صحيفة المثقف

علاء شدهان القرشي: القول في الآيات العلمية في القرآن

علاء شدهان القرشييُــقْــــصد بمصطلح: الآيات العلمية في القرآن، الآيات التي "تشرح" أو "تصف" ظاهرة من ظواهر الكون أو الحياة. ووصفها بــ (العلمية) يحيل إلى العلوم (Sciences)، بحقولها ومجالاتها المختلفة، والعلوم أعم من: (Natural sciences،Engineering and ، technology، Medical and health science، Agricultural sciences).

تضم هذه (Natural sciences) مجموعة من العلوم تحت صنفها كما يلي:

علم الأحياء (Biology)، علم الكيمياء (Chemistry)، علم الفيزياء (Physics)، علوم الأرض (Earth science).

كما تضم هذه (Engineering and technology)، مجموعة من العلوم في ضمنها:

الهندسة الميكانيكية (Mechanical engineering)، الهندسة الكيميائية والتحويلية (Chemical & process engineering)، الهندسة الصناعية والتصنيعية (Industrial & manufacturing engineering)، الهندسة الجيوماتيكية (Geomatic engineering).

كما تضم هذه (Medical and Health Science) مجموعة من العلوم ضمنها أيضًا:

علم التشريح (Anatomy)، طب القلب (Cardiology)، علم الوراثة (Genetics)، علم المناعة (Immunology)، علم الطب العام (Medicine)، علم التغذية (Nutritional)، الطب النفسي (Psychiatry).

وهناك علوم تدخل ضمن العلوم أعلاه، مثل علوم الزراعة وغيرها.

فيكون معنى الآيات العلمية: تلك الآيات التي تتحدث عن ظواهر مختلفة تناولها العلم (Sciences)، أو [يمكن] أن يتناولها العلم. بتعبير منطقي: هي آيات علمية بــ [الفعل]، أو بــ [القوة].

بالفعل، أي: فسّر العلم بعد مرور 1400 سنة هجرية، هذه الظاهرة أو تلك، وكان تفسيره مطابقًا لنص الآية المعنية بتلك الظاهرة.

بالقوة، أي: [يمكن]، من خلال أدوات العلم الطبيعي، أن يفسر هذه الظاهرة أو تلك، بتفسير يطابق نص الآية المعنية بتلك الظاهرة.

يذهب بعض المتخصصين في العلوم إلى أن الآية التالية من الآيات العلمية، حيث فسرت العلوم الكونية (Cosmology) نشأة وولادة الشمس والقمر تفسيرًا تحدثت عنه هذه الآية قبل 1400 سنة هجرية. قالوا: جرم القمر كان مشعًا أول ظهوره، كشعاع الشمس، ثم (محى) الله نوره، وحوله إلى صخرة كبيرة تدور حول الأرض، وأبقى على شعاع الشمس، ليستقيم بذلك الليل والنهار على كوكب الأرض.

(وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا).

كتبت قديمًا عن أن هذا المنهج (= التفسير العلمي للقرآن) هو منهج يشكل خطرًا على القرآن، فضلًا عن أنه منهج لا يصمد أمام النقد والتحليل وتفكيك المفاهيم. لأننا نحتمل أن يهدم اكتشاف علمي أحدث اكتشافًا علميًا أقدم منه، وبذلك يهدم ما أسسه هذا المنهج العلمي في تفسير القرآن فهمه للآية التي كان قد قرر أنها تنسجم مع الاكتشافات العلمية الأقدم. بتعبير آخر:

يبني المفسِّر العلمي (أي الذي يتبع المنهج العلمي في التفسير) فهمه للآية على أساس اكتشاف علمي، مثل: نظرية تمدد الكون (Expansion of the universe)، وقوله تعالى: (وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)، بينما يشكك علماء الكونيات اليوم بهذه النظرية، أو يطرحون أرقامًا تهدد تماسكها المنطقي والعلمي، وربما سيصلون إلى نتائج جديدة كما في حالة فريدمان وفريقها في جامعة شيكاغو.

كما أن الفرضيات حول ولادة القمر مختلفة، هناك من يعتقد أن القمر نشأ من اصطدام كويكب بالأرض، مما سبب انفصال جزء منها ليشكل القمر. وهو خلاف النظرية المتقدمة، وهكذا ما زال العلم يفترض ويتحقق ويختبر فرضياته.

أما إذا أردنا أن نفهم هذه الآية، فما علينا سوى اتباع المناهج المناسبة لموضوعاتها. مثلًا: في الموضوع القرآني، علينا اتباع المناهج الأدبية العربية: اللغة، ومباحث الألفاظ، واللسانيات الحديثة، والتأثيل، وتاريخ اللغات، ودراسة عصر النزول، وأسبابه ...الخ، لنكتشف المعنى المقصود، أو نقارب فهمه المراد. ثم نكتشف موضع الهداية فيه، فالقرآن يهدي للتي هي أقوم.

بعيدًا عن التفسير العلمي ومخاطره وضعفه، يمكننا فهم الآية كما يلي:

بما أن كلام الإمام هو إمام الكلام، فأذكره أولا، ثم أذكر الأقرب زمنيا منه ثم الأبعد:

رأي الإمام علي 41 هجرية: تفسير عبد الرزاق الصنعاني 211 هجرية:

قَالَ شَهِدْتُ عَلِيًّا وَهُوَ يَخْطُبُ وَيَقُولُ: سَلُونِي فَوَاللَّهِ لَا تَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ يَكُونُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِلَّا حَدَّثْتُكُمْ بِهِ وَسَلُونِي عَنْ كِتَابِ اللَّهِ، فَوَاللَّهِ مَا مِنْ آيَةٍ إِلَّا وَأَنَا أَعْلَمُ بِلَيْلٍ نَزَلَتْ أَمْ بِنَهَارٍ وَأَمْ فِي سَهْلٍ، أَمْ فِي جَبَلٍ، فَقَامَ إِلَيْهِ ابْنُ الْكَوَّاءِ، وَأَنَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَلِيٍّ وَهُوَ خَلْفِي فَقَالَ: مَا {وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا}  فَقَالَ له عَلِيٌّ: وَيْلَكَ سَلْ تَفَقُّهًا وَلَا تَسَأَلْ تَعَنُّتًا، {وَالذَّارِيَاتُ ذَرْوًا} الرِّيَاحِ. {فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا} السَّحَابُ {فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا} السُّفُنُ {فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا} فَقَالَ: هُمُ الْمَلَائِكَةُ , قَالَ: أَفَرَأَيْتَ السَّوَادَ الَّذِي فِي الْقَمَرِ مَا هُوَ؟ قَالَ: أَعْمَى سَأَلَ عَنْ عَمًى أَمَا سَمِعْتَ اللَّهَ يَقُولُ: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} فَذَلِكَ مَحْوُهُ السَّوَادَ الَّذِي فِيهِ...

مقاتل بن سليمان بن بشير الأزدي بالولاء 150 هجرية:

وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ يعني علامتين مضيئتين فكان ضوء القمر مثل ضوء الشمس، فلم يعرف الليل من النهار، يقول الله- تعالى: فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ يعني علامة القمر فالمحو السواد الذي في وسط القمر، فمحى من القمر تسعة وستين جزءا فهو جزء واحد من سبعين جزءا من الشمس فعرف الليل من النهار وَجَعَلْنا آيَةَ يعني علامة النَّهارَ وهي الشمس مُبْصِرَةً يعني أقررنا ضوءها فيها لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ يعني رزقا وَلِتَعْلَمُوا بها عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا.

تفسير يحيى بن سلّام 200 هجرية:

 قَالَ: {فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ} قَالَ قَتَادَةُ: وَهُوَ السَّوَادُ الَّذِي فِي الْقَمَرِ. قَالَ يَحْيَى: وَيُقَالُ مُحِيَ مِنْ ضَوْءِ الْقَمَرِ مِنْ مِائَةِ جُزْءٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ جُزْءًا وَبَقِيَ جُزْءٌ وَاحِدٌ.

ابن فارس، معجم مقاييس اللغة 395 هجرية:

(مَحَوَ) الْمِيمُ وَالْحَاءُ وَالْحَرْفُ الْمُعْتَلُّ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى الذَّهَابِ بِالشَّيْءِ. وَمَحَتِ الرِّيحُ السَّحَابَ: ذَهَبَتْ بِهِ. وَتُسَمَّى الشَّمَالُ مَحْوَةً، لِأَنَّهَا تَمْحُو السَّحَابَ. وَمَحَوْتُ الْكِتَابَ أَمْحُوهُ مَحْوًا. وَامَّحَى الشَّيْءُ: ذَهَبَ أَثَرُهُ.

المحكم ابن سيده: 458 هجرية:

والمَحْوُ: السوَاد الذي فِي الْقَمَر، كَأَن ذَلِك كَانَ نيرا فَمُحِيَ. وأصبحت الأَرْض مَحْوَةً وَاحِدَة، إِذا تغطى وَجههَا بِالْمَاءِ حَتَّى كَأَنَّهَا مُحِيَتْ.

المحو والمحق متقاربان لغة واستعمالا، فمحق الشيء ذهابه ونقصانه، وكذلك المحو، ولكن يختلفان في درجة النقصان والذهاب. والذي فهمته مما مضى أن المحو ذهاب ونقصان لشيء ذهابا دائما، كمن تذهب عينه، فذهابها دائم، وكالسواد الذي يرى في القمر فإنه دائم، وأما محاقه فهو مؤقت، ريثما يستكمل، ويحدث ذلك كرارا ومرارا.

والمحو أعم من المحق، فهو يشمله ويتضمنه، كما في حالة محو نور القمر بنور الشمس، حين يكون نور الشمس في النهار أقوى، مع وجود القمر في كبد السماء باهتا ضئيلا.

من خلال المحو والمحق، يتمكن الناس من حساب الأيام، فولادة القمر إلى محاقه أو امّحائه، تستغرق شهرا قمريا، ينقص فيها القمر يوما بعد يوم نقصانا يعرفه العرب بأبصارهم، لذلك فإنهم وضعوا لكل يوم اسما، ورقما، ولحالات القمر كلها أسماء، فلو افترضنا أن أحدا ما أضاع اسم اليوم العادي (جمعة أو سبت أو أحد)، فإنه سيعرف موضع يومه من الشهر بمجرد النظر إلى القمر. ولكن كل هذا ذهب الآن وأصبح الناس يحملون أيامهم في جيوبهم أو معاصمهم. ولا يخفى كيف أن الشمس تميز الفصول السنوية، وللعرب تقويم موسمي أو زراعي يعتمد على الشمس والنجوم.

وبصرف النظر عن هذا وذاك، فإن القرآن ليس بصدد الحكاية عن (كيفية) الصنع والخلقة، ولا شرح النظم والقوانين والمعادلات التي أنتجت ما نراه من ليل ونهار وشمس وقمر، ولكنه بصدد الهداية للتي هي أقوم.

ولا تحصل الهداية إلى الأقوم إلا بصلاح المحتوى الداخلي للإنسان، ولا يصلح هذا إلا بالإيمان باليوم الآخر، فمن دونه – على مستوى العموم – ترتفع المسؤولية، يشعر المرء أنه لن يُسْأل عما يفعل، لن يكون هناك من سيسأله، وهذا هو ارتفاع المسؤولية، وهذه هي مشكلة أهل مكة المشركين المنكرين للآخرة والمعاد، وإن كانوا يعترفون بوجود الله ولا يشكون طرفة عين بأن للكون خالقا متعاليا. مشركو مكة أكثر إيمانا من ملحدي هذا الزمان. ومن أدوات التفهيم للوصول إلى الإيمان بالمعاد هو النظر في آثار الله، أي: في الكون، فهذا من شأنه أن يجعل فكرة المعاد والحياة بعد الموت أمرًا معقولًا، وهذا ينطق به القرآن دائمًا كلما أراد أن يقارب فكرة المعاد. فمضمون كلامه مع منكري المعاد: كيف تستبعدون وتنكرون المعاد!؟ مع أنكم ترون من حولكم ظواهر كونية يومية وشهرية وسنوية ودهرية من شأنها أن ترجّح كفة الحياة بعد الموت، وتُــعَــقْــلِنـــها، وترفع احتماليتها، أي: أن اختلاف هذه الظواهر من حولكم تجعل فكرة المعاد مشروعة (legitimate inference)، وليست مما ينكره العقل كما تفعلون.

القرآن يحكي عن آثار الله وبديع صنعه وكمال خلقه وقدرته. وترك لعقولنا اكتشاف (كيفية) الصنع، ودعانا في القرآن مرارا إلى إجالة النظر في الأرجاء، وتجاوز وجودنا المحدود خطوة إلى الأمام.

 

بقلم: علاء شدهان القرشي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم