، ومهما كانت صفاته، ومهما كانت ايديولوجيته طمعاً في تحقيق مغانم الشهرة. فهو يمتدح حينا الفكر الحنبلي، وتارة الفكر الإخواني، أو الفكر السلفي، وربما الفكر الشيعي .. إلخ.

بل وأحيانا قد يبدون مظاهر الولاء للفكر الماركسي أو الفكر الغربي بكافة أشكاله حسب تقلب أهواء المثقفين، ويقفوا يوماً في كتاباتهم وأبحاثهم مع القومية العربية، ويوما آخر ضدها، ويظهرون يوما أقصى التشدد مع إسرائيل، ويبدون يوما آخر أكثر استعداداً إليها وهكذا.

هذا النوع من الكتاب معروف ومشهور، وهو ممن تجده، بدرجات مختلفة في البلاد العربية التي سقطت أنظمتها السلطوية، حيث اتجاهات الحكم أكثر تقلباً، والرأي العام أقل يقظة، والمغانم الشخصية التي يمكن تحقيقها عن طريق التقرب إلى السلطة أكبر وأوسع.

كما أن النوع أيضا يكمن في قدرته على تشكيك المثقفين في البديهيات وقلبه للحقائق التي لا يتفاوت الذكي والغبي في سرعة إدراكها.. فالمثقف صاحب الذائقة الفطرية الجميلة يفقد الثقة في نفسه ويتهم ذائقته عندما يرى المدائح والموشحات توجه لشخص لا يتجاوز ديوانه مرحلة تراكيب الجمل البسيطة ويكاد يخلو من صورة فنية جديدة أو جملة بيانية فريدة وإن وُجد فببركة الانتحال والسطو تحت ذريعة توافق الخواطر ووقوع الحافر على الحافر!

ولكن هناك أيضاً طراز آخر من الكُتاب أقل شيوعاً بكثير، وهو طراز " المعارض الأبدي " . وهو يضم كتاباً يبدون أحياناً وكأنهم غير قادرين على غير المعارضة، غاضبون على الجميع، وكان لا شيء يعجبهم، ولا شيء يمكن أن يرضيهم . وهو طراز قال عنه الدكتور جلال أمين أقل شيوعاً بالضرورة لأن مغانمه الشخصية، المادية علي الأقل، معدومة .

من بين هذا النوع الأخير من الكتاب طراز تأتي معاضتهم الأبدية للسلطة من أنبل الدوافع وارفعها شأنا . ذلك أنهم يتميزون أولا باعتزاز شديد بالنفس، وبرغبة حقيقية في تحقيق مصلحة الوطن، ثم إن لديهم من الذكاء ما يمكنهم من تمييز الخط الفاصل بين الحق والباطل في أكبر الأمور وأصغرها علي السواء، ومن الشجاعة ما يجعلهم يصرون على الجهل بالحق ومعارضة الباطل .

هذا النوع من الكتاب تجده لا يكاد يقترب من السلطة حتى يبتعد عنها، إذ إنه حتى في أكثر العهود صلاحاً وإخلاصاً، يزعج السلطان بذلك الاعتداد الغريب بالنفس، وتلك الجرأة الغريبة علي الجهر بالحق . فالسلطان، أياً كانت قوة ميله إلى جانب الحق، لم يظفر بالسلطان، في أغلب الأحوال، إلا بسبب ميل طبيعي لديه في الوقت نفسه إلي الاستبداد بالرأي، ولم ينجح في الاحتفاظ بالسلطان، إلا بدرجة أو بأخرى من القهر.

والسلطان حتي إذا كان يحمل تقديراً دفيناً لهذا الطراز الفريد من الناس، طراز " المعارض الأبدي"، ولا يجد من الحكمة أن يعترف بالخطأ، وعلي الأخص علي مواقع التواصل الاجتماعي، إذ إن للسلطان مصلحة محققة في أن يُظهر هذا الكاتب بمظهر المحق دائماً، الذي لا يخطئ أبداً، ولا يجد من الحكمة دائما أن ينصر المجاهر بالحق على أهل الباطل، إذ إن في ذلك تشجيعاً غير مرغوب فيه على انتشار الكُتاب المعارضين .

لهذا نجد أن العلاقة بين هذا الكاتب المعارض الأبدي والسلطان، حتى في أزهى العهود وأقربها إلى قلبه، قصيرة العمر . إن لم تفُتر بسبب زهد الكاتب المعارض الأبدي نفسه في علاقة تطلب منه السكوت أكثر مما تطلب منه الكلام والتعبير عن موقف، فإنها تفتر لضيق صدر صاحب السلطان به ؛ لما يسببه له من متاعب مستمرة بسبب كونه دائما على حق.

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

.............

أنظر ما كتبة جلال أمين: فتحي رضوان أو السياسة كأخلاق، ضمن كتابه شخصيات لها تاريخ، دار الشروق، القاهرة، 2007، ص 17-18 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم