صحيفة المثقف

محمود محمد علي: صدر الدين الشيرازي.. مجدد الفكر الفلسفي الإسلامي بعد ابن رشد (2)

محمود محمد عليلعله قد اتضح لنا من خلال المقال السابق إن الشيرازي كان بحقق مجدداً لفلسفة الإسلامية، وذلك لكونه استطاع من خلال تناوله النص الفلسفي والنص الديني التوفيق ما بين الحكمة والشريعة، فأنتجت بذلك فلسفته المتعالية من خلال منهجيته النقدية التي تميزت بها فلسفته، واستطاع من خلالها إعادة صياغة الفلسفة الإسلامية، لأنه قدم الكثير من الحلول للمشكلات التي استمرت في عصره، والمتمثل في أصالة الوجود ووحدة الوجود، والحركة الجوهرية، والإمكان الفقري، واتحاد العاقل والمعقول (12).

ولقد اتسم موقف الشيرازي النقدي بالموضوعية والمرونة، فيما صدر عنه من آراء وأحكام نقدية، فيما يتصل بالمسائل الكلامية والفلسفية التي استهدفها في نقده، لأنه لم يصدر أحكاماً متطرفة على المخالفين له في الآراء مما وجه إليهم سهام نقده، مبتعداً عن السلوك النقدي اللاذع الهدام السلبي، مثلما فعل الغزالي حينما كفر الفلاسفة ؛ بل نجده ينقي آراءهم من الشوائب، ثم يدرسها في موضوعية كاملة، ليخرج منها بنظرة متكاملة، بحيث تمتزج فيها عناصر فلسفية، ودينية، وأخلاقية، حتى أعطت بعداً ميتافيزيقياً، وشكلت من خلالها فلسفته المتعالية، وهذه الموضوعية أيضاً لم تجعله ينحاز إلي آراء معينة دون الأخرى، بل نجده يقتبس من آراء السابقين ما يستعين به على صياغة أفكاره وتحديد آرائه، وبناء نسقه الفلسفي الذي يتميز به عن غيره (13).

ويبدو هذا واصحا من خلال مفهومه للفلسفة، حيث يعرفها بأنها :" استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات علي ما هي عليه، والحكم بوجودها تحقيقا بالبراهين لا أخذاً بالظن والتقليد بقدر الوسع الإنساني، وإن شئت قلت نظم العالم نظماً عقلياً علي حسب الطاقة البشرية ليحصل التشبه بالبارئ تعالي (14).

ثم ينتقل الشيرازي بعد تعريف الفلسفة إلي ذكر أقسامها، فيذكر أن العلوم متشعبة ومتعددة "إلي حد وغاية يعجز كل نفس إنساني .. عن استحصال جميعها". وعلى الرغم من ذلك نجد لها تصنيفاً في الأسفار الأربعة يقضي بتقسيم الحكمة إلى حكمة نظرية وحكمة عملية، ويعلل الشيرازي تقسيمه للحكمة علي هذا النحو بنظريته للإنسان من حيث أن له جهتين : جهتين : جهة تجرد عن المادة تتعلق بما دعاه الصورة المعنوية الأمرية، أي النفس وجهة تتعلق بالمادة من حيث أن الإنسان مادة حسية، أي الجسد .. وعليه تكون الحكمة قد " أفتنت بحسب عمارة النشأتين بإصلاح القوتين إلي فنين نظرية تجردية ونظرية تعلقية " (15) . ويكون موضوع الحكمة النظرية أموراً لا علاقة لها بالفعل الإنساني، ولا تقع في نطاق قدرة الإنسان واختياره، وموضوع الحكمة العملية كل ما يتعلق بالفعل والإرادة الإنسانيين . ويذكر الشيرازي أن الحكمة النظرية تشمل نوعين من العلوم : ما هو مقصود لذاته، وما هو مقصود لغيره، وهذا الأخير هو المنطق، الذي اعتبره الشيرازي علي غرار الفلاسفة المسلمين السابقين آلة تحصيل العلم والوصول إلي الحقيقة . أما ما هو مقصود لذاته، فهو علي أقسام : أولها، العلم بما هو في الوجود والتصور غير محتاج للمادة ولا حال فيها وهو الإلهيات . وثانيها، العلم بما هو للوجود محتاج للمادة ولكنه في التصور مستغنن عنها وهو الرياضيات . وثالثها، العلم بما هو في الوجود والتصور لا ينفك عن المادة والتعلق بها وهي الطبيعيات . أما الحكمة العملية، فإنها عنده علي نحوين : ما يتناول أفعال الإنسان التي يقوم بها لغاية ودون مشاركة أحد وهو علم الأخلاق، وما يتناول أفعال الإنسان بمشاركة الآخرين، وهو علم تدبير المنزل وعلم السياسة . وأخيراًّ يجعل الشيرازي للفلسفة النظرية غاية هي " انتقاش النفس بصورة الوجود علي نظامه بكماله وتمامه، وللفلسفة العملية غاية هي مباشرة عمل الخير (16).

ولا يفوتني أن أذكر أن الشيرازي جعل أهمية العلم ومرتبته من أهمية موضوعه وشرفه، ولذلك كانت الحكمة أشرف الصناعات الإنسانية، وأشرف علوم الحكمة هو العمل الإلهي إذ ليس في الوجود أشرف من ذات المعبود (17).

أما فيما يخص مسألة العلم الإلهي عند الشيرازي، فتعد مسألة وجود الله من أهم المسائل الميتافيزيقية، لأنها تتعلق بالله سبحانه وتعالي، فقد اعتمد كل من المعتزلة والأشاعرة عدة أدلة في إثباتهم لوجود الله تعالى عليها، وقد عد الشيرازي هذه الدلة جيدة، إلا أنه لا يعد الدليل الوجودي من أسمي البراهين للدلالة على وجود الله، وإن لم يتخذ من آثار الله ومخلوقاته واسطة في إثباته، كدليل الحدوث ودليل الفطرة، إلا أن فكرة الإمكان واقعة واسطة فيه، بينما برهان الصديقين الذي اعتمده الشيرازي يرتكز على حقيقة الوجود ذاته، وأنه عين حقيقة الوجود، كما أنه علة الوجود، لأنه وجود ذاتي فردي لا يقاس عليه وجود ذاتي آخر ؛ وعليه فإن الله تعالي ذات الوجود أو الوجود بالذات، وأنه أساس الوجود والموجودية، ومنه يتحقق الوجود لكل موجود، ولهذا عده الشيرازي أسمي البراهين دلالة على وجود الله ؛ وهو دليل الخواص، لأنه يسدل على وجود الله بذات الله علي وجود ذات الله، ولا يستدل بشئ خارج الحق على ذاته ووجوده (18).

وحول قضية وجود الخير والشر في هذا العالم بمنظور، فقد فسره بمنظور الشيرازي بمنظور مختلف عن تفسير المعتزلة والأشاعرة، إذ يعد الخير المقصود بالأصالة والشر مقصوداً بالتبعية، أي يكون خيراً بالذات وشراً بالعرض ؛ ولذلك فإن صدور الخيرات الكلية الكثيرة أدي إلي وجود شرور جزئية قليلة، لأن الغرض من أفعاله تعالي هو النفع والصلاح الكلي، وإن حدث ضرر جزئي غير مرغوب فيه، فمرده هو تحقيق النفع والمصلحة العامة ؛ وبذلك يكون الشر ذا دلالة إيجابية وليست سلبية (19).

أما فيما يخص الإرادة الإلهية فقد رفض الشيرازي قول المعتزلة والأشاعرة بأن الإرادة متساوية الطرفين بين الفعل والترك، وذلك لعدم معرفتهم بكيفية صدور الموجودات عنه تعالي، كما أنهم عجزوا في تفسير الإرادة الإلهية، لأنهم حاولوا تفسيرها من خلال الإرادة الإنسانية، وذلك لا يجوز في حقه تعال (20).

وعن موقف الشيرازي من قضية الحرية الإنسانية، فقد استطاع الشيرازي ابتكار مدلول للحرية بشقيها الأخلاقي الميتافيزيقية المتمثل في الصراط المستقيم والوسط الأخلاقي، وذلك وفقاً لحرية الإنسان في اختيار أفعاله، ومدي قدرته وسيطرته، علي شهوته ورغباته الدنيوية، ومدي تحقيق سعادته الأخروية، إلي جانب دور العبادات في دفع الإنسان إلي التحلي بالأخلاق الحميدة، وترك السيئات والمعاصي المنهي عنها، لأن ذلك يترتب عليه نتائج الأعمال والأفعال في الآخرة، كما أعطي دوراً للضمير الإنساني في مراقبة ومحاسبة أفعاله في الدنيا (21).

وحول موقفه من مسألة الرؤيا أو ما يسمي بعلم النفس الحديث (الأحلام) فلقد استطاع الشيرازي أن يبحث بالتفاصيل الدقيقة لهذه المسألة في حياة الإنسان فنراه بحث تعريف الرؤيا وأنواع الرؤية (الصادقة والكاذبة) وكيف تحدث عملية الرؤيا ودور المتخيلة في هذه العملية، كذلك بحث الشيرازي مسألة التعبير (تعبير الرؤيا)، وأهمية التعبير للرؤي في حياة الإنسان، ومن ثم رسم لنا الشيرازي صورة متكاملة لمسألة الرؤية (22)، حيث استطاع أن يبين لنا بدقة عالية وبتفضيل كبير طبيعة الرؤيا، وحقيقتها، وكانت أطراف هذه العملية (الرؤيا) هي النفس الإنسانية التي بطبيعتها المجردة تستطيع الاتصال بالجواهر العقلية المجردة (اللوح المحفوظ) عند النوم ويشكل اللوح المحفوظ (عالم الغيب) الطرف الثاني والمهم في عملية الرؤية فتنطبع الصور الجزئية من هذا العالم في النفس، ومن ثم يأتي دور المتخيلة الذي لا يقل أهمية عن الطرفين الآخرين، وخصوصاً في الرؤي التي تحتاج إلي التعبير بسبب تبديل المتخيلة للصور التي انتقشت في النفس وانطبعت من اللوح المحفوظ، كذلك تبرز أهمية المتخيلة في أضغاث الأحلام التي تكون المتخيلة فيها مصدراً للصور لا متصوفة فيها فقط (23).

ونختم حديثنا عن موقف الشيرازي من فكرة المعاد، حيث رفض رأي بعض المعتزلة القائلين بالمعاد الجسماني فقط، كما انتقد أصحاب القول بالتناسخ من المعتزلة، بينما أيد أصحاب الرأي بالمعادين، سواء كانوا من المعتزلة أو الأشاعرة، وهم أصحاب نظرية الجوهر الفرد . غير أنه اختلف عنهما بأن المعاد هو الأجزاء المتفرقة من البدن بعد الموت، أو الأجزاء الصلبة الباقية من أول العمر إلي آخره، كما أنها هي المقصودة بعجب الذنب، بينما عد الشيرازي القوة الخيالية هي المقصودة بذلك، ومن هنا ابتعد الشيرازي عن النص الديني الصريح والحديث الشريف، بينما أصحاب نظرية الجوهر الفرد هم أقرب إلي النص الديني من الشيرازي (24).

مما سبق يتضح أن الشيرازي كان ينهل من معين التراث الفكري الإسلامي على اختلاف اتجاهاته، وحاول توجيه الإلهيات الإشراقية نحو ميتافيزيقا الوجود، ليثبت أن الوجود حضور، يكشف عن نفسه (وهو مظهر لنفسه، لأنه ظاهر بنفسه)، ويكشف عما يعتبر غيره (وهو مظهر لغيره)، الذى ليس إلا تجليات لظهوره . فله كانت أولوية الارتسام في النفس، والشمولية وفرط التحصل والبساطة، وأخيراً الأصالة (25).

لقد حاول الشيرازي أن يتجاوز نقاط الاختلاف بين الاتجاهات الرئيسية في الفكر الإسلامي السابق عليه : المشائية الإسلامية والتصوف والفلسفة الإشراقية . فاعتقد بأصالة الوجود ليوضح وحدة الوجود، وبساطة حقيقة الوجود، التي تعني أن " بسط الحقيقة هو كل الأمور"، واشتراك الموجودات في الوجود وكيفيته، ليصل في نهاية المطاف إلي إثبات أنه لا وجود حقيقياً إلا للواجب، وهو غاية العلم الإلهي عنده (26).

لقد أثبت الشيرازي أنه في الإمكان الخذ بالبناء المفهومى المشائي الإسلامي للوجود، وبخاصة السينوي، والارتقاء به إلي نوع من وحدة الوجود، التي بها متصوفون إسلاميون، اعتماداً على أصول مستمدة من فلسفة الإشراق أخذ بها إلي نتائجها النهائية (27).

وعلى أيه حال فإن صدر الدين الشيرازي كان يعتمد في قبوله، أو رفضه لآراء السابقين عليه علي وجهة نظره الخاصة به في أصالة الوجود، الأصل الذي قامت على أساسه فلسفته، فجاء الرفض أو القبول مبنياً علي أصول (28).

 

الأستاذ الدكتور محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل – جامعة أسيوط

............

12- جميلة محي الدين البشتي: المرجع السابق، ص 319.

12- المرجع نفسه، ص 320.

13- سلمان فضيل البدور: ميتافيزيقا الوجود في فلسفة صدر الدين الشيرازي، دراسات - العلوم الإنسانية، الجامعة الأردنية - عمادة البحث العلم، مج 13 , ع، 1986ص 216.

14- المرجع نفسه، ص 218.

15- المرجع نفسه، ص 219.

16- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

17- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

18- جميلة محي الدين البشتي: المرجع نفسه، ص 320.

19- المرجع نفسه، ص 322.

20- المرجع نفسه، ص 323.

21- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

22- عقيل صادق الأسدي: مسألة الرؤيا في فلسفة صدر ادلين الشيرازي، جامعة البصرة – مركز دراسات البصرة والخليج العربي، الخليج العربي، مج العدد 42، مجلد 3، 2014، ص 201.

23- المرجع نفسه، ص 223

24- جميلة محي الدين البشتي: المرجع نفسه، ص 324.

25- سلمان فضيل البدور : ميتافيزيقا الوجود في فلسفة صدر الدين الشيرازي، دراسات - العلوم الإنسانية، الجامعة الأردنية - عمادة البحث العلمى، مج 13 , ع4،1986،  ص 235.

26- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

27- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

28- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم