صحيفة المثقف

علي رسول الربيعي: هابرماس والتبرير الفلسفي للديمقراطية (2)

علي رسول الربيعيالديمقراطية والعقل

ينمو مجال الفعل التواصلي بشكل كبير مع بداية المجتمعات الحديثة والتعددية. كانت المجتمعات الأكثر تقليدية محدودة، بقدسية المؤسسات، من جانب، ومن خلال مجموعة متجانسة نسبيًا من الافتراضات والمهارات الأساسية ومن ناحية أخرى . وبقدر ما تحدث الخلافات، فانه يمكن حلها بسهولة من خلال اتفاق قوي وشامل على الطريقة التي يجب أن تعاش  بها الحياة. يغير هذا  أولاً، ما يسميه هابرماس "لغوية المقدس".[1] يتضاءل تماسك المجتمعات الحديثة الناتج عن "القوة الساحرة" للمقدس وتصبح تعتمد أكثر فأكثر على عملية الفعل التواصلي للتوصل إلى اتفاقيات صريحة وواضحة. ثانيًا، لم يعد هناك عالم حياة واحد يشمل المجتمع بأسره مع تكاثر أساليب الحياة لأسباب مختلفة. تشير الحداثة إلى الزمان والمكان اللذين تباعد فيهما الأفراد والجماعات والأمم في خلفياتهم  فيما يتعلق في السيرة الذاتية والخبرة الاجتماعية والثقافية. [2]

تعني هذه الاتجاهات أن الخلافات والافتقار إلى التوجيه يصبحان أكثر روتينية في الممارسة اليومية. يتم وضع مسؤولية متزايدة على عاتق الأفراد للتعاون وإنتاج يقين مشترك صراحة. إن "إمكانات العقلانية"[3] المتأصلة في الفعل التواصلي تجعل من الممكن الاستجابة البناءة لهذا المأزق. ومع ذلك، فإن حرية الانخراط في العقل تعني زيادة مقابلة في الأعباء التي يجب على الأفراد تحملها. يمكن، في الواقع، وفي مرحلة معينة،  أن تتوقف العوالم الحية عن التداخل مع بعضها البعض بشكل كافٍ للفعل  التواصلي حتى ينجح. قد تصبح أساليب حياة الأفراد والجماعات مختلفة جدًا بحيث لا يمكن الوصول إلى الحد الأدنى المطلوب من التفاهم المشترك. يصف هابرماس المأزقً "ما زلنا نتجادل فيه حول الأحكام والمعتقدات الأخلاقية بأسباب لكن تم تحطيم الإجماع  على قيم شامل على المعايير الأخلاقية الأساسية"''.[4]

لا يزال بإمكان عقلانية الفعل التواصلي، في هذه الحالة، أن تثبت نفسها بالإشارة إلى "ممارسة المناقشة أو المحاججة كمحكمة الاستئناف".[5] يتم تعريف المحاججة على أنها شكل أنعكاسي للفعل التواصلي. فبمجرد أن لا يتفق المشاركون على المعايير الأخلاقية الأساسية، فإن الشيء الوحيد الذي يبقى يشتركون فيه  هو الانتماء إلى "شكل ما من أشكال التواصل في الحياة". أي أنهم كبشر، يعيدون إنتاج حياتهم من خلال اللغة. نظرًا لأن أشكال الحياة هذه "لها جوانب بنيوية مشتركة" يمكن للمشاركين الاعتماد على "المحتويات المعيارية" لهذه الجوانب المشتركة كأساس لـ "التوجهات المشتركة".[6]  هذه المحتويات المعيارية هي بنى "الاعتراف المتبادل" المدمج في التواصل اللغوي. الشيء الوحيد الذي يمكن أن يحفز كل مشارك بشكل عقلاني على الاستمرار في محاولة حل نزاعاته بالتراضي هو ما اذا كان بامكانهه التاكد من أنه سيتم التعرف على احتياجاته ومصالحه. يصف هابرماس هذه الفكرة على أنها مبدأ الخطاب أو المحاججة "فقط معايير الفعل هذه صالحة والتي يمكن أن يتفق عليها جميع الذين يحتمل أن يتأثروا بها كمشاركين في الخطابات العقلانية ''.[7]

الخطاب أو المحاججة هو محاولة لاستعادة فقدان الإجماع السابق. يعرّفه هابرماس على أنه '' ذلك النوع من الكلام الذي يكرس فيه المشاركون ادعاءات الصحة المتنازع عليها ويحاول تبريرها أو انتقادها من خالل الحجج''.[8] هناك ثلاثة ادعاءات عالمية للصحة وفقًا لهابرماس: الحقيقة، والصواب، والصدق أو الإخلاص. يدعي المتحدث عند التواصل مع شخص آخر أن ما يقوله صحيح إذا كان يشير إلى العالم الموضوعي. إذا كانوا يشيرون إلى عالم اجتماعي مشترك مع المستمع، فإنهم يدعون أنه صحيح. وإذا كانوا يشيرون إلى عالمهم الداخلي الخاص بالتجربة الذاتية، فإنهم يدعون أنهم صادقون. في حين أن جميع مطالبات الصلاحية الثلاثة قد تلعب دورًا في محاولة حل مشكلة واحدة، إلا أنه لا سيما في النزاعات حول الحق غير الأصلي للادعاء يتعرض تنظيم التفاعلات الشخصية للخطر.

ومع ذلك، فإن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما إذا كان يمكن أن يحل الحياد الخلافات الأخلاقية المستمرة. هل يمكننا أن نتوقع  أتفاق "كل أولئك المتاثرين" على شيء ما عندما يلجأون  فقط إلى المحاججة أو النقاش بسبب الخلاف على كل شيء آخر؟ هذه هي الصعوبة ذاتها التي يتناولها هابرماس في مواصفاته الفلسفية للديمقراطية. إذا كان من غير المتوقع أن تؤدي المحاججة إلى نتائج بشكل روتيني في شكل اتفاقيات، فلا يمكن للمشاركين الاعتماد على أي شيء سوى المعايير المجسدة في عملية المحاججة نفسها. بمعنى، إذا كانوا لا يزالون يصرون على تنظيم حياتهم بطريقة توافقية، فيجب عليهم منح بعضهم البعض الحقوق والواجبات اللازمة لاستمرار ممارسة المحاججة. تتوج حجة هابرماس في تحديد الديمقراطية كمشروع لإضفاء الطابع المؤسسي على هذه الحقوق والواجبات الأساسية.[9]

يأمل هابرماس في أن يحافظ هذا المفهوم الديناميكي للديمقراطية على الفكرة الأساسية للتنوير ؛ وهذا يعني أنه في حين أن إعادة الإنتاج الواقعي للحياة الاجتماعية يحدث بشكل عشوائي في ظل قيود وضرورات، فإنه مع ذلك يحتوي على مثال "السلوك الواعي للحياة" كقوة تعديل. يعني الاعتراف المتبادل بادعاءات الصحة أنه يمكننا التعامل مع القضايا الجوهرية والصراعات في ظل وجهات النظر العامة. نستمر في البحث عن الحقيقة والصواب والصدق على الرغم من الثقل المحافظ للظروف القائمة. النظرية والتطبيق مرتبطان بالفعل في الوقت نفسه حيث يتناقضان مع بعضهما البعض. وهكذا، تكون في خضم التعددية والصراع والتغيير في الحياة الحديثة  الدافع المشترك نحو  للحل. بدون هذا الدافع، كما يقول هابرماس، لن يكون لدينا بديل عقلاني للعنف والإكراه كطرق لتشكيل الإرادة الجماعية وحل النزاع.[10] بالطبع، "تأتي مع هذا مشكلة الاضطرار إلى تفسير كيف يمكن لإعادة إنتاج المجتمع أن يستمر على أرض هشة مثل سياق تجاوز ادعاءات الصلاحية .[11] يتعامل هابرماس مع هذه المشكلة في التحليل المؤسسي الذي سنناقشه تاليا.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

..................................

[1] Habermas, Theory of Communicative Action Two, pp. 77-111.

[2] Jurgen Habermas, 'Questions and counter questions', in Richard Bernstein (ed.), Habermas and Modernity (Cambridge, Polity, 1985), p. 192.

[3] Habermas, Theory of Communicative Action Two, p. 77.

Jurgen Habermas, 'On the cognitive content of morality', in Proceedings of the Aristotelian Society (London, Aristotelian Society, 1996), p. 352.

[4]Habermas, Theory of Communicative Action One, p. 17.

[5]Habermas, 'On the cognitive content', pp. 352-3.

[6]Habermas, Between Facts and Norms, p. 107.

[7]Habermas, Theory of Communicative Action One, p. 18.

[8] Habermas, Theory of Communicative Action One, p.18.

[9] Habermas, Between Facts and Norms, pp.110-11.

[10] Habermas, 'Remarks on the discussion', Theory, Culture and Society, 7 (1990), 127.

[11] Habermas, Between Facts and Norms, p. 8.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم