صحيفة المثقف

خالد جودة أحمد: الأمومة الشاعرة في ديوان "صرخات هامسة"

خالد جودة احمدالكلمة الصادقة البسيطة تستولى علي القلوب المحبة للجمال الأدبي، وإذا كان الناقد الكبير "علي أدهم" قد تحدث في توضيح مهمة اللغة أنها الإيضاح فإن قصائد الشاعرة "شافية معروف" في ديوانها المعنون "صرخات هامسة"، يجمع بين أمرين: بساطة اللغة الشاعرية الغنائية المحببة، وكونه فى الأساس شعر عامي يطرق قلوب البسطاء النبهاء من أبناء شعبنا.

إن البعض للأسف يتخيل أن الثقافة هى التعقيد وقصف المتلقي بوابل من صخور الكلمات وجهم المعانى، والحقيقة أن الأدب الفاعل يحقق غايته بالتواصل الجمالي مع القارئ والتأثير البناء للقيم الإيجابية فرديًا واجتماعيًا.

وحول الديوان ملاحظات شكلية مهمة، أولها ان عنوان الديوان "همسات صارخة"، الذي لم تحمل إحدى قصائده هذا العنوان وإن جاءت القصائد معبرة عنها من وجهة أخرى، والعنوان مؤشر مهم للتناول النقدى بعامة للكتب الإبداعية، بداية لأنه علامة كلية شاملة من قلب النصوص تكون هادية وكاشفة لأفق الكتاب الإبداعي وقصديته، والعنوان يتماس أكثر مع عنوان قصيدة "اقرا السكات" إذ يحمل حدين متضادين الحد الأول الشاعرية الهامسة، والحد الآخر آلام الذات الشاعرة الموجعة الصارخة. وثانيها اتصال العنوان ببنية النصوص ذاتها وترتيبها داخل الكتاب، وهنا تأتي الملاحظة الشكلية الثانية، بوجوب بذل الجهد في الترتيب للنصوص بحيث تأتي النصوص التي تتناول الشأن المجتمعي العام مجمعة بجوار بعضها البعض بل وترتيبها طبقاً للتسلسل التاريخي، فقصيدة "تعبنا كتير" ورقم الترتيب لها قبل الأخيرة، تبشر بتفاؤل أول الثورة المصرية في خوضها جولاتها المتتابعة، بينما قصيدة "الحقيقة أنتو انكشفتوا" تأتي في منتصف الديوان وهي في مرحلة زمنية ثورية تالية عن تجاذبات حصلت ودورها الأسيف كما ترى الشاعرة، بينما أتت مجموعة قصائد اجتماعية مترابطة عضويًا متفرقة في أنحاء الديوان ويمكن أيضاً ترتيبها مرحليًا.

وأرى أن الناحية الشكلية هنا مثلت تنوع قصائد الديوان وتداخل تيمات الشأن الاجتماعي مع الموضوع السياسي، بل كانت القصائد ذاتها منوعة من حيث الشكل الفني فكانت الرباعية الأخيرة "بسمة شهيد"، وأتت مطولة بقصيدة "عشان خاطرك"، وأتت المقطوعة القصيرة التي تحمل لغة إشارية متميزة فنًا ومعنى "اقرا السكات"، وأتت قصائد أخرى في أطوال منوعة، كما كان التنوع شاملًا قصائد ذات معاني وأداء تقليدي شيئاً ما، وأخرى مبتكرة طريفة، حتي عناوين القصائد تنوعت بين حرف النداء "يا ..." في أكثر من قصيدة، وهى لفتة شاعرية عن المناجاة المحببة في وجدان الشعراء، وعناوين أخرى مباشرة تكشف مرمى القصيدة في وعى القارئ بيسر شديد، وأخرى محدثة لا تسلم ذاتها بيسر هكذا للقارئ، مثال قصيدة "عولمة" التى عبرت عن موضوع القصيدة لكن لا يدرك القارئ قصدية الذات الشاعرة سوى بمطالعة متن القصيدة ذاتها.

وفي القصائد مجموعة قصائد اجتماعية لطيفة تعد من وجهة نظرى أجمل مجموعة القصائد، لترابطها والروح الساكنة في رحابها، ولملمح الأمومة العذب المؤدي عنه ببساطة تعبيرية آسرة تسر الناظرين، وكان مفتتح تلك القصائد -طبقاً لترتيبى الخاص- قصيدة "يا وحشانى"، والتي تبدأ بدفقات شعورية عذبة: "يا وحشاني / يا شايلة الدنيا ف عنيكي / وساكنة جوّه أحلامي / بناجيكي.. واناديكي / وطيفك هوّه إلهامي / وبسمع ضحكة مكسوفة / ودقة قلب ملهوفة / تنادي عليكي: وحشاني / وقبل عنيه متشوفك / بحس ان انتي سكناني / واحس انك في وجداني / وقلبي قال لي عن اسمك.. / وعن رسمك / ولون الحنة في إديكي.. وورَّاني"، والهدف التربوي رغم رومانسية القصيدة ظاهر للعيان، تقول الشاعرة –ضمنًا- إن أساس الأسرة الناجحة هو أساس الاختيار الصحيح في الزواج، وتأتي قصيدة "عروسة جمالها رباني" وفي متنها جميعه نرى روح التراث الكريم حيث الذات الشاعرة كأنها المرأة العربية الحكيمة توصي ابنتها قبل ليلة بدء حياتها الزوجية بمدخل حسن حيث مدحت جمالها، وصكت ضربات فلب الأمومة السعيد كلمات راقصة علي السطور، في وسط هذه البهجة أتت النصائح "يا بنتى زوجك الجنة"، ثم جاءت القصيدة الطريفة "حوار مع جنين" أو بشكل أدق مطالعة الذات الشاعرة لخواطر جنين يحيا في بحر من الحنان برحم الأمومة الرحيب، وتأتي المحنة والامتحان لدي خروج الجنين ليختبر الحياة ويؤدي رسالة المبادئ الرفيعة كما أرادت الأمومة الشاعرة، وتأتي المقطوعة الاجتماعية اللطيفة الأخرى "أنا مسامح" ترياق إنساني للحياة الأسرية الرغدة: "أنا آسف.. أنا غلطان / تعالي من جديد نبدأ / تعالي نجرب الغفران / تعالي للأسى ننسى / ونتعلم بقى النسيان / تعالي يا زوجتى نتصالح / عشان العشرة دي باقية / عشان راقية / حيطان البيت ضحكتنا / عشان بيتنا"

والحس القيمي واضح في أداء القصائد سواء بالمنهجية والأفكار النبيلة الراقية في تيمات الكتاب الإبداعي الموضوعية، أو في التفاعل مع القصص القرآني خاصة قصة سيدنا موسي (عليه السلام) في بعض مواضعها خاصة موضع السحرة ودورهم في المجتمعات، وظهر هذا التوجه النبيل أيضاً في الأمومة الشاعرة حيث الذات الشاعرة تقدم طموح الذات النسائية المؤمنة في لقاء أمهات المؤمنين وسيدات أهل الجنة: (إدعيلي يا طير أشوف سيدي النبي العدنان / ويقول لي أهلًا تعالي.. دخّلها يا رضوان / مدي الإيدين سلمي على أمهات الجنان / ياخدوني في حضنهم واحس منهم بالحنان / فاطمة وأسية وخديجة.. مريم معاهم كمان).

ويشرق الحس القيمي في فهم أن حقيقة الدين هو تفعيل النصوص الشريفة ونقلها من عالم المثال لتكون واقعاً حياً، وأن درب العبادات يبتدئ وينتهي بالمعاملات النابهة الحسنة لعبادات سليمة القصد، وتقدم القصائد الإدانة لأصحاب الأفهام السقيمة والتطبيق المعوج، فانتصار الخادمة المشنوقة علي جدران القسوة واللارحمة يحمل وزر موتها من أفقروا البلاد والعباد وسعوا في الأرض بالفساد، وأيضاً علي المتدينين الذين لا يرتقي إيمانهم حتي يصلح الحياة: "آه يا انتصار / موتك يا حلوة دا انكسار / موتك يا بنتي ألف عار / على اللي حاكمين البلاد / حاميين وحارسين الفساد / وعلى اللي فاكرين التدين / إنه جلسة مقرأة"، وجاءت إشارات أخرى مبطنة في قصائد أخرى بالديوان حول هذا المعني العميق.

ويأتي الهم السياسي بجوار الناحية الاجتماعية، وتطغي أيضاً عليها الأمومة، حيث أمومة الوطن، والوطن الأمومة، فقصيدة "صرخة ولد" تتحدث فيها مصر الأمومة وهي تجتاز مرحلة المخاض العسير بربيعها المعذب بأحلام الحرية، وفي قصيدة "في عز الخوف" أم الشهيد تتحدث، ويبدو حديث الثورة شائع في عدد من قصائد الديوان، وتأتي في إطار رعاية الذات الشاعرة للهامش وجعله متناً إبدعياً –كما يقول النقد الأدبي- ففي قصيدة "شوارعنا" لقطات فوتوغرافية لعين الذات الشاعرة الطوافة، ورغم طبيعية القصيدة هنا لكن حشد التفاضيل جعلت منها قصيدة جيدة ترصد السلبيات وتقول فناً عن بواعث الفوضي وسر الداء "كتيره ليه كوارثنا في شوارعنا"، وفي القصيدة التعاطف مع الباعة الجائلين تلك الفئة الاجتماعية التي تسكن مناطق حدية بين الفوضى ومحاولة كسب العيش الحلال فلا قدم لها المجتمع هذا العيش الإنساني المستحق ولا ترك لها تحاول كسب لقيمات، وفي قصيدة أخرى نجد الانحياز للهامش "انتصار" هذا العلم الذي يحمل الاسم ذاته ملمح السخرية الداكنة  والإدانة فأي انتصار والمجتمع جميعه مهزوم ومصلوب علي مذبح الفقر والفاقة.

ونأتي لقصيدة "اقرا السكات" وهى ومضة شعرية تبعث حس القارئ للتأويل: "اقرا السكات / على شفتين ملوا الغنا / وخلصوا حكايات / وشوف عنين اشتكت / واقرا رسايلهم / من دمعتين ساكنين / وغلبت احايلهم / لاهما نزلوا وريحوا عيوني / ولا هما نشفوا / وسامحوا في اللي فات / اقرا السكات / وشوف سراب حلم اتنسى / ووسعت المسافات / واسمع لصوت موج السكوت / على شط بحر الأمل)، فللصمت معاني وحديث وموج متدفق، تعبر عن أثقال الحزن تموج في الذات الشاعرة فتعمد للبوح، وتشير للقارئ أن يؤول ويقرأ ما بين السطور، ويجتني كنوز الصمت.

وتبقي أن نؤكد القول بكون البساطة التعبيرية المنطوية في أمومة شاعرة تجعل لهذه الديوان مذاق الأدب القيمى حلو المذاق.

 

خالد جودة أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم