صحيفة المثقف

سامي عبد العال: أصداءُ المقدَّس.. الصوت والمعنى (1)

سامي عبد العالللصوتِ الحي قداستُه الخاصةُ في مجمل الثقافات البشريةِ على وجه التقريبِ، لدرجة كونَّه يشكل جانباً كبيراً من (الوعي واللاوعي الجمعيين) ويحدد آفاق التصورات والأفكار المتداولة. ولكنه في الثقافة العربية يتميز بقداسةٍ مغلَّظَةٍ وبالغة التأثير، ذلك أنَّه قريبٌ جداً (فيما يتصور أصحابُه ومُتلقُوه) من المعنى، ومن الأصل، وكذلك لصيق الصلة بالحياة المتدفقةِ. وتلك المسألة تبقى ساريةَ الإيقاع فكرياً مع الزمن ما بقي المعنى قائماً من اللفظ.

أي.. حيث مافتيء (المعنى الأصلي في الصوت) متولداً أو فاعلاً أو مُتجسداً أو مُتردداً كأصداءٍ آتيةٍ بملء الأسماع والآذان. قال الشاعر العربي القديم بشار بن بُرد: (والأذنُ تَعشَقُ قبلَ العينِ أحياناً)، ذلك ضمن أبياته المعبرة عن تفضيل (أثر الصوت) ذي المكانة العاطفية هُياماً وعشقاً للمحبوبةِ... فالأخبار عن المحبوبةِ وأوصافها المتناهية إلى الأسماع سرعان ما تُكوّن عاطفةً جياشةً، وتخلق كياناً أنثوياً مرغُوباً لدى العشاق. لدرجة أنَّ الشاعر أقام صرح الحب بالكامل مع الأصوات التي تأتيه عنها، وها هو قد أخذ يناجي ويتغزل فيما يسمع ليس أكثر.. وبالتأكيد ستصل إلى المحبوبة أصوات الشاعر بالطريقة السماعية ذاتها (الحب بالأذن).

يا قَومُ أُذني لِبعَضِ الحَيِّ عاشِقَةٌ .. وَالأُذنُ تَعشَقُ قَبلَ العَينِ أَحيانا

فَقُلتُ أَحسَنتِ أَنتِ الشَمسُ طالِعَةٌ .. أَضرَمتِ في القَلبِ وَالأَحشاءِ نيرانا

فَأَسمِعينِيَ صَوتاً مُطرِباً هَزَجاً .. يَزيدُ صَبّاً مُحِبّاً فيكِ أَشجانا

يا لَيتَني كُنتُ تُفّاحاً مُفَلَّجَةً .. أَو كُنتُ مِن قُضَبِ الرَيحانِ رَيحانا

حَتّى إِذا وَجَدَت ريحي فَأَعجَبَها.. وَنَحنُ في خَلوَةٍ مُثِّلتُ إِنسانا

فَحَرَّكَت عودَها ثُمَّ اِنثَنَت طَرَباً .. تَشدو بِهِ ثُمَّ لا تُخفيهِ كِتمانا

أَصبحتُ أَطوَعَ خَلقِ اللَهِ كُلِّهِمِ .. لأَكثَرِ الخَلقِ لي في الحُبِّ عِصيانا

يبدو أنَّ بشاراً بن بُرد قد كشفَ سراً خطيراً لطبيعة (العلاقات المعرفية) بين المرجعيات الشفاهية والمتلقي (لا بينه وبين محبوبته فقط!!)، إذ كان يعبر عنها (وهي وهو الفرد) بصوت الثقافة الغالبة (وهي الكل) على جميع الأشياء الأخرى. لأن صوت الحب صوتٌ قد أخذ وجوده الدلالي على مستوى أعم قبل أنْ يصل إلى أذن الشاعر. والدليل (أن الشاعر قرَنَ مصداقية أذنه ببعض الحي) الذي هو مسـاحة من وجودنا المشترك. وهذا فحواه أنَّ الثقافة رمزياً ستحدد ما هو مسموع أو ستعطي الصوت المقدس خلالها بُعداً من الإجلال والماوراء والتخييل، ثم تقوم بتصفية رواسبه العالقة لصالح مستواه الخالص والمجرد. ومن غير المستغرب عندئذ أن يعود الصوت وجودا متيقّناً أكثر من الواقع. فليس يبْعدُ صوتُ المعشوقةِ عن خاصية التصديق المعرفي والخيالي سماعاً إزاء قضايا وموضوعات مغايرة في تضاعيف الثقافة العربية.

إنَّه الأمر الذي يجدُ مكانته البارزة والمبرّرة سلفاً في تقاليد الشفاهيات الاجتماعية على طريقة تكوينها تجاه الأفراد والموجودات والأشياء، بل ربما سيحوّل المعاني المجردة إلى أصداء صوتيةٍ، رغم أنَّ الوجود بكل ملابساته وحيثياته قد يثير لدينا علامات استفهام أخرى. مثل إثارة قضايا العلاقة بين الصوت والحقيقة، الصوت واختلاف الأزمنة، تداخل الأصوات والأصول، والصوت وخفاء السلطة العالقة به. وبالفعل، فالصوت عادةً سيكون مُحدَّداً ليس بذاته، بل بالعواطف والمشاعر التي تعتبره الحقيقةَ كل الحقيقة لا بعضها. وهذه من أبرز المسائل الرئيسة وراء تماسك الثقافة العربية مع جذورها وطرائق التعبير عن نفسها أمام كلِّ عصرٍ جديدٍ. وقد يدعوها ذلك لأنْ تكثر من الأصوات التي هي سائرة على نغم وإيقاع واحد تعبيراً عن وجودها المحتمل لدى الأفراد والمجتمعات.

تاريخ الصوت

تاريخ العقل العربي الاسلامي هو في قطاع كبيرٍ منه تاريخ هذا الصوت تحديداً، لأنه عقل سَمّاع، مشّاء بنميم المعارف والأفكار ومأخوذ بشذرات الخيال والاستهوال، أي يصل إلى أفكاره وحقائقه بالسماع. إنه عقل بمثابة (الأذن الكلي) لمجتمعاتٍ لا تنفك عن تبادل قوالب التقديس من عصر لآخر. ومن عجبٍ أنَّ تلك الخاصية مازالت واسعة التكوين والانتشار حتى اللحظة، ولم نجد بديلاً عنها من المعرفة والتحقق والأدوات الفكرية والمناهج الجديدة. وهو ما جعل مجتمعاتنا العربية نهباً لفوضي الأصوات المتقمصة عباءات المقدس والمتحدثة بلسانه وجعلها مزرعة خصبة للشائعات وعدم الشفافية وضياع حرية التعبير.

إنَّ أولوية الأذن بالنسبة للعقل هي أولوية الثقافة الشفاهية في لا وعينا التاريخي الموروث حتى في أدق التفاصيل، أولوية الأصوات المتضخمة سلطةً وغلبةً وممارسةً لبلاغة السرديات التي ترسم صور الأزمنة والأشخاص والأحداث. ولعل اللاوعي الثقافي قد تمّ حشوّه عربياً بأطر الأهوال والفتن والملاحم والنوازل والخوارق أكثر مما تمَّ تعريضه للفحص والتدقيق والتفكير الحر. ولذلك، فإن الانتباه التاريخي (لما حدث ويحدث وسيحدث) لدينا لابد أن يغلف بالجميل والجليل من الأوصاف والقصص حتى يلتفت إلى موضوعاته.

وكأنَّ ميتافيزيقا الصوت تجسد تاريخياًعدةَ سمات في شيء واحد:

1- يرتهن الصوت بمصدر متعالٍ ومعروف ومتيقن منه ومرغوب فيه بالوقت نفسه. وهو ما يعني عدم التساؤل حول الأشياء ويمكن تلقيها فقط بالإعتقاد والإندهاش.

2- يكمل الصوت الصورة الغائبة أو بالأحرى يجسد الباقي منها بحسب ما تقول وما تريد. ما يسمح بالتزيد في رسم الصورة المفقودة، ولا يسمح بمعرفة الحقيقة على الأصالة.

3- يخلق الصوت مبناه الذي يحدده، بل ويخلق وجوده البعيد، لأنَّه ليس متصوراً وجود صوت دون كينونةٍ. ولذلك سيكون الاختلاف واسعاً بين الأصل والصدى إلى الحد الذي يعجز العقل عن عبور هذه الهوة التاريخية.

4- يعبر الصوت عن وحدة معينة، وحدة ثابتة ومترحلة من وقت إلى آخر، فلا صوت دون وحدة تخصه وتخص المتلقي في الوقت عينه.

5- يُكسي الصوت المجهول لحماً ويجعله جزءاً لا يتجزأ من معناه الحي. وكأن صدى الصوت عملية مناجاة خالصة وليست فكرة يمكن معرفة إمكانياتها وقدرتها على التحقق.

6- كلُّ صوت لا يخلو من سردية قابلة للانسجام مع الخطاب الأقرب للسماع والتصديق. لأنَّ الصوت يحتاج دوماً إلى مسار يربطه بالآثار المترتبة عليه وبالمقدمات التي أوجدها من تلقاء نفسه. وبما أن المقدمات والنتائج غير منطقية فإن العلاقة ستتحدد سردياً بلاغياً لا عقلانياً.

7- يفتح الصوت عمل الخيال بشكلٍّ قوي، لأنه يؤلف حركته وينسج معانيه بحسب القوى العميقة التي يتوافر عليها في الزمن.

8- تلعب ثنائية (الصوت والصدى) لعبةَ (الإحلال والتبديل)، فالأصداء تأخذ مكانة الصوت بعدما أخذ الصوت نفسه (مكان الكيان) الصادر عنه. ولهذا تم كم جُرَّ التقديس راهناً على أصوات الشيوخ والزعماء والفقهاء وأمراء الجماعات الدينية من قبل الأتباع والمتلقين.

9- الإحلال والتبديل يشكلان جُلَّ المعاني خلف الأفعال والنصوص، على الرغم من أنّهما لا يثبتان ذاتّيهما على نحو قاطع، لأنّهما سيظلان ممتدين بامتداد خيال المتلقي. وهذا كان سبباً في خلع القداسة على الأشخاص المرددين للأصوات والحافظين للمتون والنصوص والسرديات الدينية.

10- فضاء (الإحلال والتبديل) يُظهر سلطةَ المعنى وحقيقتها الغالبة، فلئن كان الصوت هو الأساس، فسيكون هناك من يمتلك الصوت، من سيقوله ومن سيردده طوال الوقت.

11- الصوت يلعب على (سلطة الذاكرة) ورجوعاً إليها ستتم الاستعادة من جديد في كل مرة يُطلق فيها وجوده. وذلك أمر نوعي لكون ذاكرة المعرفة لدينا ذاكرة سلطة بالمقام الأول.

إذ يرتبط الصوت بالصدي، وأنَّ كل صوت يسكن صداه دون توقف. والأصداء تنقل ضمنا ما يعبر عن وجود بالقوة لوجود كان بالفعل في وقت ما. والمدهش أنَّ الأصداء ستظل أصواتاً هي الأخرى، وهذا يظهر مدى تحكم الصوت في صداه إلى نهاية المطاف، أي ليس الصدى مختلفاً عن الصوت الأصلي إلاَّ في الدرجة، وتبعاً للتاريخ سيكون مختلفاً في النوعية بجانب الدرجة.

في الثقافة العربية صدى الصوت هو ترديده في (شكل جديدٍ) بعد وجوده أو اثناءه، والصدي في العربية أيضاً نوع من التناغم والتجاوب بين الأصوات وأصدائها اللاحقة. كما أنه سيحمل تباعاً دلالة الأثر والإنعكاس في شيء آخر، وسيمثل هذا الشيء الآخر موضوعاً. في مقابل أنَّ الصوت ينطوي على خمسة عناصر رئيسة:

- الفعل: وهو الانتاج الصوتي للمعاني التي تحمل تصورات وأفكاراً وآليات ورؤى. وبخاصة أنَّ صوت المقدس (سواء أكان نصَّاً أم كياناً تاريخياً أم خطاباً عاماً...) يشكل فضاءً الثقافة من حيث اعتبارها كُلّاً إنسانياً human totality للتفكير وفن العيش وتحديد رؤى الحياة والعالم. وهو ما يعرف بتشكيل النصوص الشفاهية لأنماط الاعتقاد في تاريخ المجتمعات العربية وكيف توجد وتواصل مسيرتها في حياتها العامة.

- الأداء: وهو التحام الصوت بمقدار قداسته بنمط الفكر السائد، هو اختلاطه بالموروثات والتاريخ والصور المتداولة. وعادة الأداء ييجرف في طريقه أساليب وطرائق التفكير والسلوك. لأن هناك السلطة التي يطلق سراحها من خلال فضاء معناه في اللاوعي العام، وهي ترسخ هيمنته على الآذان التي هي مستقبل الأوامر والنواهي والزواجر. ولذلك سرعان ما يتحدد الصوت مع العلاقات والعصور في صور معينة تأخذ قوتها من الممارسات العامة. وفي هذا، ليس مستغرباً أن يكون هناك تماثل في الخطابات وطرق الإلقاء والتلقي بين المجالات السياسية والدينية والاجتماعية.

- التكرار والمعاودة: كل صوت مقدس قابل للتكرار، وليست القابلية مجرد احتمال، لكنها تبلغ مرتبة الضرورة من واقع الثقافة التي تشكل وجودنا وتفسح المجال للتكرار والمعاودة. ولئن ركزنا على تلك العملية، فجوانب الثقافة الدينية نوع من المعاودة والتقليد لأصوات الفقهاء والنصوص والسرديات.

- النداء والاستحضار: الصوت مؤتلف مع نداءٍ ما، والنداء هو الدعوة للتصديق، للانتباه، لليقين. والنداء ثقافياً بمعنى الهتاف. ومن ثمَّ ستكون الخطابات الصوتية هتافاً ونبرات مرتفعة لا ترى شيئاً سوى الكائنات التي تولدها من الأصوات. وهذا ما يجعل المعنى مرهوناً بالجوانب المرجعية، سواء أكانت سلطةً أم مؤسسات دينية أم فقهاء أم دعاة. وهو ما يدعم اليقين الخاطف لأفعال القول والوعود والتواصل على نحو فوري وعاجل.

- رجْع الأثر: وهو تغليظ وإِحكام اغلاق المعنى بين الصوت والأذن، ولذلك يتميز صوت المقدس في الثقافة العربية برجع الصدى القوى، بل ربما المزلزل الذي لا حلَّ للمتلقي من ملاقاته في الموعد التاريخي لليقين والحقيقة. ولهذا يعول الخطاب الشفاهي دوماً على القصص التراثي المضمخة بالعبرات والنظرات على طريقة كتاب لطفي المنفلوطي.

المعنى الحي

جرت التقاليد اللغوية (الخطابية) في الثقافة العربية أنَه عندما نعبر عن شيءٍ ما تحمل التعبيرات موضوعها حيّاً. تنقله من شخصٍ إلى آخر كأنه معبَّأ بأنفاس ساخنة هي "الحضور الحي" للمعاني ومرجعيتها. لدرجة الاعتقاد بأنَّ النصوص الدينية حيث لا يتلقاها مُريدٌ عن شيخ وحيث لا يمتلئ بها المتلقي مباشرةً فلا قيمة لها. وأنه شرط لتعلم الدين يجب بالضرورة وجود شيخ لكل متعلم، بل إحضار شيخ لكل مواطن. وهذا سبب كافٍ لتنصيب الفقهاء ورجال الدين والدعاة والخطباء أنفسهم رموزاً للتحدث في كافة القضايا الدينية وغيرها.

وربما هو ذاته السبب وراء كثرة أدعياء التدين الزائف طالما يحفظون أحاديث ونصوصاً وحواشي ومدونات عامة وسرديات عن سرديات. وكان أبرز الأثار الجانبية أيضاً لتلك الفكرة هو تضخم الخطابة واللحن في الكلام الديني سواء بالأحاديث المنبرية والإلقاء أو بقراءات النص المقدس الأول في الاسلام (القرآن). وظهور طبقات من القُراء (أصحاب الأصوات) لهم أساليبهم وطرائق إِسماعِهم وحفظهم ونطقهم للآيات دون مساحة للتأمل والتدبر وتحويل النص إلى حياة من لحم ودم.

لقد انتشرت الثنائيات الشفاهية في الثقافة العربية بتباين مجالاتها المختلفة. مثل ثنائيات (الكلام - الصمت، الكلام - الكتابة، الحقيقية - الكذب، اليقين القولي- الزيف، الحضور- الغياب، الفرع - الأصل، القارئ – المستمع). إنها تاريخ الاستقطاب العنيف بين سلطة الصوت المتعال والآذان السامعة لدرجة الطاعة والخنوع. حيث غطت مساحات شاسعة من السياسة وصور الحروب والمجتمعات والأفعال العامة. فليس الصوت كصوت المسيح الصارخ في البرية التي لا نهاية لها بينما هو مجرد فرد داع للرب. لكنه (صوت كلي) يحمل اكراهاته الخاصة بفضل كونه قد تشكل في أنظمة مادية وتحددت أطره في تاريخ وتراث بعينهما.

وبات مما لا يُستغنى عنه لصحة الاعتقاد: هذا الانتقال المباشر من سلفٍ إلى خلفٍ، ومن سالفٍ إلى تابعٍ، ومن تابع التابع إلى تابع تابع التابع ... وهكذا دواليك. بصرف النظر عن المراجعة والنقد والاختلاف الجذري وبصرف النظر عن جدة الحياة وتباين العصور. وتكاد هذه الخلفية الاجمالية تحمل جوهر معارف الدين، بل جوهر المعارف والأفكار قاطبة وكيف تواصل مسيرتها عبر التاريخ. وفي حالة غياب أطرافها سرعان ما تخلق العملية أطرافاً بديلة بالزخم نفسه، حيث لحقت تلك السمات بمفاهيم العقلانية والحقيقة والبرهان والجدل والحوار والكتابة إجمالاً.

هذا هو ما يتركه وجود المقدس عادةً حينما يُفرِّخ ظلالاً له. والمقدس قد لا يكون نصاً أو كياناً بالضرورة لأجل خلوصه إلى ذاته، لكنه بالتأكيد يكون بديلاً يجسد المعنى ويضمن إيصاله بالإيقاع نفسه. والبدائل على الدوام هي ألعاب الثقافة الخفية التي تفلت بها من المراقبة والمتابعة. والتفريخ المقصود يلتحم بإنتاج اللغة لذاتها كوسيط غير مباشر وكوجود شاحن للذهنيات عبر التفكر والتواصل. إنَّ ما يفعله المقدس هو التالي: يترك جيناته الثقافية في جوانب المقولات والتعبيرات المتداولة. إذ قد لا يُلتفت إلى ماهيته داخل غيره من الأشكال المختلفة. وبالوقت عينه هو سيعبر عما سيأتي تالياً من حالات متواترة. والاتيان – بواسطة التصورات- له وجهان. أحدهما: إعادة تكوين المفاهيم على غرار وجود الأصل بطريقة غير مباشرة. أما الوجه الآخر، فإنه يظهر حين يصعب التخلص من آثاره بسهولة. ولذلك يحتاج كل مقدس (كل سلطة أو معنى أو مفهوم) إلى وعي متواصل بما يتركه من بذور وجذور في تربة الثقافة التي نتنفسها.

وعملية الحضور السابقة تجري باعتقاد أنَّ المعاني واحدة. وأنها تحمل ايقاع التفكير الأصلي حول قضية ما. وليست الفكرة وراء ذلك ضرباً من المصادفة، لكنها تخترق كافة الخطابات الدينية والبلاغية والأدبية والفكرية. هذا السبق المرجعي لنقل الحقيقة كما هي موصولة اليقين المباشر. لتغدو الأولوية لسلطة الحقيقة لا غير، بينما هي في مضمونها معكوسة. أي هي تمثل حقيقية السلطة الرائجة. وأنَّ كل ضرب منها إنما هو الموت الفعلي للبحث عنها. فالحقيقة عندئذ جثة مقدمة سلفاً. إنها لا تخضع لعمليات الغربلة والانكشاف، لكنها جاهزة. وليس لمتلقٍ أن يعترض ولا أن يُعمِل فكره بل يأخذها كما هي إلى نهاية المدى.

إذ يتعلق بذهنية المتلقي (القارئ): أنّه طالما يتلو (هذا النحت العربي) حروفاً وألفاظاً، فإنه سيتلو معها أنفاساً دلالية من مصدرٍ أعلى. ولا يستطيع ايقافاً للمعاني أو مراجعةً لها، فعليه أنْ يتقبلها على نحو سلبي في السياسة والاجتماع والمعرفة. ليصبح القُرَّاء قطعاً خشبية لا حول لهم ولا قوة غير السمع والطاعة والإتباع. تلك النظرية التي كانت بمثابة الأمر الأول للسلطة باسم المقدس. " اسمعوا وعووا واطيعوا "... مقولة كانت عصا الإيمان بالغيبيات المطلقة في حاضنة الثقافة العربية. حيث تهوي على رأس المتلقي في جميع الأمور، فيخضع دون حراك ولا تمرد. ومع اعتبار الكلام كلاماً متعالياً فوق المنابر وفي المحافل السياسية ومع الوعظ والارشاد، فلقد بقيت آلية خضعت لها الطوائف والمذاهب الدينية عبر جغرافيا العالم الاسلامي.

وهذا ما جعل المناخ الفكري لدينا مُلبداً عادة بالتقليد والاحتذاء وإقتفاء الأثر، فلم تخلو سماء اللغة والعقل من هذه الأشياء، من جيل إلى جيل ومن طائفة إلى طائفة ومن جماعة إلى جماعة ومن تنظيم إلى تنظيم ومن مذهب إلى مذهب ومن فقهاء إلى فقهاء ومن أفراد إلى أفرادٍ. فهناك العبارات المكرورة ذاتها كما يرددها الشيوخ وكما يرددها الأدباء والباحثون والكتاب. وهم على تباين أفكارهم يعتبرون اللغة هبة ميتافيزيقية metaphysical gift خارج قدرة الإنسان على انتاج الدلالة المختلفة.

 

د. سامي عبد العال

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم