صحيفة المثقف

عمار عبد الكريم: حكاية البيروقراطي السادي في دائرة التقاعد ببغداد

عمار عبدالكريم البغداديشهريار: وعدتك في المرة السابقة أن اضرب لك مثلا حيا لعلاج أحد الساديين المترنح تحت عباءة المازوخية، فإن لي مع البيروقراطيين صولات وجولات، وهذا هو حال المراجعين للدوائر الحكومية في المنطقة العربية عامة، إلا ما رحم ربي، فقد قضيت عاما تقريبا في إنجاز معاملة القسام الشرعي بعد وفاة أبي رحمه الله، وكان شرا لابد منه كخطوة أولى لاستحصال الراتب التقاعدي لإمي، في آخر المطاف رمى بي القدر أمام بيروقراطي عتيد في هيئة التقاعد العامة ببغداد، ولأنني مضطر الى اصطحابها معي في كل يوم، وبسبب خطواتها المثقلة بهموم العقود الطويلة كنت أصل متاخرا الى الدائرة، وأقف في آخر الطابور الممتد لأكثر من 30 مترا، أجْلِسُها على مقعد قريب قبل أن ابدأ بعدّ الساعات علّني أصل الى الشباك المنشود لأكحل عينَي بطلعته البيروقراطية، كنت أسترق النظر إليه عن بعد، وقد علا التجهم وجهه، ومن خلفه باب يدخل منه مراجعون قد من الله عليهم بتهميش من (السادي الكبير)، فيترك المراجع الذي يحدثه عبر (شباك المظالم) ويتهلل وجهه بتمشية معاملة القادم من الخلف، الذي أعاده الى خانة المازوخي المطيع، وبعد ربع ساعة أو أكثر يلتفت الى المراجع مرة أخرى ليتجهم وجهه من جديد ويقول للمتشبث بالشباك، المعترض على عدم إحترام الطابور: المعاملة مرسلة من المدير لا أستطيع تاخيرها .

 في اليوم الأول كان بيني وبين (شباك الأحلام) 3 مراجعين قبل أن ينظر إلينا بابتسامة لئيمة ملؤها السعادة وهو يقول: تعالوا غدا إنتهى وقت الدوام.

في اليوم الثاني تكرر المشهد وكان بيني وبينه 5 أشخاص، ولم يبقَ على الوقت الفعلي للدوام إلا 15 دقيقة، أطلت النظر إليه من فوق الرؤوس المطرقة من تعب الإنتظار، وهو ينظر الى ساعته بانتظار اللحظة المناسبة للإبتهاج بانتصار جديد على ضحايا الطابور اليومي، في حينها إرتسمت أمام عيني القبعة العسكرية لهاينرش هلمر قائد القوات الخاصة في جيش هتلر والأب الروحي لمحرقة الهولوكوست حينما كتب رسالة لأحد القادة النازيين وهو دالبرت غراف كوتولينسكي جاء فيها:

(الحبيب كوتولينسكي لقد كنتَ مريضا وقد عانيتَ كثيرا من مرض القلب، من أجل صحتك أحظر عليك ولمدة سنتين ممارسة التدخين، بعد سنتين يتوجب عليك تقديم تقرير طبي، وبناءً عليه أتخذ قراري في رفع حظر التدخين، او أقوم بتمديده .. يعيش هتلر).

إحمرّ وجهي آلما، وتسارعت نبضات قلبي وأنا اتذكر ذلك الإذلال العظيم لقائد عسكري كبير في معركة طاحنة، في تلك اللحظة وقعت عينا (هلمر الصغير) عليَّ، ولم ير مني الا وجها متجهما فاقت ملامحه ساديته المجيدة، إنتبهت الى الشباك وهو يُغلقُ في وجهي لكنني دفعته في اللحظة الإخيرة، ابتسمتُ بإعجوبة وقلت: مازال هنالك 10 دقائق.

بازدراء وابتسامة متعجرف أجابني: معاملتك تتحتاج الى أكثر من نصف ساعة إرجع غدا، ثم أغلق الشباك بقوة .

في صباح اليوم الثالث وصلت مبكرا بعض الشيء، وأنا أحمل في جوفي إبتسامة أقسمتُ ألا تتوقف حتى أصل الى البيروقراطي المتحامل عليّ منذ الأمس، تلك الإبتسامة كانت حصيلة ساعات من السهر والتفكير، قلت لنفسي وأنا أتقلب في فراشي: لو كان كوتولينسكي حاذقا لتحامل على جراحاته، وتجرأ على محاكاة عقلية هلمر في زيارة خاطفة، كان بإمكانه أن يصل إليه بزعم مراجعة خطط عسكرية او أية ذريعة أخرى، وأن يبدي قوة مصطنعة تدرب عليها النازيون كثيرا، وهو يؤدي التحية العسكرية، ويرسم ابتسامة ثقة على وجهه ويقول: سيدي لقد تركتُ التدخين قبل أن تصلني رسالتكم العزيزة، وكنت أود لو أنني مازلت أدخن السجائر حتى أمتثل لأوامركم.

ربما كان هلمر سيشعر بخيبة أمل لضياع معنى التحكم والسيطرة، ويسمح له بالتدخين ولو لإسبوع واحد قبل أن يعلن كوتولينسكي الإقلاع عنه مجددا خضوعا وإذعانا لهلمر .

ذلك الأسبوع هو الأعز في حياة كوتولينسكي لأنه كسب المزيد من الوقت للتدخين وهو الأسعد لهلمر ليعيش التحكم والسيطرة من جديد .

كنت أميل برأسي يمينا ويسارا وسط الطابور بين الحين والأخر ليراني (هلمر الصغير) وأنا مبتسم الوجه ولسان حالي يقول: أحيي فيك إخلاصك في تطبيق القانون، وفي مداخلة سريعة قلت لأحد المراجعين المعترضين على البيروقراطي بعد أن طلب منه مستمسكا (قانونيا) لم يكنْ بحوزته: يارجل أطيعوا القانون .. الموظف يقوم بواجبه وحسب .

رمقني (هلمر) بنظرة ماأذكر أنني رايت مثلها قط، وابتسم برضاً وهو يقول: بارك الله فيك .

ماهي إلا سويعة وكانت هوية التقاعد في يدي، ومازالت الإبتسامة على وجهي حتى غادرت مع أمي منتصرَينِ الى البيت .

شهرزاد: عذرا لكن هل كان ذلك موقف خضوع منك أم خدعة لتمشية الأمور؟

- حينما ابتسم كوتولينسكي في وجه هلمر كان يدرك في قرارة نفسه أنه يكسب وقتا قبل أن يخضع من جديد، وحينما ابتسمتُ أنا شعر هلمر الصغير بالأمن الداخلي وهو أكثر ما يفتقد اليه البيروقراطي السادي، فهو (يطبق القانون) وحسب، وبين الحالتين فرق عظيم لا يغيب عنك ياشهرزاد، فالابتسامة التي رافقتني في اليوم الثالث كانت نابعة من قلبي، لقد إستحضرت، في الليلة الماضية، صفة في البيروقراطي لاغبار عليها إنه يحب تطبيق القانون، ولأنني أدرك أن (هلمر العصر) يتقلب بين السادية والمازوخية ليشعر بالأمان، ولو استحصل على ابتسامة مَحبة واحترام طلما افتقدَ إليها تهاوت لديه الصفتان في لحظة طمأنينة نادرة، ذلك الإحساس الرقيق بددَ رغبته العارمة بممارسة السادية الباردة، وأغلق شباكه وهو يشعر بالرضا لأدائه الواجب، وإنجاز معاملة آخر مراجع في ذلك اليوم، تلك النظرة الممتلئة بالإحترام والمحبة الصادقة أوصلت إليه رسالة مفادها: " نعم أنت تؤدي الواجب فلا تقلق"، أظن أنه عاش يوما نادرا حتى صباح اليوم التالي حينما جاءه إشعار من السادي الكبير أعاده الى المازوخية من جديد.

 

بقلم: عمار عبد الكريم البغدادي

..................................

من وحي شهريار وشهرزاد (19)

مقتبسات من مؤلفي: شهريار من بغداد وشهرزاد من القاهرة

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم