صحيفة المثقف

نورالدين حنيف: سيكولوجية الذاكرة الانتخابية

نور الدين حنيفالبديهي في هذه الذاكرة أنّ مُعدّل المواطن في المشاركة السياسية في المشهد السياسي المغربي مُعدّلٌ مرتفع، لا أملكُ فيه رقْماً دقيقا. ولكنّ البداهة السياسية تبيح لنا التخريج التالي: إنّ أقلّ مشاركة للمواطن المغربي لا تنزل عن معدّل عشر مشاركات في عمره افتراضاً لا إحصاء، في حالةٍ يكون فيها هذا المواطن ملتزما بالمشاركة بشكلٍ دؤوبٍ ولا يُفلتُ منها ولاية واحدة، وعمره يتراوح بين الستين والسبعين عاما.

تُفيدنا هذه المقدمة في تأويل علاقة المواطن بالمشهد السياسي، وهو يكرّر في حياته نفس الأخطاء، ونفس الأكاذيب، ونفس التلاعبات ونفس الخيبات ونفس الصدمات ونفس أشكال الوعود وأضرب الإخلاء بها في مسلسلٍ سياسي أو شبيه بالسياسي يكرر ذاتَه في عبث مجنون وفي جنون عبثي يعيد الصورةَ ذاتها، في تاريخية غير مفهومة داخل نسق الاعتبار.

هناك إذن ذاكرة، وهناك مواطن، يعشق أن يُكْذَبَ عليه. ويحبّ أن يقرأ تاريخه الشخصي في علاقته بالمشهد السياسي قراءة انتقائية، تعزل الخبيث عن الطيب، وتُطبّل للسلامة الاِتّكالية، وتفرح لثقافة المهادنة. وهناك في آخر المطاف ذاكرة سياسية مريضة تستحق أكثر من بحث وتستحق أكثر من تحليل. إنها ذاكرة عاجزة عن تسجيل المعلومة وتوثيقها، وعاجزة عن قراءتها قراءة تفكيكية تعتبر الماضي لاستثمار المستقبل. إنها ذاكرة متسامحة فوق العادة.

وفي غير تعميم نقول إن المواطن لا يحمل في فكره موقفا كامل التكوين إلا في الحالات النادرة التي تكون فيها الثقافة واعية لا حشوية ، والنادر لا يحكم القاعدة، وبالتالي فهذا المواطن لا يملك ذاكرة محللة بالمفهوم التفكيكي والتأويلي أو على أقل تقدير، بالمفهوم الاعتباري المستخلص للدروس والعبر. ولا يملك القدرة القرائية التي تؤهله إلى مراقبة تاريخ مشاركته الشخصية في المشهد السياسي واستجلاب دروس اللحظة والراهن والاستقبال. إن هذا المواطن يشبه إلى حدّ ما ذلكم القط الذي سرعان ما ينسى أن سيّده قد خنقه بالأمس القريب حتى كاد أن يقتله. ومع ذلك كلما قدّم له الطعام انبرى القط إلى المصالحة والتسامح وطيّ صفحة الماضي لبدء أخرى أكثر عماراً، بل أكثر وهما.

وهي الصفحة التي طواها المواطن قبل الاستحقاق الأخير، وقبل قبل الأخير، وقبل العاشر والتاسع والثامن... وهكذا في مسلسل تراجعي تشبه مقدمته نتائجه ورأسه ذيله.

تمثل هذه الحالة النفسية مظهرا من مظاهر المثالية الارتدادية التي لا يكون فيها المواطن جادّاً في حياته السياسية، ولا يكون فيها حاسباً لمقتضياتها كما يحسب مدخوله الشهري ومصاريفه، على اعتبار أن الحياة ترتبط في نظره القاصر بما هو حيوي، والحيوي عنده هو دائرة المأكل والمشرب والملبس، وما جرى مجرى ذلك وكان بوظيفة سدّ الحاجة المادية... في حين أن الحاجة المعنوية، ومنها مصيره السياسي، فلا يملك إزاءه مثل هذه القوة في النظر وفي الفعل، والتي يحرص فيها حرصا شديدا على إشباعها.

لا تلتفت هذه المثالية الارتدادية إلى عمق الظاهرة، بل تلتفت إلى قشورها حيث تمارس الذاكرة الجمعية سلطتها على الفرد، وتؤطّر فيه دروب التذكر والتمثل والتفكر، وتدفعه راضيا إلى عملية المسح بالمعنى الإلكتروني ( formatage )، بحيث لا يبقى في هذه الذاكرة إلا ما هو مشرق وجميل بين قوسين. والمشرق الجميل هنا هو المتسامح، والمتسامح هو المتنازل في ضعف عن اللحظات القوية التي كان تبنّيها فرصة لصناعة المواطن القوي، لكنه فضل أن يرمي بمعطيات هذه القوة الكامنة رميا جذريا في سلة المهملات.

إننا أمام أزمة نسمّيها الذاكرة الجمعية التي تضع المواطن في كفّتين: كفة المشاركة بتداعياتها المسؤولة والعامرة، وكفة المسالمة الباحثة عن الأمن أو بالتعبير الصحيح عن وهم الأمن. ويعني ذلك أن المواطن يتحول من كائن معنيّ بمسلسلات المشهد السياسي الذي يهمّه بالدرجة الأولى، إلى كائن مغترب عن هذا المشهد، ويصبح مجرد موضوع عابر تحدّه قبضتا كماشة قويتان، فلا يجد بدّاً من تحديد لاموقفه الباني انفلاته من ثقافة التبرير، وبالتالي يختار هذا المواطن بدل المواجهة قرارَ المهادنة.

أعتبر هذه المهادنة عتبة أساساً يعبرها السياسي الذي يختلف عن المواطن بقدرته على المغامرة بمشروع القيم في المشهد مسلّحا بديماغوجية فرد

ية وأخرى جماعية (الحزب مثلا)، وهما تمكنان السياسي من تحجيم هالته الكاسية لنواةٍ موضوعُها كائنٌ مفرد وضئيل ومتقزم ونكرة. وهي وضعية نووية يتنكر لها السياسي كشرط نجاح في الفعل السياسي وكتأشيرة ضامنة لعبور المشهد من بابه الواسع (الواسع بين قوسين).

هنا، وهنا بالذات تتبدى المعادلة بطرفين: طرفٌ يختصر وضع المواطن المتردد والمثالي والظامئ لتصديق الوعد بالجنة السياسية الأرضية. وطرف ثانٍ يختزل السياسي الداهية الماسك ِ العلاقةَ بقبضةٍ من مكر مُغلّف بكل لبوسات القيمة الإنسانية النبيلة والحاملة للبرامج العسلية... وبين الطرفين يمتد جسد السياق السياسي أو الظرفية السياسية، أو المسار الاجتماعي كعامل مساعد يبلور العلاقة في هذا الاتجاه المنحرف والمرَضي والمكرس للتناقض والمفارقة والمظاهر الخادعة.

أترجم هذه الحالة المفارقة بحضور الفراغ السياسي في تجلّيه البسيط عبر البوابات الأولى لتفعيل المشهد. وهو الفراغ الذي يتعملق مارداً بين وضعيتين:

وضعية المواطن الطوباوي ووضعية السياسي الماكر. داخل هذا التوزيع الوجودي تتمسرح ظاهرة الكذب السياسي لتفعل فعلها العبقري في ترميم العلاقة بين كاذب ومكذوب عليه، وفيها يتحول كلا الطرفين إلى كائن متلذذ بهذه اللعبة وبتداعياتها الغزيرة، تطمينا للذات المشطورة وتسويفا لغد لن يأتي موعده. ومن هنا نفهم لمَ يرفع السياسي سقف الوعود ويزخرفها في ذهنية مواطنٍ اكتوى بالأمس القريب بصدمة الإخلاف والإخلال بالبرنامج الحزبي المعسول. والمُفارق في هذه الصدمة أن المواطن هو من يحمل هذا السياسي الكاذب إلى مقرات الجماعات والجهات على أكتافه. وهو من يعبّد له الطريق مفروشا بكل التسهيلات الممكنة. وهو من يعلم علم اليقين أنه خانه بالأمس... إلا أنه يُعطّل ذاكرته على الاشتغال المحلل والمقارن والمستخلص للدرس التاريخي القريب.

و لفهم هذه الظاهرة لا ينبغي تأويلها في سياقها الموضوعي المرتبط بسلوك الإنسان في علاقته بذاكرته البشرية، وإنما ينبغي قراءته في سياق متحول هو سياق السلوك السياسي وبسلوك المواطن لا الإنسان، وبسلوك المرَشِّح والنّاخب ومسؤولية الناخب لا بسلوك الفرد المعزول عن سياق المشاركة. في هذا المنعطف نفهم لِمَ يزْورّ المواطن عن قراءة التاريخ الانتكاسي لمشاركاته المتعددة والتي تنتهي بنفس الخيبة. إننا أمام ظاهرة أشكالية ومركبة لا أمام ظاهرة إنسانية تنفع فيها عمليات التنظير من خلال تركيم النتائج المُستقرأة في مضانّها. من هن نقرأ الظاهرة كالتالي:

- درجة الصفر: ويتعلق الأمر بالمواطن المشارك في اللعبة السياسية الذي يدخلها انطلاقا من وضعية الفراغ، فلا يحدث في الغالب أن يكون هذا المواطن قد راكم ثقافة سياسية تؤهله لكي يحسن الاختيار أو على أقل تقدير، يحسن اتخاذ الموقف.

- تأثير الميديا: وهنا مربط الفرس، وخاصة إذا تعلق الأمر بميديا خارجية تبدو فيها اللعبة السياسية ناجحة تعطي المثال في النزاهة والشفافية والرقابة الصارمة. وينسى المواطن في المغرب أو في العالم الثالث أن الأمر ينبغي قراءته في سياق الاستنبات، وأن بريق التجربة السياسية الغربية تحكمه شروط موضوعية خاصة بذلكم البلد وبتلكم الأرض وثقافتها وتاريخها، بشكل يدعو المواطن السياسي المغربي إلى إعمال فكره إعمالاً عقليا حتى لا يسقط في التقليد. إن الميديا في هذه الحالة لا تقدم التجربة البرّانية في موضوعيتها، وإنما تقدّم منها ما يدغدغ عاطفة قريبة ويجذب شعورا مائلا إلى الانجذاب وحسّاً غاضبا على الداخل ومستعدا لمعانقة أي شيء يأتي من الخارج، انتقاما للحظة الخذلان الموهومة.

- تأثير البيئة. ونقصد بذلك الوسط الذي يحتضن هذا المواطن، وهو وسط يمدّه بمجموعة من التمثلات المغلوطة عن الفعل السياسي، بما يؤثر على تلقّيه السياسي ويخدم اتجاها واحدا هو تفريخ ثقافة سياسية نكوصية وانتكاسية ومترددة وقبل كل شيء، انتقائية لا تقرأ الظواهر قراءة شاملة تفي بالحاجة في الإحاطة بما للظاهرة وما عليها. إن هذه البيئة مجالٌ خصب ومصدر ثرٌّ لمجموع العوامل المؤثرة على سلوكيات الفرد وتوجيهها. ولا ينبغي التقليل من شأن هذه البيئة لأنها في نظر علم الاجتماع السياسي بؤرة قوية لرصد هذه السلوكات المواطنية باعتبارها تقدّم أنساقاً من التفكير الخادمة للنسق السياسي بامتياز.

قاربنا في احتشام شديد مجموعة من مظاهر الذاكرة الانتخابية التي تسم ذاتها بالنسيان، وهو نسيانٌ نسقي تشتغل في تربيبه مجموعة من العوامل، تجعل المواطن ينخدع ويرى بأم عينيه أشكال الخداع السياسي ومع ذلك يعود ليرتكب نفس المشهد في لاوعي منه، وفي لا إرادة... والموضوع إشكاليٌّ لابدّ من طرحه داخل كثير من المباحث لفهم واستيعاب هذه الحالة الغريبة والنشاز.

 

نورالدين حنيف – المغرب

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم