صحيفة المثقف

جانيت ونترسون: حياة القديسين

2656 winterson

بقلم: جانيت ونترسون

ترجمة: صالح الرزوق


في ذلك اليوم شاهدنا ثلاثة يهود يرتدون المعاطف السود الطويلة والقبعات السوداء، ويقفون على سلالم قصيرة متماثلة، وينظرون بقمع آلة إنتاج المعكرونة. هبط أحدهم من سلمه الصغير وذهب إلى مقدمة الآلة حيث كانت المعكرونة تخرج بشكل خيوط برتقالية. حمل بيده شريطين ورفعهما عاليا، فتدليا على معطفه، وظهر كأنه يحمل ميدالية لها شريط. اشتروا الآلة. وحملها الصبي الإيطالي الذي يرتدي قميصا رقيقا، وأودعها بالشاحنة.

وقد اشترى اليهود الآلة ليتمكنوا من إنتاج المعكرونة بشكل حلقات وليبيعوها في المخزن. وكان لديهم متجر لبيع الأطعمة الحلال ودائما أغطية نوافذه نصف مغلقة. أما الأرض فقد تم للتو تمهيدها بألواح الخشب ولذلك لم تكن تلمع، أما طاولة المبيع فقد كانت في صدر المكان ومرتفعة. وكانوا يعملون وهم يرتدون قبعاتهم ومعاطفهم. ويلفون الأطعمة بورق مضاد للدهون. ويكررون ذلك يوميا باستثناء يوم السبت. وحينما وصلت الآلة باشروا بإنتاج المعكرونة، ووضعوا فوق طاولة المبيع الصواني الخشبية، ومدوا على الصواني الورق المضاد للدهون. ثم صفوا حلقات المعكرونة وكانت بألوان يحبونها، ولا سيما البرتقالي، فهم لم ينسوا لون الأشرطة التي شاهدوها أول مرة. وكان المتجر معتما ولكن تنيره المعكرونة بألوانها، وبنفس الوقت كانت الآلة تغني في كل أرجائه وهي تدور.

بالفعل نحن نكون سعداء في الأيام المشرقة. وهذا يحصل لأن الشمس التي تسطع على الجفون تشجع في الجسم الاستقلاب الكيميائي. أيضا الشمس تحول المآقي لخرم إبرة و تقلل من تسلل النور. وحينما تصعب الرؤية تزداد فرصة الوقوع بالغرام. ولا شيء مثل الحب في الصيف، أقول ذلك مع أنني مترددة في الاعتراف بهذه الحقيقة. مع ذلك لدي حكاية سأخبركم بها. وها هي.

في المتجر حيث وقف اليهود كالأحجار الراسخة، مثلما وقف شادراش وميشش وأبدنيغو في الفرن الملتهب، كانت هناك امرأة أحبت أن تشتري أربعة أونصات.

وتدلت في حقيبتها المعكرونة التي سقطت من الميزان بخيوط ملتهبة. وكنت وراءها، قادمة من الشوارع الحارة إلى هذه العتمة الباردة التي تهب على وجهك كأنك مقبلة على الدخول في كنيسة. ماذا ستفعل المرأة بهذه اللفافات الصغيرة المصفوفة على واجهة الزجاج؟.

قبل أن تدفع لهم عدت ما لديها. وطلبت منهم إن كانت الكمية أقل من ستة عشرة أن يضيفوا المزيد، وإن كانت أكثر من ستة عشرة أن يستعيدوا الفرق.

بعد المتجر تابعتها. في البداية بخطوات محسوبة، ومع زيادة هوسي بها، بدأت أتبعها بدوائر أكبر، من المتجر وحتى البيت، فقد دخلت معها في الحديقة العامة ثم تخطينا المستشفى. وفقدت إحساسي بالوقت والمكان وأحيانا كان يبدو لي أنني أسير في صحراء أو غابة ومع ذلك لم أمتنع عن متابعتها. وأحيانا كنا نعبر بمتاهة بدائية من الممرات وفي لحظات غيرها كنا نمشي على طريق ممهد.

الآن أتكلم بضمير الجماعة. لم تكن منتبهة لوجودي خلفها. وللتوضيح احتفظت بمسافة أمان، ولزمت الجانب الآخر من الطريق. ولأنها لم تكن تلاحظني اقتربت منها بما فيه الكفاية لأرى أنها صبغت شعرها، ولكن بلون متموج. وفي أحد الأيام كان يتدلى من تنورتها خيط فقطعته دون أن ألفت نظرها. وبعد فترة بدأت أسير بجوارها. وتوازت خطواتنا دون صعوبة. ومع ذلك لم تترك عندي أي انطباع أنها تلاحظ وجودي. 

فتشت في قسم الكتب النافدة في مكتبة تتاجر بالكتب المستعملة، وأنفقت كل الوقت الإضافي في مكتبة عامة. وتعلمت الفلك ودرست الرياضيات وتمعنت برسوم ليوناردو دافنشي لأفسر لنفسي طريقة عمل طاحونة الماء. وفقدت الصبر لإخبارها بما اكتشفت، وشرعت بانتظارها أمام باب بيتها. وفي خاتمة المطاف قرعت الباب في السابعة صباحا تماما، وفي صبيحة كل الأيام التالية. وكانت دائما جاهزة. وفي الشتاء كانت تحمل مشعلا.

وبعد شهور كنا ننفق طوال يومنا معا. جهزت الشطائر للغداء. ولم تستفسر عن نوع الوجبة ولكن لاحظت أنها تتخلص من الشطائر المحشوة بالسردين.

قالت القديسة تيريزا من أفيلا:”ليس لدي اعتراض على الحب. ويمكن أن تؤثر بي بسمكة سردين”.

وهكذا أنا مع من يفاجئني بدماثته.

في حياة القديسين أبحث عن التطرف. وبالنسبة لهم ليس من المستغرب أن تنفق ليليك على قمة جبل أو أن تنسى طعامك. بالنسبة لهم، الرؤيا والملاحظات اليومية تتلازم. زد على ذلك ليس لديهم أخلاق عادية، ويفضلون الشدة على الراحة. ورغم انزوائهم، يرحبون بالحياة غير المتوقعة، مثل حواجز القضبان الحديدية السود التي تستضيف الهندباء البرية الزاحفة. ويعلمون أنه لا يوجد حب بلا مكابدة.

وحينما أخبرتها بذلك وسواه، التفتت لي وقالت:”منذ ستة عشر عاما كنت أعيش في بلد حار مع زوجي وكان شخصية هامة. وكان لدينا خدم وثلاثة أولاد. وكان هناك شاب يعمل لدينا.  وكنت أتأمل جسمه من النافذة. في البيت عشنا حياة نظيفة، دائما نغتسل ونرش التالكوم لكبت رائحة العرق. ولم يكن شيء يقلقنا لا الليالي الثقيلة ولا حر النهار. وكنا نتأنق بملبسنا. 

’ذات ليلة، حينما كانت الألواح تهتز بسبب الأنواء مر بنا، وكنا نجلس ونقضم القليل من البسكويت ونشرب الشاي، وألقى إلينا سلتين من الليمون على الأرض. وكان مرهقا حتى أن محتويات السلتين اندلقت على الأرض ثم ركع على ركبتيه قرب قدمي زوجي. نظرت للأسفل وشاهدت جوارب زوجي السود داخل حذائه الأسود. ركل ليمونة بأصبع قدمه. تسللت تحت الطاولة وجمعت ما بمقدوري. وكنت قادرة على شم رائحة الشاب، فقد فاحت منه رائحة النهار والشمس. صالب زوجي ساقيه وسمعته يقول:”لا ضرورة لذلك يا جين”.

’ لاحقا، حينما أطفأنا المصابيح، وذهبت لغرفتي وتوجه ستيفن إلى غرفته، كان إبطاي متعرقين ووجهي متوهجا كأنني شربت حتى الثمالة.

’وعلمت أنه سيأتي. تخليت عن مئزري الليلي أربع أو خمس مرات، وأنا أفكر كيف يجب أن أحييه. لكن لم يكن الأمر مهما. لا آنذاك ولا بعد ذلك. ولا في أي وقت خلال الشهرين التاليين. وانتفخ قلبي. كان لي قلب حوت. أوعية قلب الحوت عريضة جدا ويمكن لأي طفل أن يزحف داخلها. واكتشفت أنني حامل.

،في الليلة التي أخبرته بالخبر، أنبأني أنه سيغادر. وطلب مني مرافقته فنظرت للشرفة وللمصابيح وكان باب ستيفن موصدا ولكن كان باب الأولاد مواربا. نظرت لجسمه. وقلت له إنه يتوجب علي أن أنتظر هنا فوضع رأسه على بطني وشرع بالبكاء.

’وفي اليوم الذي غادر به استلقيت في غرفتي وحينما سمعت صوت طائرته يهدر فوق البيت، ربطت رأسي بمنشفة. فتح ستيفن الباب وسألني:”هل ستبقين هنا؟”.

’أخبرته أنني باقية. فقال:”لا تقولي ذلك مجددا أبدا”.

’وفعلت كما طلب. لم أكرر ذلك ولا سواه’.

مشينا بصمت. وتابعنا المشي في ساعات النهار حتى وصلنا عندما خيم الليل وشاهدنا قلعة يحميها خندق. ورأينا أسودا تحرس البوابة.

قالت:”سأدخل الآن”.

نظرت من داخل غمامة أفكاري للأعلى ورأيت بيتا عاديا تتقدمه حديقة جميلة فيها زوج من الهررة الأليفة التي تغسل مخالبها. أين القصة وأين الحقيقة؟. هل يمكن لامرأة لم تتكلم لمدة ستة عشر عاما، باستثناء ما يلزم لطلب أربعة أونصات من الطعام، أن تدخل الآن إلى هذا البيت المزدحم بكل شيء؟. أليس من المحتمل أن تختفي في المملكة السحرية وتتركني على الطرف الآخر من المياه، وحنجرتي مسدودة بمشاعر تقاوم الكلمات؟.

تبعتها وسرت وراءها فوق الخندق ورأيت صورتينا المطبوعتين على المياه. ورغبت أن أمد يدي للأسفل وأحمل صورتها بيدي، وأسكبها لتسيل على جسمي حتى يصيبنا البلل. وتمنيت لو يمكنني السباحة في داخلها. عبرنا الخندق. أطعمتني الملفوف المسلوق. سمعت أنه علاج لالتهاب المفاصل. ولم تنطق بكلمة ونحن نأكل.  وبعد ذلك أشعلت شمعة وقادتني للأعلى. وأدهشني أن أشاهد شبكة واقية من البعوض في إنكلترا. 

الوقت ليست مستقرا. والوقت على الأقل حكايات. وأي شخص يمكنه السقوط بالنوم ليخسر أجيالا من الحالمين. الليلة التي أنفقتها معها  شغلت كل حياتي والآن أنا أعيش ملتصقة بنفسي مثل ملف. ليس هذا لأنني بلا اهتمام. والحقيقة أنني مؤخرا كررت رسومات ليوناردو وبنيت لنفسي طاحونة ماء رائعة. أن أكون معها هو ما يسمح لي أن أحقق ذاتي. ولا يوجد ذل ولا عبء في أن تعيش حياة طبيعية. والآن أعلم بالعديد من القصص ومجموعة من الأشياء الغريبة، التي أتساءل عمن قد يريدها، لأنني شخصيا لن أكون عادلة معها. قلب الحوت بارتفاع قامة رجل...

تركتها في الفجر. كان الشارع هادئا، وليس هناك غير هرة، والطنين الكهربائي لشاحنة الحليب. تابعت النظر للخلف نحو الشمعة الموجودة في النافذة حتى ابتعدت عنها وتحولت لنقطة باهتة مثل نجم يذوي. حينما بلغت البيت كانت النجوم باهتة في سماء مبكرة. وهناك الشكل المتراجع للقمر ولا شيء عدا ذلك.

يوميا كنت أدخل المتجر الذي يعمل فيه اليهود واقفين مثل صخور وأشتري الأشياء التي تسعدني. كنت أستغرق وقتا بذلك، الوقت الذي يقاس بأربعة أونصات. ولكنها لم تأتي أبدا.

انتظرت أمام بيتها لعدة سنوات حتى ظهرت لوحة “معروض للبيع”، وأخبرني الجيران أن جارتهم اختفت. شعرت بالسعادة، لأنني علمت أنها تتسكع في العالم، وأنه ذات يوم، في يوم ما قد نلتقي.

متى يحصل ذلك، فكل الحكايات المتضمنة في هذه الحكاية، يمكن استبعادها، والتخلص منها، ولكن حتى ذلك الحين، مثل حياة القديسين، يوجد مضمون أعمق وأوسع مما يمكننا أن نكشف عنه.

الحياة ذاتها تلتف مثل مخطوطة وتأخذ معها الوقت والمكان.

وكل الحكايات تنتهي هنا.

جانيت ونترسون  Jeanette Winterson روائية بريطانية. مواليد 1959. اشتهرت بأول رواية لها بعنوان “البرتقال ليس الفاكهة الوحيدة”، وهي رواية قريبة من السيرة الذاتية عن بنت مراهقة تتمرد على التقاليد. ناقشت في بقية أعمالها مشكلة التقاطب الجنوسي والهوية الجنسية. ولاحقا تابعت مسائل عامة مثل السلوك البشري والتكنولوجيا. حصلت على جائزة وايت بريد للرواية. وهي عضو في الجمعية الملكية للأدباء. من أهم أعمالها: الإبحار للمبتدئين 1985، الحب 1987، مكتوب على الجسد 1992، بيت الأحلام 1998، كتاب السلطة 2000، فرانكستاين - قصة حب 2019....    

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم