صحيفة المثقف

بشرى البستاني: اللعب الحر باللغة وستراتيجية التفكيك

بشرى البستانيتعد نظرية اللعب الحر باللغة محورا مهما من محاور التفكيك الخمسة التي تشتمل على الاختلاف ونقد التمركز، واللعب باللغة، وعلم الكتابة، والحضور والغياب الذي يقوم على حضور الدال وتغييب المدلول، وعلى هذا المنطلق التفكيكي تكاد ترتكز المحاور الأخرى في الاختلاف الذي يرفض الركون لمعنى معين والاستقرار عنده ونقد التمركزعلى العقل. وتهدف هذه المحاور إلى تقويض مفهوم الحقيقة بمعناها الميتافيزيقي، إذ لا حقيقة في التفكيك، بل هدم وتقويض وتخريب لكل الاسس الثابتة التي قامت عليها الخطابات السابقة. ويعترف جاك دريدا بأن التفكيك ليس منهجاً ولا نظرية في الأدب ولا يمكن تحويله إلى منهج، وهو يتساءلُ: ما التفكيك. ؟ ويجيب على تساؤله: لا شيء (1). فالنص هو نسيج مركب من اشارات متشابكة ودلالات متداخلة يتطلب فهمها التحليل والتفكيك والعزل لفحص تشكيلاتها البنيوية وجذورها المعرفية التي تحتاج لدقة وعمق ورؤى لتوجيه إشاراتها الدلالية التي لا تستقر على حال ولا تقف عند معنىً محدد.

ويؤكد التفكيك أنَّ في كل نصٍّ فجوات تسمح بدخول القارئ اليها وتفجير النص من خلالها، وتهدف هذه الفجوات إلى زعزعة المفاهيم المستقرة في الثقافة الغربية من أجل الكشف عن زيفها وتقويض سلطتها وانتقاد الثنائيات التي كرستها ومنحت الأفضلية للمهيمنات فيها كثنائية رجل امرأة، وأبيض أسود، ونهار ليل. ولعلّ هذا الهدف واحدٌ من إيجابيات التفكيك بوصفه الرد الحاسم على ادعاء مركزية الثقافة الغربية وهيمنة ثقافتها، وادعاء امتلاكها لحظة انبثاق الحضارة الإنسانية الأولى متنكرة لجهود شعوبٍ سبقتها في هذا المضمار، كالحضارة العربية الإسلامية والفرعونية والهندية والصين وفارس من أجل العمل على تكريس سطوتها على العالم.

إن قضية الحضور والغياب التي ترتكز على حضور الدال وتغييب المدلول تكاد تشكل الأساس الذي تقوم عليه الفعالية التفكيكية كلها وبهذا التغييب يكون لعب اللغة حراً، وعلى هذا المنطلق تكاد ترتكز محاورالتفكيك الأخرى في الاختلاف الذي يرفض الركون لمعنى معين والاستقرار عنده، كما أن نقد التمركزعلى العقل يعدّ من الأسس المهمة التي اعتمدها التفكيك لأنّ جميع الإجراءات التي طرحها أهل التفكيك للعملية النقدية التي تبناها فلاسفتهم كانت قد خضعت لحضور الدوال وتغييب المدلولات.

إن المحاور التي قام عليها التفكيك في (الاختلاف، ونقد التمركز، ونظرية اللعب، والكتابة) تبرز فيها بشكل مباشر ثنائية الحضور والغياب التي كانت تهدف إلى خلخلة منظومة الفكر الغربي المعرفية وتحويلها من (ميتافيزيقيا الحضور) إلى الغياب، غياب المعنى واختلافه وتعدده، لأن السلطة انتقلت من النص وارتباطاته المعجمية إلى القارئ، وصارت سلطة القراءة هي السلطة المهيمنة على الفاعلية النقدية كلها، ومن خلالها يتم اللعب باللغة عبر التحولات الدائمة واللانهائية للمدلول المتغير أبداً، مما أدى إلى نتائج وخيمة على الإنسانية مازالت شعوب العالم المستضعفة تعاني منها وتجني مرارتها، إذ نتج عن هذا اللعب الحر باللغة لعبٌ حرٌّ بالإنسان المستضعف واستهانةٌ بالشعوب المغدورة وعبث بحضاراتها وتراثها وتخريب لأوطانها ومستقبلها.

(2)

اللعب والتلاعب في اللغة ضد الجد، وسمي اضطرابُ الموج لعباً لأنه لا يسري بالركب إلى الوجه المراد، ويقال لكل من عمل عملا لا يجدي نفعاً إنه لاعب، والتلعاب صيغة تدل على تكثير المصدر، ويقال امرأة لعوب لكثرة لعبها أو لكونها يُلعب بها، واللُعبة: الأحمق الذي يُسخر منه ويُلعب به. واللعبةُ جرمٌ ما يلعب به كالشطرنج ونحوه، واللعبة التمثال، ولعبت الريح بالمنزل درسته، وملاعبُ الرياح: مدارجها (2) ومتأملُ هذه المعاني جميعها يدركُ أن دلالة اللعب بهذا الشكل لا تنحو منحى الإيجاب في اللغة، فهو ضد الجدية، وقرين الاضطراب والسخرية والتدمير. واللعب اصطلاحاً في صورته الخالصة نشاطٌ حر، وتعبيرٌ نفسي تلقائي ممتع مقصود لذاته، وعلماء النفس يضعون له وظائفَ وأهدافاً تختلف باختلاف رؤاهم عن هذا النشاط، فبعضهم يرى أن وظيفة اللعب هي التخلص من الطاقة الزائدة، أو أن وظيفته إعداد الكائن للعمل الجدي في المستقبل ولذلك وصفه بعض المربين بأنه أسلوب الطبيعة في التعليم وإكساب الطفل باللعب خبرات ومهارات. واللعب الجمعي مصدر من مصادر القدرة على التعامل مع الناس. ويرى بعضهم أن اللعب يلخص الماضي وأن الألعاب تمثل أدواراً مختلفة في تاريخ الإنسان وتدعى هذه الأدوار بـ "النظرية التلخيصية" أو نظرية تلخيص الحضارة، ويرى آخرون أن اللعب يقوم على نظرية تنفيسية، وأنه منفذُ الانفعالات الجنسية، ولهذه النظرية تاريخ قديم يتصل بأرسطو ومجال تفريغ الانفعالات بالتطهير، أما النظرية التحليلية فترى أن اللعب مجالٌ لإعادة التوازن والاتزان إلى حياة الكائن (3).

إن اللعب ظاهرة أولية تعمُّ عالم الكائنات الحية بأسرها وتخصُّ الإنسان كونه الموجود الواعي بالاختيار، والذي يتصرف بحرية، وعليه فان اللعب الإنساني هو لعب ذو مواصفات خاصة به، لكون الإنسان واعيا بقواعد اللعبة وشروطها، فطابع الملاعبة في الألعاب الإنسانية يتأسس من خلال فرض القواعد والتنظيمات التي يُعتدُّ بها لذاتها فقط، وهذه القواعد والتنظيمات داخل اللعبة مرتبطة بطريقتها الخاصة ولا يمكن انتهاكها، فالطابع المميز للعب الإنساني هو ذلك الطابع الفريد الذي ينطوي على قواعد رابطة يحكمها نوع من "التوجه المباشر" نحو الأشياء يطلق عليه "قصدية الوعي"، ولقد عدَّ الفلاسفة خاصية "التوجه المباشر" هذه بمثابة بنية الوجود الإنساني فهي بالغة الخصوصية. (4)

إن عنصر اللعب الذي ينتمي للثقافة الإنسانية يمكن أن يكون موجوداً في أكثر أنواع الأنشطة الإنسانية جديةً كالطقوس الدينية والاجتماعية، ولقد كان هناك ميلٌ لربط خبرة الفن والإبداع بمفهوم اللعب بوصفهما أشبه باللعب الذي يشكله الجمالُ كما يُشكلان هما الجمال. فاللعب الفني لعبٌ من نوع خاص لاختلافه عن أنواع اللعب الأخرى، كونه ذا قوانين دقيقة خاصة به لا يمكن للفن أن يكون إبداعاً إلا بها، ولذلك قرنه هانز جورج جادامير بالفن، فهو لعبٌ تمتلك فضاءاتُه منظوماتِ عملها المبدع والمتميز، وهو لعبٌ لا يتعارض مع الجدية بقدر ما هو متعارضٌ مع العلة القاتلة للروح. (5).

أما اللعب الإيهامي فهو ضربٌ من اللعب الذي يقوم على الإيهام المصحوب بالوعي لوجود خداع ذاتي يبدو ظاهرياً أنه ينطوي عادة على الابتعاد عن الأهداف والغايات الجدية مثلما ينطوي على قدر من التفكك والتحلل النفسي الخادع (6) وإذا كان مصطلح التلاعب الحر هو احد المصطلحات الفاعلة في حقل (الاختلاف) الذي يعدُّ واحداً من أهم مقولات التفكيك، فإنه يستمد كثيرا من جوانب سماته من الحقل الذي يشتغل فيه مصطلح اللعب الإيهامي، ذلك أن التفكيك يلتقط مصطلح اللعب ويضيفه إلى اللغة محرراً إياها من مواصفاتها القاموسية وأهدافها التي سبق وأن استقرت عليها عبر القرون (7). ومن أهم تلك المواصفات اقتران المدلول بدواله المعتادة والمتعارف عليها في قواميس اللغة، ولذلك كانت مهمة التفكيك الأولى هي فكّ الارتباط الدلالي بين اللغة وقواميسها وإنهاء سلطة تلك الدلالات القاموسية حين أُعطيت تلك السلطة للقراء والقراءة بلا منازع.

(3)

إن جذر مفردة (الاختلاف) في اللغة الفرنسية يختلفُ، وتتنازعه خصائص مكانية وزمانية وتتجه دلالته اتجاهاتٍ عدة ما بين عدم التشابه والتفرق والتبدد والتأخير والإرجاء المستمر للدلالة، إنه باختصار ذلك المصطلح الذي يرفض التزام المدلول بدواله لأن مهمته تحريرُ الدوال من سجنها اللغوي المعتاد وما أثبتته لها المعاجمُ من معانٍ. من هنا تنشأ مشكلة الحضور والغياب، حضورُ الدال وتعدد مدلولاته، بل غيابها حسب تعدد القراءات واختلافها باختلاف مرجعيات القراء واختلاف أفق وعي المتلقين وثقافتهم. وهكذا يكتسب المصطلح دلالة اصطلاحية، فحسب "ليتش" الذي ينقل تعريف دريدا للاختلاف يقول: إن الاختلاف ليس كلمة، كما انه ليس مفهوما، لأنه الإزاحة التي تصبح بواسطتها اللغة أو الشفرة أو أي نظام مرجعي عام ذا ميزة تاريخية، حين تكون عبارة عن بنية من الاختلافات ترتكز على ثبوت الدال والتغير الدائم والمستمر للمدلول، ويؤكد "ليتش" انه عند استخدام العلامة فان حضور المدلول والمرجع يرتبط بالحضور الذاتي للدال الذي يظهر لنا من خلال الوهم والمخادعة والضلال بصورٍ مفاجئة لأنها ترتبط بتحولات القارئ وفعل القراءة. (8) فليس هناك حضور مادي للعلامة فما يثيره الدال في ذهني من صور ذهنية مرتسمة يختلف عما يثيره ذلك الدال نفسه في ذهن قارئ آخر. ولذلك فليس هناك وقوفٌ نهائي على معنى محدد، وهذا الاختلاف أو الإرجاء يهدف إلى الحدّ من هيمنة فكرة الحضور، داعياً لعدم التقيد بمعنى معين مما يؤدي إلى توالد المعاني ليس بسبب تقرير الدالات لها، بل بسبب اختلافاتها المتواصلة مع المعاني الأخرى التي حدّت من حريتها، ولان هذه المعاني لا تعرف الاستقرار والثبات فإنها تبقى مؤجلة ضمن نظام الاختلاف من خلال الجدل بين مستويات الحضور والغياب من قارئ لآخر بسبب اختلاف مستويات التلقي وآفاقه ومرجعياته. إن عدم ترابط معاني مصطلح (الاختلاف)، وافتراقها ما بين التباين والإرجاء هو ما يسعى هذا المصطلح لتجسيده وتفسيره (9).

إن التوحد بين شطري العلامة دالاً ومدلولاً وحرص القواميس اللغوية على توثيق هذا التوحد هو الأصل في الدراسات اللغوية إلى أن جاءت النظريات الحديثة في اللغة وانتقدت هذا التوحد بين الدال والمدلول الذي كان أساس حدوث الدلالة الأحادية لحدٍّ ما، أو تقرير المعنى المحدد، وذلك هو جوهر سلطة النص التي عمل التفكيك على زعزعتها. فالذي حدث فيما بعد هو نسف ذلك التوحد بمعنى أن الدال لم يعد يشير إلى مدلول محدد ولا لأي مدلول، فقد انفصل الدال عن المدلول الذي منحته إياه المعاجم والدراسات القديمة، وصار يقاوم الثبوت في عملية مراوغة لا نهائية للدوال فيها، وكانت نتيجة هذا الانفصال استحالة تحقيق دلالة ثابتة في الإسناد وفي النص، فقد ادعى مغيبو المدلول فوكو وبارت وشتراوس ولاكان وبعدهم جاك دريدا أن الدال هو الذي يحمل وثوقيته؛ كونه مادياً ثابتاً، بينما المدلول سؤال مفتوح للتأويلات المختلفة (10) إن الدال الواحد يمكن أن يكون له قطعاً مدلولاتٌ مختلفة بالنسبة إلى الشخص الواحد في أوقات مختلفة ولعددٍ من القراء في وقتٍ واحد. إن مصطلح الاختلاف يجمع معا جميع معاني الاختلاف الاعتيادية مضيفا إليها كل دلالات فعل الإرجاء والتأجيل. والاختلاف حسب التفكيك ينجم عن بنية مكانية تقابلية بين المتضادات، بنية جاءت نتيجة مكانيّةِ المتضادات ووجود الثغرات بينها ورصفها جنبا إلى جنب، فلابد من وجود صدع يفصل بينها اعتماداً على عدم التشابه والنفور بين الأقطاب والمصطلحات، وتلك هي سمات دلالة الاختلاف وذلك ما أطلق عليه التفكيك: الفجوات والفراغات الموجودة في كل نص أيّاً كان موضوعه. فضلاً عن أهمية هذه الصدوع والفراغات والفواصل التي لا يمكن بدونها للمفردات والمصطلحات أن تؤدي عملية الدلالة ووظيفتها ابداً، لأنها هي التي تمنح المؤول فرصته في ملئها بالدلالة التي يراها غائبة، ويراها مناسبة كذلك. أما أهمية الفواصل والقواطع الفراغية فتكمن في أنها تسمح للعناصر المتضادة بالدخول في علاقة معينة يبررها المتلقي دون أن يسمح لها بالتوافق والتطابق التام في هذه الفراغات التي نجمت عن انفصام العلاقة وانفصالها بين الدال والمدلول. (11) ومن خلال هذا الانفصال يتم التلاعب الحر باللغة، فمصطلح التلاعب الحر هو الناتج الأهم لاشتغال مصطلح الاختلاف التفكيكي، لأنه يعمل على إدامة مراوغة المدلولات المستمرة للدوال وعدم الاستقرار والمكوث عند مدلول معين، فالمدلول الجديد لا يلبث أن يتحول سريعا إلى دال يبحث عن مدلول آخر في لعبة متواصلة لا نهائية، دون أن يتيح سيلُ الدالات لمدلول ما أن يفرض حضوره أو يلازم داله ليستقر، ومن هنا يأتي الإصرار على عدم الاعتراف بوجود حدود تحصر المعنى بسبب كون الدلالة لا تملك قوة حضور بنفسها لان مقولة الحضور نفسها هي العامل المؤثر في إنتاج الدلالة التي لا تتسم بالاستقرار في التفكيك، ولما كانت هذه العملية لا تشتغل إلا داخل اللغة وبدالاتها حسب بسبب غياب المرجعيات أو تغييبها، فان النص لابد أن يصاب بالضمور والانكفاء ولا يعرف إلا ضمن كيانه اللغوي الخاص (12) حيث تحيل اللغة على لغة، أي من لغة الدال إلى لغة المدلول الذي لا يعرف الثبوت والاستقرار، وليس له وجودٌ خارج لغة النص برأيهم، ولا يتشكل إلا حسب أفق تلقي القراء ومرجعياتهم، بما يعني أن يحيل الدال على دال آخر باستمرار، دالٍ يرتسم صوراً ذهنية في ذهن القارئ وليس مرجعاً له حضورٌ مادي وحقيقة ملموسة خارج اللغة في الواقع، حتى قيل إن النص خرج من سجن اللغة في البنيوية إلى سجن الدالات في التفكيك، حيث يراوغ المدلول دالاته دون الاستقرار عندها. والمراوغة المقصودة هنا هي مراوغة المدلول للدال التي تحوّل العلامة اللغوية إلى علامة عائمة سابحة يحاول المتلقي تثبيتها مؤقتا إلى أن يجيء قارئ آخر أو القارئ نفسه في قراءة أخرى ليفكك القراءة السابقة ويزيح دلالتها بدلالات جديدة مضافة للمدلول السابح أبدا (13) وهكذا.

ويبدو واضحا في نظرية دريدا أن التلاعب ينطلق من أن التغير الجوهري الذي طرأ على نظرة ما بعد البنيوية إلى اللغة يتمثل في بعد المسافة بين الدال ومدلوله وفي ضعف العلاقة بينهما مما ترتب عليه ظهور فجوات تحولت إلى شك في الآراء التقليدية الراسخة عن الكينونة والوجود والحقيقة واللغة والأدب، وتتسع مساحة الشك / الفجوة حتى تختفي العلاقة بين الدال ومدلوله ولا تبقى في النهاية إلا الفجوة بين الاثنين، تلك الفجوة هي التي يتحقق فيها اللعب الحر للمدلولات وتتحقق لا نهائية الدلالة أو مراوغة المعنى لعدم استقراره. وتصبح كل قراءة هي إساءةٌ للقراءة السابقة حيث تتحول حقيقة الفجوة في نهاية الأمر إلى حاجز يقاوم الدلالة، فلا دلالة ثابتة في النص لأنها في تحولٍ وتشكلٍ دائمين، وعليه فانه لا توجد مدلولات في الواقع، وليس ثمة إلا دالات فقط، ففي ظل الفجوات والمدلولات المراوغة لا يمكن للمدلول نفسه أن يكتسب دلالة إلا إذا أحيل على مدلول آخر حيث يصبح المدلول الأول دالا، ويحدث الأمر نفسه مع المدلول الثاني ليتحول في قراءةٍ جديدة هو الآخر إلى دال، وهكذا لا يمكن الاستقرار في الدلالة إلا عن طريق الإشارة إلى دلالة أخرى مما يترتب عليه إغلاق النسق اللغوي حينما يتحول هذا النسق اللغوي للعلامات إلى دائرة نسقية مغلقة من الدالات اللانهائية التي تشير إلى نفسها فقط (14).

لقد كانت البداية الأولى لمصطلح اللعب مع دريدا في المؤتمر الذي عقد في جامعة جونز هوبكنز عام 1966 تحت عنوان (البنية والعلامة واللعب في خطاب العلوم الإنسانية) وقبل هذا المؤتمر بثلاث سنوات نشر دريدا بالفرنسية عام 1963 مقالاً بعنوان (البؤرة والدليل) يركز فيه على الحرية المطلقة في استخدام اللغة بطريقة لا تبعد كثيرا عن حرية استخدام اللغة عند الشاعر الرومانسي فهو يرى أن فكرة البنية كانت تفترض سلفا مركزا للمعنى من نوع ما، ويتحكم هذا المركز بالبنية كلها، غير انه في ذاته ليس موضوعا للتحليل البنيوي لان العثور على بنية المركز يعني العثور على مركز آخر (15) بمعنى أن انفجار المركز سيؤدي الى حدوث مراكز كثيرة في النص من خلال التشظيات التي يحدثها الانفجار، مما يؤدي إلى اتساع شبكة الدلالات في النص الواحد. والملاحظ أن هذه البنية المصطلحية للتفكيك والتي تقوم على العنف من تفجير وتشظٍّ وشكّ وإزاحة ونقض وتقويض وهدم وتفكيك قد انتقلت جميعها لجوانب الحياة كافة ولا سيما السياسية والاقتصادية ومن ثم الاجتماعية، وكان ضحيتها الإنسان المعاصر والمجتمعات الانسانية الضعيفة بشكل خاص.

إن اللعب والمراوغة مصطلحان ارتبطا أولا بنظرية التلقي، وتم تطويرهما إلى لانهائية الدلالة التي تحتل موضع القلب في استراتيجية التفكيك. إن حركة الدوال داخل أي مركز يسميها دريدا لعبا، ولذلك تتمتع الدوال بحرية اكبر عند تفكيك المراكز في عملية اللعب؛ لأن تفجير المراكز يؤدي إلى تعدد البؤر التي تحدثها التشظيات والتشتيت، وتعدد البؤر يؤدي إلى اتساع الدلالات، فتعدد المراكز ظاهرة إيجابية كونها تثري المعنى، أما ما انتقده التفكيك بشدة فهو التمركز الذي أدى بالثقافة الغربية وحضارتها إلى التسلط على العالم وإلى العنجهية والغطرسة وادى بها الى العنف والعدوان على الشعوب وانتهاك حقوقها. لقد اتسمت العلامات عند دريدا بإساءة الاستخدام وتحولت من المصدر النهائي للمعنى كما كان عند السيمائية إلى مصدر مستمر للعب والتغير والتحولات، وقد عدَّ أمناء جامعة (ستانفورد) هذه النتائج انهياراً حقيقيا للبحوث والجهود التي بُذلت وتبذل في دراسة اللغة، ووصفوا سعي التحليل التفكيكي لترسيخ نظرية اللعب بأنه شيء استفزازي يعيش على الانقسامات والعنف (16) والإحالات المستمرة من دال إلى دال آخر مع تغييب متعمد للمدلول الذي يفصح عن المعنى، هذا المعنى الذي كان ومازال هو الهدف الذي تسعى إليه الانسانية الراقية وتهدف له جهودها عبر التاريخ الإنساني. وتلك الصيغة التفكيكية محكومة بمجموعة آليات يسطرها (الناص) ويستخدمها اللاعب الذي هو المتلقي في تعامله مع النص، محاولاً إلغاء الحتميات والوثوقية والأخلاق والأحكام الجمالية.

وقد حدد بيتر هوجنستون تلك الآليات التي تلغي الوثوقية عن منظومات الابستمولوجيا والاخلاق والاحكام الجمالية.

ولا تكاد المصطلحات والآليات السابقة تخلو من الدلالات السلبية في لحظة تموضعها في النص عبر مجموعات غير منسجمة من الهذيان والأوهام والألغاز والغموض والكنايات والمونتاج والأساطيروالرموز والاقتباسات والمفارقات والكولاج، فضلا عن الذي يفصح عن المعنى، هذا المعنى الذي كان ومازال هو الهدف الذي تسعى له الانسانية الراقية وتهدف إليه جهودها عبر التاريخ الإنساني. وتلك الصيغة التفكيكية محكومة بمجموعة آليات يسطرها (الناص) ويستخدمها اللاعب الذي هو المتلقي في تعامله مع النص، محاولاً إلغاء الحتميات والوثوقية والأخلاق والأحكام الجمالية. وتعمل هذه الآليات غير المتجانسة على تلوين الدال وتعدد القراءات وتشظي الدلالة مما دفع بعضهم إلى وصف مثل هذه النصوص ببعدها عن الجدية وسطوة التهكم والزيف والعبث.

إن مشروع نسف التقاليد وحرق المكتبات وإلغاء المرجعيات الذي دعا إليه هيدجر للعودة إلى المنابع الأصلية الأولى للغة، ودرجة الصفر في الكتابة التي دعا إليها رولان بارت، واختلافات سوسير التي دحضت فكرة الأشياء الكامنة وراء المدلولات التي كان يُظنُّ أنها ثابتة ولها حضورها المادي خارج اللغة، دحضها جاك دريدا بقوله" لا شيء خارج النص"، وما لهذه الطروحات من مخاطر على الإنسان المعاصر وعلى تاريخه وعلى الشعوب المناضلة من أجل الدفاع عن هويتها وتراثها وتحقيق وجودها. إن ستراتيجية الاختلاف والإرجاء الدائم، والمدلولات المراوغة كلها مدلولات ليس لها من مرجعية غير اللغة، فلا دلالة ثابتة غير تولد الدالات المستمر، كل ذلك كان تمهيدا لتحقيق اللعب الحر للدلالة. واللعب الحر هو النتيجة المباشرة لقطع كل خيوط الثبات والاستقرار والتثبيت الذي يعمل على تماسك النص كما يعمل على استقراره ولو مؤقتا عند نقطة ما. إن رفض نقاط التثبيت هو رفض ميتافيزيقيا الحضور، ورفض أي حقيقة تاريخية أو دينية، رفض وجود مركز للكون يفرض عليه النظام ويفسر العلاقات المختلفة ويؤشر معالمَ سيرِ الإنسان المعاصر، مع ما يتبع ذلك من جزيئات مهمة مثل نسف العلامة اللغوية وحرمانها القدرة على الدلالة، ونسف العقائد واستحالة تثبيت معنى محدد للنص، لان استراتيجية التفكيك تقوم على التحرر من سلطة الإحالة إلى مركز مرجعي موثوق خارج اللغة، وفي غيبة هذه السلطة يكون اللعب حرا (17) لأنه يقتصر على العلاقات اللغوية داخل النص حسب، تلك العلاقات التي تفتقد أي وجود في الواقع، فليس من علاقة بين الشعر والحدث التاريخي وليس من علاقة بين الإنسان والأهداف المشروعة التي يناضل من أجلها. وليس من علاقة بين شخصيات الرواية والأهداف المشروعة التي تناضل من أجلها، لأن هذه الشخصيات كلها ورقية لا علاقة لها بالواقع وبهذا وفي فضاء اللعب الحر باللغة ينفرط عقد الكون والأشياء ليكون المركزيُّ هامشياً والهامشيّ مركزياً وتصبح العلة معلولاً والمعلول علة، فيصبح الأصل أثرا والمدلول دالا، وذلك هو اللعب الحر للغة وبها والذي يُنتج نصا هلامياً ليس أكثر من آثار اختلاف تشير إلى آثار اختلاف أخرى. إن سلسلة الاختلافات التي يحيل عليها النص حسب التفكيك، يعني تعدد المعنى إلى ما لا نهاية حسب أفق تلقي القراء ومدى عمق ثقافتهم وتنوعها، وذلك هو جوهر اللعب الحر باللغة. ومن المنطقي أن تؤدي القدرة على تحديد مدلول أو أصلٍ خارج لغة النص في محور الاختلاف التفكيكي إلى إيقاف اللعب الحر، وإيقاف اللعب الحر في عملية إنتاج الدلالة هو ما يعمل التفكيك على مقاومته ورفض ما ينتج عنه. فنظرية اللعب باللغة نابعةً من موقف تفكيكي فضلاً عن كونها واحدةً من نتائج نقد التمركز حول العقل وميتافيزيقيا الحضور اللتين كانتا محط نقض وتقويض دريدا، كونهما المحرك المهم لمحور الحضور والغياب التفكيكي. ولذلك فإن أهم ما جرى في التفكيك هو مغادرة الوقوف عند تشكيلات لغة النص التي تعدّ السمة العامة التي كان يقف عندها النقاد والتي راح أهل التفكيك يَصفونها بالجمود لانها تتصل بما يتسم بالثبوت الذي هو المعنى القاموسي، مغادرين ذلك إلى فعالية القارئ الذي غدا هو الموجه الذي يكشف توجهات النص ومواطن قوته وهشاشته بما يمتلك من آفاق تلقٍّ وثقافة وخبرات مكثفة سابقة، فلا ثبوت في التفكيك. كل شيء في حالة تغيرٍ دائم لعدم وثوقيتهم بأي حقيقة مطلقة، فلا حقيقة في التفكيك بل كل شيء آيلٌ للتغير كونه قائما على الاختلاف وتعدد التفسيرات ولانهائية المعنى الذي يختلف مع كل قارئ جديد وحتى مع القارئ الواحد للنص الواحد. لأن التغير والتأجيل دائمان مما يعمل على مغادرة التبسيط والوضوح الى التوتر والاختلاف لكثرة الفجوات في النص، وتغييب المدلولات، وكلما كانت مسافة التوتر بين النص والقارئ أبعد مدىً، فإن ذلك يمنح المجال للتأويل كي يشتغل أوسع وأعمق، مما يلوّن المعنى ويسمهُ بالتعددية.

***

يعمل مصطلح التشتيت أو الانتشار داخل نظرية اللعب عملاً حثيثاً بوصفه أداة تقويضية ركز عليها دريدا في تقويضه للفكر الأفلاطوني فيما يتعلق بمفهوم الكتابة ونظرية المحاكاة في الجمهورية، ولهذه المفردة علاقة وطيدة بالتناسل. أما بوصفها مصطلحاً فإن مصطلح (التشتيت) يعني عدم انتظام النص وغياب تماسك المعنى من أجل تكاثر الدلالات وانتشارها وتناثر معناها بطريقة يصعب ضبطها والتحكم بها، وهذا التكاثر المتناثر ليس شيئا يستطيع المرء إمساكه والسيطرة عليه وإنما يوحي باللعب الحر الذي لا يتصف بقواعد تحدُّ من حركة هذه الحرية بل هو حركة مستمرة تؤدي إلى عدم الاستقرار والثبات وتتسم بالزيادة المفرطة على ما يفترض انه يعني معنى معيناً، أو يشير لدلالة ما. (18) فالتشتيت في التفكيك لا يمكن التعامل معه الا من قبل قارئ حاذق له القدرة على جمع الشتات وإعادة تشكيله والعمل على انتظام النص من جديد من خلال توجيه دلالاته المتغيرة من قارئ لآخر، ولذلك أعاد النقد النظر بدلالة "الوحدة العضوية" التي كانت تعني تماسك النص وانسجامه في بنيته السطحية يوم كان واحداً من مهمات المؤلف المسؤول عن إنشاء النص، وصار اليوم من مهمات القارئ يوجهه حسب أفق تلقيه وأبعاد ثقافته وخبراته ورؤاه.

ولعل خطراً آخر يكمن في هذه اللعبة التفكيكية، ذلك أن هذه اللعبة لم تقتصر على ملعب اللغة بل تعدتها إلى مجالات أخرى لا تقل خطورة عن الأولى، فمن خلال

سحب ما بعد الحداثة ألعاب اللغة إلى حقول معرفية أخرى يمكن الإشارة إلى ثلاثة حقول اهتم بها د. مصطفى ناصف في حديثه عن ألعاب اللغة عند ليوتار ونلخصها بالآتي:

1- الحقل الاجتماعي: وتلعب فيه ألعاب اللغة لعبة التنافر وتشقيق كل شيء؛ لان التشقيق في ما بعد الحداثة يعني قوة الابتكار. والتلاعب باللغة يقبل ما لا يحتمله القياس ويقوم على التنافر والهامش والشقاق والتوتر الدائم، وهذا ما يؤكد انفصام هذا اللعب عن كل رابطة اجتماعية أو تحقيق هدف عادل، لأن هدفه هو تشكيل التناقضات وتطوير صناعة الأجهزة وليس تأهيل الذات بالمعنى الأصيل لأن هدف هذه اللغة في ما بعد الحداثة هو الاختلاف والتشتيت لا التواصل والانسجام، ولعل ماحدث ويحدث في العراق وأقطار الوطن العربي الأخرى أكبر دليل نعيشه شاهدا على تلك الأحداث الشريرة. إن عصر الحداثة الذي اهتم بوحدة العالم كان قد انتهى وانتهت إيجابياته، وحلَّ عصرُ ألعاب اللغة الذي لا يأبه بالبرهان ولا بالتصنيف الدقيق ولا بمرجعيات الحقيقة لأنه لا وجود لأي حقيقة في نظرهم مذ أنكروا المرجعيات والأشياء التي تمكث خارج اللغة؛ وصار كل شيء ورقيا لا علاقة له بالواقع، لأن ذلك التصنيف لا يساعد على حرية الحركة أو حرية إزاحة الخصم التي ينادي بها ليوتار، فقد كان فصل الدال عن المدلول إيذانا بالريب والشك ليس فيما هو أدبي أو فني فحسب، بل فيما هو اجتماعي وأخلاقي وقانوني كذلك، وهو إيذان بحلول الاضطراب والتشتت والفوضى التي نعيشها اليوم في شتى المجالات. إن اتصال الدال بمدلوله عند فوكو هو حالة إغفاء أصابت اللغة التي تكونت من آلاف السنين، ويحذر فوكو من هذا الإغفاء، يحذر من ربط الأفكار بالأشياء لأن هذا الربط هو قرين التوكيد والإشارة والإحالة، وألعاب اللغة قرينة الشك والشتات والثغرات والفجوات ونقض التواصل (19).

2- الحقل السياسي: وهنا تمجد ألعاب اللغة مبدأ الصراع والخصام حول مفهوم السلطة، إنها تستبعد دلالات الالتزام والانسجام باحثة عن الثغرات محرضة على الاضطراب وخلق الأزمات والتماس ما ينمّي النسبية والقلاقل والخلافات، لا ما يركز الاستقرار والتقدم كما كانت تؤكد الحداثة، مما حدا ببعض الباحثين إلى القول: إن ذلك مسؤول إلى حد ما عن تضاؤل فكرة المسؤولية الأخلاقية في القول والفعل، فهذه الألعاب تؤثر على دور الشخص وعلى إمكانية تحديد الحقيقة. إن ألعاب اللغة أصبحت نظرية سياسية مهمتها زعزعة فكرة الأساس الثابت والحقيقي، وتعمل على زعزعة تحديد الاتجاه خدمةً لما يسمى "الانزلاق المستمر"، والانزلاق يحتاج بداهة إلى العبث بفكرة التحديد والتأشير والتنظيم والتصنيف. إن ألعاب اللغة نظرية في توجهات السلطة ومفهومها الذي يشتغلُ في ضوء الهيمنة والتحيز والغلبة والاختلاف الدائم، (20). ومتأمل سياسات الدول الكبرى ذات المصالح اليوم يجدها تلعب داخل هذه الأطر في مواقفها المتغيرة تغيّر مصالحها التي لا تعلو عليها أية قيمة.

3- البعد الاقتصادي:

في غياب البعد الوجداني للإنسان وغياب تواصل الذات مع الذوات الأخرى، وإلغاء التماسك الاجتماعي طغت مكننة المعلومات وتغليب فكرة الأداء والمنفعة التي تسعى إلى ملكية المعلومات الوفيرة وهي تسعى لجمع الثروات الهائلة والتسلح والهيمنة على الشعوب، دون حسبان لمصلحة الإنسان. إنّ تراكم المعلومات والتطور التقني الهائل في ظل هذه الفلسفة ليس له من هدف إلا الدوران في فلك السلطة تحقيقا لتراكم رؤوس الأموال التي تخدم أهداف المؤسسة الاستغلالية ومراميها، كونها لا تسعى إلا لتحقيق مصالح الأقوى المتسلط وهدفه في تغذية رؤوس الأموال وانتصار المكننة وتضخم المعامل والمصانع والمصالح الرأسمالية، حتى لو كان ثمن تلك المصالح تشريد ملايين العمال في العالم الثالث ورميهم خارج المعامل والمصانع تمجيدا للآلة جالبة الثروة تحت شعار العولمة الاقتصادية التي أودت باقتصاديات الدول الفقيرة ودول العالم الثالث وهي تطرد الآلاف من العمال الفقراء وترميهم وعوائلهم للجوع والفاقة والحرمان دون أي نوع من أنواع التأمين على حياةٍ توفر لهم أبسط مقومات العيش بكرامة، لتوفر رواتبهم لغول العولمة الاقتصادية الجشعة . وهكذا ضاع الإنسان وضاعت معه كل قيمة في ظل قانون التلاعب الحر باللغة وبالقيم ودلالاتها وسماتها، إذ تحولت الوسائل إلى غايات وأهداف مما جعل الإنسان المعاصر يفتقد الشعور بالأمن والتراحم والتماسك.

4- البعد الفردي:

التلاعب الحر باللغة ناتج الاختلاف الذي هو سمة العصر المتأتي من اختلاف وجهات النظر وتباين الآراء وتعدد زوايا الرؤيا إلى الحياة والأشياء مما فعّل نظريات القراءة. فالتلاعب الحر باللغة ينقض الإثبات والحضور ويفتت الوحدة ويحارب المركز المتماسك ويشجع التهميش والتبعثر. وأمام هذه اللامبالاة بالهدف انصب الاهتمام على الوسائل وصارت التقانة وما تُنتج من أموال لأصحاب المصالح والمتنفذين بالاقتصاد العالمي هي كل شيء حين ضاع الإنسان والقيم معاً.

نتج عن الاختلاف والتلاعب الحر باللغة ضياع المعنى وانتفاؤه واختلاط الوهم بكل شيء، اختلاط النصوص ببعضها: الفلسفة بالبلاغة، الأسطورة بالشعر، القصة بالسيرة، فقد ضاعت الأصول وصار عسيراً ردُّ الأشياء إلى جذورها لأنه لا يوجد أصول أو حدود أو جذور في ميدان التلاعب الحر باللغة، فالعالم في النصوص مبنيٌّ من كلمات، إذ لا وجود لعالم حقيقي خارج الكلمات في مقولة جاك دريدا"لا شيء خارج النص" فالشخصيات في الأدب ورقية والأمكنة وهمية، والأشياء عبارة عن حروف شكلت كلماتٍ ذات صور ذهنية فقط لا علاقة لها بالأشياء والواقع، وكذلك الأزمنة والأحداث. إن ما بعد الحداثة لا ترى وجودا حقيقيا للذات المفسرة للنص لان المفسرَ نتاج لغة أو قوةٍ تحكمه، وهذا ما استغلته بعد الحداثة لتوسيع الاختلافات حيث تكمن جذور التفكيك (21).

إنَّ خطاب ما بعد الحداثة يفصل النص عن الواقع كلياً لأنه يفهم الواقع بوصفه مجرد اثر ناتج عن شفرة حضارية معينة، ولذلك فهو يركز على التحولات الدائمة والاختلافات والإرجاء والإزاحة ونفي المراكز، وهذا نوع من إشاعة الفوضى الثقافية والإرباك والاضطراب. اللعب الحر باللغة ومواصلة الاختلاف يلغي وظيفة النص، فـ(لااستقرار الدلالة) يعني ألا وظيفة للأدب، لا وظيفة للنقد ما دامت إزاحة الدلالة في النصوص مستمرة. التلاعب الحر للغة وبها يلغي الذاكرة فما حاجة اللعب باللغة للذاكرة ما دام كل شيء ورقياً وبعيدا عن الحقيقة، إنهم يسخرون من الذاكرة لأنها تدعو للجمود والاستقرار. إنها مخيفة لهم لأنها تجعل الغائب حاضرا. الذاكرة تستحضر الغائب حفاظاً على الهوية وإعادة تشكيلها عبر أزمنة الضعف والوهن في فاعلية خلاقة، فمحو الذاكرة تغييبٌ للهوية، ومحوٌ لمعالمها ومقاومةٌ لأصالتها وسماتها، محوُ الذاكرة تغييبٌ لفكرة الإنسان الاجتماعي وإلغاءٌ لفكرة المواطنة (22). ولقد جوبهت معظم أفكار دريدا في النقض والاختلاف والإرجاء والتأزم بالرفض من قبل فلاسفة مهمين أثروا القرن العشرين بعطاء إيجابي ونضرب لهم مثلا الفيلسوف الألماني هانس جورج جادامير الذي يمكن تلخيص نقاط الاختلاف بينه وبين دريدا في الآتي: (23)

1- إن دريدا ينطلق دائما من استحالة الفهم، فمن يعتقد انه يفهم شيئا ما في نص أو خطاب فانه يتجاهل حسب رأي دريدا تلك العناصر التي تستعصي على الفهم، فالفهم عند دريدا هو فعل عنف يهدف للقبول، في حين يبدو بالنسبة لجادامير فعلَ حوار وعشق.

2-على الحوار حسب دريدا (بين البشر أو مع التراث حين نؤوّل النصوص القديمة) أن يبرز نقاط الاختلاف والغرابة بين المتحاورين، ويشخص الفجوات في النص مؤكداً عناصر وأسباب تصلح لإشعال الخصومة والنزاعات، بينما يؤكد جادامير خلاف ذلك، إذ يسعى إلى تأكيد نقاط الالتقاء، ففي رأيه ان وجود نقاط الاختلاف والغرابة بين المتحاورين مرتبطٌ بنقاط الالتقاء المبدئية التي تجمع بينهم فحتى الاختلافات تشير في النهاية إلى نقاط الالتقاء هذه.

3- إن فلسفة جادامير بوصفها وريثة أستاذه هايدجر تبحث عن عناصر الالتقاء الإيجابية المبدئية التي يقوم عليها الفهم البشري للعالم والتراث والإنسان، مجابهاً بها محاور الاختلاف التفكيكي من أجل التقارب واللقاء الذي تحتاجه الإنسانية.

4- لذلك كله يمكن لفلسفة جادامير أن تدفع بالحوار بين الشرق والغرب إلى آفاق جديدة وهذا ما يحتاجه العالم اليوم وسط حمى الصراع وفوضى التشويش والتشويه، بينما تعمل طروحات دريدا في البحث عن الفجوات وتأشير بؤر الصراعات على إدامة التناقضات وإشاعة التداخل والالتباس وخلق التوتر والتأزمات من خلال دوال مربكة ما بين الاختلاف والإرجاء والنقض، في حين يؤكد واقع الحياة المعاصرة حاجته إلى التقارب والتعاون فقد أثبتت ثورة الاتصالات أن العالم صغير لا يتسع فضاؤه لصراع وحروب دائمة وان العنف طريق مسدود، بينما سيفضي الاقتراب من الآخر بقصد التوافق إلى ثراء الطرفين وإشاعة الأمن الروحي وإثراء عوامل الإيجاب التي تثري الحياة أكثر مما يفعل اختلافهما والتناقض القائم بينهما.

***

إن المخيف في هذه اللعبة التفكيكية التي لعبت بمصائر، وخربت مصائر في مجمل حقول الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية، هو ما يخصّ وطننا العربي ودول العالم الثالث، إذ غدت هذه الدول تحت هيمنتها، تننتظر منها كل شيء بدءاً من المواقف السياسية والعلوم والافتصاد والسلاح والإعلام والثقافة، وتدعم هذا التوجه التبعي معظم النخب العربية التي قاربت التجربة الغربية في دراستها، والتي تشهد عوامل السلب المهيمنة على أحوال العرب وغياب أي تخطيط يمكنه دفع القضية إلى أمام بالرغم مما تمتلك المنطقة من إمكانيات وعوامل إيجاب وثروات ظلت بؤرة لأطماعهم وحروبهم. فسادت التبعية للغرب وهيمنت روح الاستهلاك، وتعطلت جوانب مهمة من جوانب الإبداع العربي، فالنقل عن الحداثة الغربية يؤكد الدكتور عبد العزيز حمودة، يفتح الطريق أمام التبعية الثقافية ثم يكرسها، فضلاً عن كوننا نرتكب إثما حين ننقل المصطلح النقدي الغربي، وهو مصطلح فلسفي بالدرجة الأولى، ننقله بكل عوالقه المعرفية إلى ثقافة مختلفة هي الثقافة العربية دون إدراك لرؤى ذلك الاختلاف. (24)

وهكذا نجد أن اللعب الحر باللغة الذي اجتاح مرحلة ما بعد الحداثة في الثقافة الغربية وتسربت آلياته وأهدافه إلى نواحي الحياة الأخرى قد فارق أصول اللعب الفني. إلى ميادين خارجة في طليعتها قمع الشعوب المستضعفة واغتصاب خيراتها بكل الطرق غير المشروعة جمعا للمال واستحواذا على ثروات الشعوب.

إن اللعب المطلوب لأدبنا العربي هو اللعب الذي يحثُّ على التواصل ويدحض القطيعة، كونه فعلاً جماليا إنسانياً يمتاز بالوعي؛ لأنه يحترم أصول اللعبة التي تتوهج بألق المعرفة ورقي المتعة، وهو من حيث وجوده في الأدب سيكون مفيداً حينما يدحض الجمود والتقليد والسكونية ويبعث النشاط في النص ويفعّلُ عملية القراءة والتأويل من حيث فكّ الترابط الساكن والسكوني بين الدال والمدلول. لكن الخطر كله متأتٍ في هذه النظرية من كونها تدحض كل حقيقة سابقة وتتصدى للوقوف لدى كل ثابت أو ما يمكن أن يكون ثبوتياً مما يعرّض الجهد الإنساني كله لمخاطر الإلغاء والشك والضياع. إن اللعب الحر باللغة الذي هو سمة الأدبية – ولاسيما في الشعر – هو لعبٌ من المفروض إذا اعتمده المبدع العربي أن يكون له أصوله الفنية وحركيته الإبداعية، لعبٌ يتسم بهاجسه المعرفي وقلقه الحضاري، وهو لعبٌ يحترم إنسانية المتلقي الذي يلاعبه فلا يشوش عليه ولا يطلسم ولا يبهم، بل يحرضه تحريضا معرفيا وثقافيا وحضاريا على الفهم والتأويل من خلال نصوص كثيفة ذات مستويات تحترم هدفها الجمالي والقيمي، نصوص تحاور تراث الإنسان وتتواصل مع ثقافته وفنونه المعاصرة وتحترم وعيه ومرتكزات وجوده وما في هذا التراث من مرتكزات القوة والتماسك، كونه يحترم توازن الإنسان ولا يفتت تماسكه وقيمه، بل هو يحرك السكونية ويدحض الجمود ويثور على التقليد ويجدد العتيق، ويعمل على تجنب المباشرة، فأدبية النصوص ترتبط ارتباطاً وثيقاً بقدرتها على ترميز المثيرات وتفعيل فنون اللغة التي تحول النص من مقروءٍ اعتيادي إلى أثر جمالي. ولذلك فهو ليس لعب تسلية، بل قضية تحترم تراكم المعرفة وتعمل على تعميقها وتواصلها.

لقد تأكد للعالم أجمع أن الحضارة الغربية بتقنياتها وحداثتها وما بعد الحداثة معا فشلت في تحقيق السعادة والأمان والمعرفة اليقينية للإنسان، فهي حضارة مادية فصلت القيم الراقية عن العلم وعاثت بإنسان العصر فسادا، مما دفع الأخير إلى وقوعه في شك شامل بها وبمخترعاتها، وبكل شيء أوصله إلى الاحساس بالخديعة والشعور باستحالة المعرفة، مما جعل ستراتيجية التفكيك قائمة على الشك الذي صحبه رفض النظام ورفض السلطة والتقاليد وكل السرديات القديمة، وقد جرى حول ذلك حوارات طويلة لفلاسفةٍ لهم مواقفهم المهمة من هذه القضية التي مازالت مطروحة على موائد البحث والشك، وما زال العالم يموج بمواصلة الحوارات حول حرية القراءة وسلطة القارئ المطلقة التي تعني الشك بكل القراءات السابقة حتى وصلت المبالغة التفكيكية إلى كون القارئ لا يقرأ النص بل هو الذي يكتبه منذ موت المؤلف.

 

أ. د. بشرى البستاني

.............................

الهوامش والمصادر:

(1) ينظر، الكتابة والاختلاف، ترجمة كاظم جهاد، تقديم محمد علال سيناصر، دار توبقال، ط2، الدار البيضاء، 2000، 61.

(2) ينظر: لسان العرب مادة لعب، أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور (ت 711 هـ)، دار صادر، بيروت- لبنان، (ج1)، ط3، 1994.

(3) ينظر: موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، عبد المنعم الحفني، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط4، 1994، 624-625.

(4) ينظر: تجلي الجميل ومقالات أخرى، هانز- جورج جادامر، ترجمة د. سعيد توفيق، الهيئة العامة لشؤون المطابع الأميرية، 1997، 253، 255.

(5) ينظر: المصدر نفسه، 253.

(6) موسوعة علم النفس، د. اسعد رزوق، مراجعة د. عبد الله عبد الدايم، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت، ط1، 1997، 263.

(7) ينظر: معرفة الآخر، عبد الله إبراهيم وآخرين، المركز الثقافي العربي بيروت، الدار البيضاء، ط1، 1990، 119.

(8) ينظر، المصدر نفسه، 119.

(9) ينظر: الخروج من التيه، عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت 2003، 60، 56.

(10) ينظر: دليل الناقد الأدبي، د. ميجان الرويلي ود. سعد البازعي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت، ط2، 2000، 64.

(11) ينظر: معرفة الآخر. مصدر سابق. 121.

(12) ينظر: المرايا المقعرة، عبد العزيز حمودة، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، 2001، 182.

(13) ينظر: المرايا المحدبة من البنوية إلى التفكيك، عبد العزيز حمودة، سلسة عالم المعرفة، الكويت، 1998، 347، ومصادرها.

(14) ينظر: الخروج من التيه، مصدر سابق 182.

(15) ينظر: المصدر نفسه، 283.

(16) ينظر: التفكيك، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة آفاق عربية، ع5، 1992، 65.

(17) ينظر: دليل الناقد الأدبي، مصدر سابق، 66.

(18) ينظر: التفكيك، ترجمة سعيد الغانمي، مجلة آفاق عربية، ع5/92، 65.

(19) ينظر: بعد الحداثة صوت وصدى د. مصطفى ناصف، النادي الأدبي الثقافي، جدة، ط1، 2003. 179.

(20) ينظر، المصدر نفسه، 205

(21) ينظر، بعد الحداثة، صوت وصدى، مصدر سابق، 207.

(22) المصدر نفسه ، 55-59.

(23) مدخل إلى جادامير، ترجمة رشيد بو طيب، مجلة فكر وفن، ع75/2002، 44.

(24) ينظر، المرايا المقعرة، نحو نظرية نقدية عربية، عالم المعرفة، مطابع الوطن، الكويت، 2001، 9

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم