صحيفة المثقف

صادق السامرائي: العراق بودقة أعراق ؟!

صادق السامرائيالعراق يعني شاطئ الماء، أو البحر وسمي العراق عراقا لأنه على شاطئ دجلة.

ويقال إستعرقت الإبل إذا رعت قرب البحر، وكل ما اتصل بالبحر من مرعى فهو عراق.

وأهل الحجاز يسمون ما كان قريبا من البحر عراقا، وقيل سمي العراق عراقا لأنه استكفّ أرض العرب.

وقيل سمي عراقا لتواشج عروق الشجر والنخيل، كأنه أراد عرقا ثم جمع على عراق.

وأعرق القوم أي أتوا العراق.

والعراق مأخوذة من عروق الشجر وهي بلاد منابت الشجر.

والعوارق الأضراس.

والأعراق: من عرق كل شي~ أي أصله والجمع أعراق وعروق.

ورجل معرق في الحسب والنسب.

وأعرق الرجل أي صار عريقا أي كريما.

وعروق كل شيء أطباب تشعَّب منه واحدها عرق، والعروق: عروق الشجر والواحد عرق، وأعرق الشجر وعرق وتعرق أي إمتدت عروقه في الأرض.

والعراق في معناه تشابك جذور الحياة وتفاعلها المتلاحم من أجل العطاء الأوفر، وهو التعبير الأصدق عن الخصب والنماء، فيه نهران يجريان للإلتحام ببعضهما، ونخيل متكاثف، ومتكاتف مع الشجر، ومتفاعل مع جذوره، لينسج ملحمة التوحد الحي تحت التراب وفوقه.

فما فوق أرض العراق، متشابك بقوة معبرة عن قوة تلاحم جذور العطاء وطاقة النماء.

والعراق لجميع العراقيين، ولا يمكنه أن يكون لأحد دون غيره، ولا يتفق مع حضارته وطبيعة نشأته التأريخية، أن يكون أعراقا متفرقة وليس عراقا، لأن السعي نحو خلخلة النسيج العراقي المتلاحم، كالسعي نحو تفريق جذور النخيل والشجر، وبهذا يتحقق الموت والقحط والخراب.

ويبدو أن العراق وفق المفهوم النفسي والفكري والحضاري، عبارة عن بودقة ذوبان الأعراق لصناعة سبيكة العراق.

وما يجري في عالمنا المشوه، محاولة تذويب السبيكة وتحرير عناصرها من تفاعلات القوة والإقتدار، ورميها في تفردها وضعفها وتبعيتها لمجهول.

فالعراق سبيكة الأعراق، ولا يتحول إلى فرق وأحزاب وطوائف وتجمعات تقاتل بعضها، لأن ذلك ليس من طبعه الحضاري وأخلاقه وقيمه التأريخية.

العراق بلد الإختلاف المتفاعل الخلاق، وجهابذة الفكر الحضاري الوهّاج، وموطن الأئمة والقادة والشعراء، ومناهج التفكير العلمي الأصيل، وعلى أرضه بزغت أنوار التنوع والتجدد والتطور والنماء، لتكون رحمة للعالمين.

وعلى ترابه أخترعت الحروف، وكتب البشر أول قصائده وحكاياته ومسرحياته ورواياته وعهوده ومواثيقه، ووضع دستوره الذي لم يسبقه دستور، وشرح فيه ضوابط السلوك الإنساني المتحضر، الذي يحقق السعادة الأرضية، ويساهم في رعاية الفضيلة ومناهضة الرذيلة.

العراق تماسكت فيه أعراق الوجود والحضارة، لتصنع منه رمزا خلاقا وحيا لروعة الإختلاف والتنامي الإبداعي الأثيل، لا يمكن لأحد أن يقطعه من جذوره الحضارية ويمحو ألوانه، ويصب الزيت على رأس فسيفساء وجوده الإجتماعي الجميل، بأزياء أبنائه المتنوعة ووجوههم النضرة، ولهجاتهم المتعددة ولغاتهم الرائعة، وأفكارهم ومذاهبهم ودياناتهم وأغنياتهم ورقصاتهم ودبكاتهم، ومعاني فلكلورهم المتصل بأعماق الوعي الإنساني المجيد.

العراق كل حي فيه يستمد نبضه من قلبه الكبير، الذي لا يحتمل أن ينقطع أو يبتعد عنه في أي حال من الأحوال.

والأعراق تؤلف عراقا، والعراق لا يحيا بدون إختلاف، ومن غير ألوان وتنوعات مثلما النخيل والأطيار والمياه، التي يعجبها التنوع والإختلاف الجميل.

بلد العقول الأصيلة المعبرة عن فكرها، والدولة العربية في أوجها وقمة عظمتها وسطوعها الحضاري والفكري، وفي غاية قوتها وبنائها المعبّر عن جواهر الأفكار، التي جاء بها خاتم الأنبياء والمرسلين.

ففي العراق جميع الأفكار والرؤى والتصورات الدينية، منذ أن انتشر نور الإسلام، وراح يسعى ككرة الضوء المنيرة، التي تزداد حجما وسطوعا مع الأيام.

العراق تحول إلى ينبوع دافق، لِما يتعلق بالدين من شؤون وشجون، وما يرتبط بالفكر الإنساني من توجهات وتطلعات، ذات قيمة إبداعية صادقة.

العراق أريج النسمات الروحية والخلجات النفسية، وصدى الإيمان واليقين والبرهان، والإمعان بأعماق الحق والإنسان.

العراق المبني بأذرع آلاف السنين، ومئات الأجيال التي حملت إرادتها، وشيدت معالم عزتها في درب الوجود الأكبر العظيم.

العراق مولود من رحم سومر وأكد وبابل وآشور.

والحضارات التي حاولت أن تضيف شيئا إلى مسيرة الإرتقاء الأرضي، كانت تحج إلى العراق ومنه تطل على الأرض.

ولا توجد إمبراطورية تسيّدت، إلا وكان لها في العراق شأنا ووطرا من سومر إلى اليوم.

فاسألوا كسرى والاسكندر المقدوني، ومن جاء بعدهم، وستعرفون أن الذي يريد أن يمسك الأرض من عنقها عليه أن يتمكن من العراق.

وتلك حقيقة الأحداث والتداعيات التي يصعب تفسيرها، لكن مسيرة التأريخ تشير إلى أن العراق هو الموضع الذي يمكن أن تُمسك الأرض منه، وتُدار وفقا لما تشاء القوة الماسكة به.

وكان العرب في أول إنطلاقتهم قد أمسكوا بالعراق، ومنه بدأت أعظم الفتوحات، وبسبب أهميته تم إتخاذه مسرحا للتفاعلات الحضارية التي انطلق بها العرب في دولة العباسيين، فأنارت دروب الإنسانية بالإضافات المقدامة، وفتحت أبواب العلوم والآداب، فأنجبت جهابذة العقول البشرية ومؤسسي علومها الحية، كالرياضيات والهندسة والفيزياء والفلك والكيمياء والطب وغيرها.

عراق الأعراق والإنسان والتنوعات والعطاءات اللامحدودة، هو الذي يكون ويتألق ويتحقق، وأي إتجاه ضد دمج الأعراق، ومحاولة لتفريق العروق والجذور والأصول، فأنها قتل لأيكة العراق الوارفة، التي يتظلل بوجودها كون المسيرة الإنسانية، وتسقيها مياه النهرين دجلة والفرات في رحلة ما بين الأزل والأبد.

ويبقى العراق عريقا متشابكا بعروقه المتسابكة (من السبيكة) المتحدية المنتصرة على الفرقة والشحناء!!

وهذا الجواهري ينادينا:

"ناشدتكم بالواهبين نفوسهم

نكران ذاتٍ منهم وسماح

لا تتركوا الوطن الحبيب لفرقةٍ

نهبا يُجاء بسرحه ويراح

وتحضنوه وإن تفرّى دونه

حِضنٌ، وإن يبست عليه الراح

لُموا الصفوف عليه يتسع المدى

بكم، وترحب بالصفوف الساح

وتعاطفوا، إن الحياة وشائج

ومن القلوب إلى القلوب لقاح

ما مثله وطن تَلوّن أرضه

حسنا كما تتلوّن الأقزاح"

***

د. صادق السامرائي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم