صحيفة المثقف

حيدر جواد السهلاني: محامي السلام نيلسون مانديلا.. الشجعان لا يخشون التسامح من أجل السلام، مانديلا

حيدر جواد السهلانيالمقدمة: في وقتنا الحاضر عندما يطرح موضوع السلام، لا بد من ذكر رجل السلام، الرجل الملهم للشعوب والإنسانية الرجل الذي واجهة السيئة بالحسنة، رجل معلم للتسامح، وبعد رحيله لا يزال يلهم العالم من خلال المثال الذي جسده في الشجاعة والرحمة، والتزامه بالعدالة الاجتماعية وثقافة الحرية والسلام، وهو رمز في عالم النضال والكفاح من أجل الحرية والعدل والمساواة، فقد سطر هذا الرجل العظيم اسمه بأحرف من ذهب في كتب التاريخ والسجلات، بعد أن كرس مانديلا حياته للنضال ضد سياسة التمييز العنصري في بلاده جنوب افريقيا، وبقي في السجن 28 عاما، من أجل الحرية والعدل، إلى أن تحقق مبتغاه، ويعتبر مانديلا، من الزعماء القلائل الذين دخلوا التاريخ من أوسع أبوابه، حيث طافت سمعتهم البلاد شرقاً وغرباً، وحظي بلقاء أهم قادة ورؤساء العالم، وقد حمل مانديلا على ظهره تاريخ شعب جنوب إفريقيا، من النضال إلى الحرية، ومن الفصل العنصري إلى المساواة بين أبناء البلد الواحد، إذ يعد رمزاً لمكافحة التمييز العنصري في العالم، وقد ناضل لسنين دفاعاً عن مبادئه وقيمه وحقوق شعبه المضطهد في جنوب إفريقيا، وأصبح أيقونة للنضال في العالم،واستطاع خلال فترة نضاله من تحقيق ما كان يصبو اليه السكان الاصليين في جنوب افريقيا منذ وقت طويل، فتخلص من نظام الابارتيد بتوليه الحكم، بل حقق ما هو أبعد من ذلك، فقد ساعد في تحقيق ما عجز عنه قادة أخرين في بلادهم، حيث ساعد على تحقيق شكل من اشكال الاندماج الوطني، وإزالة المشاحنات والضغينة والعنف المتراكم لدى السود اتجاه البيض، فهو القائل "لا أحد يولد وهو يكره شخصاً آخر بسبب لون بشرته، أو خلفيته، أو دينه، إذ لا بد أن هؤلاء الناس تعلموا الكراهية، وإذا كان في مقدورهم تعلم الكراهية، فهذا يعني أن بإمكانهم تعلم الحب، فالحب أقرب إلى فطرة الإنسان من نقيضه."  أن مانديلا رمز وقصة بطولية حقق إنجاز عظيم وهو توحيد الشعب، وهذا فعله هو فعل العظماء، وللأسف عند النظر إلى الحكام العرب الذين في غالبيتهم مسلمون لن نجد حاكم عربي يحبه الشعب أو استطاع توحيد الشعب بالحب والديمقراطية، ممكن نجد بلاد عربية مستقرة، لكن استقرارها بالعنف والدكتاتورية وتكميم الأفواه وزرع الفتنة والتفرقة، وهذا ما تشهده بلادنا العربية، فقد دمروا الشعوب بتجبرهم وعدم مسامحتهم والتي كان الرسول (ص) وأصحابه والأئمة الاطهار يوصون بالتسامح، وقصص التسامح عن أهل البيت كثيرة جداً، لم نتعض بهذا التاريخ الكبير المشرف ولم تشهد الأمة العربية سياسي عربي في وقتنا الحاضر أو الذي سبقه رجل يكرس مبدأ التسامح والعفو وينشر السلام، كما فعل مانديلا.

مانديلا سيرة وفكر:

ولد نيلسون مانديلا بتاريخ 18 تموز/ يوليو 1918 في بلدة مفيزو على ضفاف نهر مباش في ولاية ترانسكاي بجنوب أفريقيا. أُطلق عليه عند ولادته اسم روليهلالا مانديلا، ويعني في اللغة العربية (سحب فرع من الشجرة)، أو (المشاكس) حسب اللغة العامية في مدينته، كان والده مستشاراً لزعماء القبائل في المنطقة، لذا كان من المتوقع أن يصبح زعيماً، ولكن خلافاً نشب بينه وبين الحاكم المحلي التابع للاستعمار أدى إلى تجريده من لقبه وثروته كلها وبذلك انتقل الأب مع عائلته إلى قرية صغيرة تقع شمالاً بالقرب من واد عشبي ضيق، حيث لا توجد أي طرق سوى ممرات قليلة يمكن السير عليها، وأقامت العائلة ضمن أكواخ صغيرة، واعتمدت في معيشتها على المحاصيل المحلية، أما مانديلا فشارك أقرانه في ألعابهم المختلفة، وقد اقترح أحد الأصدقاء على والده أن يقوم بتعميده، وهذا ما حصل فعلاً في الكنيسة الميثودية، وهكذا أصبح مانديلا أول شخص في عائلته يذهب إلى المدرسة، وهناك طلب منه المعلم وفقاً للعرف السائد، أو بالأحرى التحيز الحاصل آنذاك ضمن النظام التعليمي البريطاني في جنوب إفريقيا، أن يغير اسمه ليصبح فيما بعد نيلسون مانديلا. توفي والد مانديلا عندما كان عمره 9 سنوات، مما أدى إلى حدوث تغيير كبير في حياته، فقد تولى رعايته أحد أفراد الأسرة الحاكمة لقبيلة ثيمبو، فسافر إلى مقر الحاكم وتكيف سريعا مع البيئة الجديدة، ولكنه طبعا لم ينسى قريته الحبيبة، ثم عكف مانديلا خلال تلك الفترة على دراسة الجغرافية واللغة الإنجليزية والتاريخ، واهتم خصوصاً بالتاريخ الإفريقي، ولاسيما حين سنحت له الفرصة للاستماع إلى زعماء القبائل المختلفة عندما كانوا يأتون إلى القصر الكبير في المناسبات الرسمية، كانت أحاديثهم مليئة بالقصص والحكايات التي تروي كيف عاش الأفارقة في سلام وأخوة قبل مجيء البيض إلى أراضيهم، وبثهم الخلافات فيما بينهم، كذلك استمع إلى القصص التي تحكي كيف تشارك الأفارقة الأرض والهواء والماء مع البيض، الذين احتكروا كل شيء لأنفسهم، ثم عيِن مانديلا مستشاراً للعائلة الحاكمة، وتلقى تعليمه الثانوي في مدرسة كلاركيبوري الداخلية. وقد قال في إحدى المرات إن تفوقه الأكاديمي كان ثمرة الجهد الشاق الذي بذله أيام الدراسة، كذلك كان مانديلا متفوقاً في الرياضة، وتحديداً في الجري والملاكمة، إلا أنه نال قسطًا وافراً من سخرية زملائه نظراً لأصله الريفي، ولكنه في نهاية المطاف نجح في عقد صداقات مع العديد من الطلاب، بما في ذلك ماثونا، أولى صديقاته الإناث، وفي سنواته الأولى هيمنت على حياته العادات والطقوس والمحرمات، وقد تزوج مانديلا ثلاث مرات، وأنجب ستة أبناء، وله 17 حفيدا، و زواج مانديلا الأول كان من إيفلين نتوكو ماس، والتي كانت هي أيضا من ترانسكاي، التقيا في جوهانسبرغ قبل أن يتزوجا في أكتوبر 1944، و انتهى هذا الزواج في عام 1957 بعد 13 سنة، نتج عن هذا الزواج ابنان، ماديبا (1946-1969) وماكجاثو مانديلا (1950-2005)، وابنتان، كلاهما سميتا مكازيوي مانديلا (المعروفة باسم ماكي، من مواليد 1947 و 1953). ماتت الابنة الأولى بعمر تسعة أشهر، وسموا الابنة الثانية باسمها للذكرى و توفيت في عام 2004. زوجة مانديلا الثانية، ويني، أيضا من منطقة ترانسكاي، والتقيا أيضا في جوهانسبرغ، حيث كانت ويني أول أخصائية اجتماعية سوداء في المدينة. رزقا بابنتين، زيناني من مواليد 4 فبراير 1958 وزيندزيسوا من مواليد عام 1960. أما الزوجة الثالثة في عيد ميلاده ال80 في عام 1998، وتزوج غراسا ماشيل.

درس القانون في جامعة ويتواترسراند، وكان مانديلا الأفريقي الأصل الوحيد في الكلية، فواجه العنصرية وصادق الليبراليين والشيوعيين والأوروبيين واليهود والطلاب الهنود، ثم بدأ مانديلا عمله السياسي عام 1942م، عندما انضم لحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، وبدأ معارضته لسياسة التمييز العنصري، وقد نشط الحزب في حملة عرفت بحملة التحدي، وتنقل مانديلا خلالها في البلاد مشجعاً على مقاومة التمييز العنصري ومناهضة الاستعمار، و بعد وصول الأفريكان القوميين من الحزب الوطني إلى السلطة في عام 1948 وبدأ تنفيذ سياسة الفصل العنصري، برز على الساحة في عام 1952 في حملة تحد من حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وانتخب رئيس لفرع حزب المؤتمر الوطني بترانسفال وأشرف على الكونغرس الشعبي لعام 1955، وعمل كمحامي وألقي القبض عليه مراراً وتكراراً لأنشطة مثيرة، وحوكم مع قيادة حزب المؤتمر في محاكمة الخيانة 1956-1961 وتمت براءته فيما بعد، وكان مانديلا يحث في البداية على احتجاج غير عنيف، وبالتعاون مع الحزب الشيوعي في جنوب أفريقيا وشارك في تأسيس منظمة رمح الأمة المتشددة، وفي عام 1961، ألقي القبض عليه واتهم بالاعتداء على أهداف حكومية، وفي عام 1962 أدين بالتخريب والتآمر لقلب نظام الحكم، وحكمت عليه محكمة ريفونيا بالسجن مدى الحياة، وفي 5 أغسطس 1962، اعتقلت الشرطة مانديلا، وسجن في سجن مارشال سكوار بجوهانسبرغ، وفي عام 1963، تم إدانة مانديلا بالتحريض على إضرابات العمال والتخريب والتآمر للإطاحة بالحكومة، ونقل مانديلا إلى بريتوريا، وفي زنزانته بدأ في دراسة بالمراسلات للتحضير لليسانس الحقوق (بكالوريوس في القانون) من جامعة لندن، ثم نقل مانديلا وزملائه المتهمون من بريتوريا إلى سجن في جزيرة روبن آيلاند، حيث بقوا هناك لمدة 18 سنة معزولين عن السجناء الغير سياسيين في القسم B، وسجن مانديلا في زنزانة رطبة بمقاس 8 أقدام في 7 أقدام، ويوجد فيها حصيرة من القش للنوم عليها، و لم يسلم من المضايقات الجسدية واللفظية من العديد من حراس السجن البيض، وكان سجناء محاكمة ريفونيا يقضون يومهم في كسر الصخور في المحاجر، وقد منع مانديلا من ارتداء النظارات، مما تسبب في أضرار دائمة في بصره بسبب الجير،، ومنعت عنه الصحف، وكان قد حبس انفراديا في عدة مناسبات لحيازته قصاصات أخبار مهربة، وتم تصنيفه كسجين بأدنى درجة مراقبة (الدرجة D)، وسمح له بزيارة واحدة ورسالة واحدة كل ستة أشهر، وفي ظل رقابة صارمة على كل بريده شارك السجناء السياسيون في الإضرابات عن العمل وعن الطعام،والتي اعتبرها مانديلا لاحقا بغير الفعالة إلى حد كبير لتحسين أوضاع السجون، ونظر إليها كصورة مصغرة من النضال ضد الفصل العنصري، وانتخبه سجناء حزب المؤتمر عضوا في الجهاز العالي، وشارك في مجموعة تمثل جميع السجناء السياسيين في الجزيرة، وفي أبريل 1982، تم نقل مانديلا إلى سجن بولسمور في توكاي (كيب تاون) مع كبار قادة حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، وكانت الأوضاع في بولسمور أفضل مما كانت عليه في جزيرة روبن، إلا أن مانديلا افتقد الصداقة وأجواء الجزيرة، ومع وجود العلاقات الجيدة مع الضابط الآمر ببولسمور، العميد مونرو، سمح لمانديلا بإنشاء حديقة على السطح،  والقراءة بنهم والتراسل على نطاق واسع، فسمح له بـ 52 رسالة في السنة، وفي ديسمبر 1988، نقل مانديلا إلى سجن فيكتور فيرستر بالقرب من بارل، وهناك وجد راحة نسبية في منزل الحراس مع طباخ شخصي، وسمح للكثير بزيارته، وقد أجرى مانديلا من خلالها اتصالات سرية مع زعيم حزب المؤتمر الوطني الأفريقي المنفي أوليفر تامبو، وفي عام 1989 عانى بوتا من جلطة دماغية، فتنحى لصالح المحافظ دي كليرك، واعتقد الرئيس الجديد بأن نظام الفصل العنصري غير قابل للاستمرار، فأطلق سراح جميع سجناء حزب المؤتمر الوطني الأفريقي دون قيد أو شرط باستثناء مانديلا، وبعد سقوط جدار برلين في نوفمبر 1989، دعا دي كليرك مكتبه للاجتماع ومناقشة تقنين حزب المؤتمر الوطني الأفريقي وتحرير مانديلا، لكن البعض كانوا معارضين بشدة لخططه، ثم التقى دي كليرك مع مانديلا في ديسمبر لمناقشة الوضع، واللقاء اعتبره الطرفان بالودي، وقبل دي كليرك الإفراج عن مانديلا دون قيد أو شرط وإضفاء الشرعية على كل الأحزاب السياسية المحظورة سابقاً، وقد ترك مانديلا سجن فيكتور فيرستر في 11 فبراير، وقابل الحشود التي اجتمعت والصحافة وهو ممسك بيد زوجته ويني، وقد بث الحدث على الهواء مباشرة على جميع أنحاء العالم  وانتقل إلى مقر بلدية كيب تاون وسط الحشود، حيث ألقى خطابا أعلن فيه عن التزامه بالسلام والمصالحة مع الأقلية البيضاء، كما أوضح أن الكفاح المسلح لحزب مؤتمر الوطني الأفريقي لم ينته بعد، وأنه سيستمر، كإجراء دفاعي ضد عنف نظام الفصل العنصري، وأعرب عن أمله أن توافق الحكومة على المفاوضات، بحيث لا تكون هناك أي ضرورة للكفاح المسلح، وأصر على إحلال السلام لغالبية السود وإعطاؤهم الحق في التصويت في الانتخابات الوطنية والمحلية، وفي يوليو 1991، أثناء المؤتمر الوطني للحزب في ديربان، اعترف مانديلا بأخطاء الحزب وأعلن عن هدفه في بناء (فريق مهام قوي ومؤهل) لتأمين حكم الأغلبية، وفي المؤتمر انتخب مانديلا رئيساً لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ليحل محل تامبو المريض، كما تم انتخاب 50 عضوا تنفيذيا من أعراق وأجناس متعددة، واصبح لمانديلا مكتب في المقر الجديد لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي في شل هاوس، وسط جوهانسبرغ، وفي انتخابات 27 أبريل 1994 أعد حزب المؤتمر الوطني الأفريقي حملة انتخابية فتح خلالها 100 مكتب، و كانت حملة حزب المؤتمر قد قامت حول برنامج لإعادة الإعمار والتنمية لبناء مليون منزل في ضرف خمس سنوات، وإدراج التعليم المجاني الشامل وتوسيع نطاق الحصول على المياه والكهرباء. و كان شعار الحزب (حياة أفضل للجميع) وكرس مانديلا الكثير من الوقت لجمع التبرعات لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي وهو يطوف أمريكا الشمالية وأوروبا وآسيا ساعيا ملاقاة المتبرعين الأثرياء ومن ضمنهم أنصار نظام الفصل العنصري،و ظهر في الانتخابات دي كليرك ومانديلا كقادة للحزبين الرئيسيين، في مناظرة على التلفزيون، ورغم اعتبار دي كليرك أحسن متكلم في هذا الحدث لدى الاغلبية من المشاهدين، لكن عرض مانديلا يده لمصافحته مفاجئة له، مما دفع ببعض المعلقين لاعتبار ذلك انتصارا لمانديلا، وأدلى مانديلا بصوته في مدرسة ثانوية في ديربان، وقد فاز حزب المؤتمر الوطني الأفريقي في 7 محافظات من أصل 9،و نيله 62٪ من الأصوات على المستوى الوطني، وهنا اقترب حزب المؤتمر الوطني الأفريقي كثيراً من نسبة الثلثين التي تمنحه الأغلبية اللازمة لتغيير الدستور، وتم تنصيب مانديلا في بريتوريا في 10 مايو 1994، وتابع المراسيم عبر نقل تلفزيوني مليار مشاهد حول العالم، وحضر هذا الحدث 4000 ضيف، من بينهم قادة العالم من خلفيات متباينة، وأصبح مانديلا أول رئيس أسود لجنوب أفريقيا ورئيسا لحكومة الوحدة الوطنية التي هيمن عليها حزب المؤتمر الوطني الأفريقي، ولم تكن له أي تجربة في الحكم، وضمت الحكومة أيضا نوابا من الحزب الوطني وأصبح دي كليرك نائبا أولا للرئيس، في حين تم اختيار ثابو مبيكي نائبا ثانيا، وبالرغم من أن مبيكي لم يكن الاختيار الأول لهذا المنصب، إلا أن مانديلا أراده أن ينمو ليعتمد عليه بشكل كبير خلال فترة رئاسته، والسماح له بتنظيم تفاصيل السياسة، واستمر في الحكم من عام 1994 حتى عام1999،ثم قاد مانديلا مجموعة من المفاوضين ضمن محادثات رسمية مع الحكومة، وكان هدف المفاوضات وضع دستور خاص بجنوب أفريقيا يمنح السود حق المواطنة وحق الانتخاب .

في فبراير 2011، أدخل مانديلا المستشفى بسبب عدوى أصابت الجهاز التنفسي، وجذب ذلك اهتماما دوليا  قبل إعادته للمستشفى بسبب إصابة في الرئة وإزالة حصوة في ديسمبر 2012،و بعد إجراء طبي ناجح في أوائل شهر مارس عام 2013،  تكررت إصابة رئته، واستضيف في مستشفى بريتوريا لفترة وجيزة، وفي يوم 8 يونيو 2013، تفاقمت إصابة رئته، وأعيد إلى مستشفى بريتوريا وهو في حالة خطيرة، وفي 22 يونيو 2013، ذكرت شبكة سي بي اس نيوز أنه لم يفتح عينيه لعدة أيام، وفي 23 يونيو 2013، أصدر الرئيس جاكوب زوما بيانا قال فيه بأن حالة مانديلا أصبحت حرجة، وفي 25 يونيو، زار ثابو ماكجوبا (مطران كيب تاون) مانديلا في المستشفى وصلى مع غراسا ماشيل مانديلا في هذا الوقت الصعب، وفي اليوم التالي زار زوما مانديلا في المستشفى وألغى زيارة مقررة في اليوم التالي إلى موزمبيق، وفي يوم 5 ديسمبر 2013 توفي مانديلا، وكان محاطًا بعائلته في منزله بجوهانسبرغ متأثرا بعدوى في الرئتين عانى منها طويلا، وقد فارق مانديلا الحياة حوالي الساعة 20:50 بتوقيت المحلي وأعلن عن وفاته الرئيس الجنوب أفريقي جاكوب زوما، من خلال بيان قال فيه " بني وطني جنوب إفريقيا، لقد وحدنا مانديلا وسوف نودعه موحدين." وأعلن الحداد في البلد لمدة 10 أيام، وقد حظي مانديلا بجنازة رسمية حضرها 90 ممثلا رسميا لعدة دول ومنظمات في تجمع مهيب تداول فيه عدد زعماء على المنصة لرثاء الفقيد، والمراسم جرت في 10 ديسمبر 2013 في ملعب سوكر سيتي في جوهانسبيرغ، هذا الملعب الذي شهد آخر إطلالة جماهيرية لمانديلا أثناء بطولة كأس العالم لكرة القدم 2010، في حين أقيمت مراسم الدفن بكونو (مسقط رأسه) بحضور أفراد من عائلته وقادة البلاد.

الجوائز والتكريمات:

أحب الناس تكريم عمل مانديلا من أجل الحرية وحقوق الإنسان، كما لو أن 695 جائزة لم تكن كافية، فقد سميت أكثر من 25 مدرسة وجامعة ومؤسسة تعليمية باسمه، وما لا يقل عن 19 منحة دراسية ومؤسسة تحمل اسمه، كما صنع أكثر من 95 منحوتة وتمثال وقطعة فنية عنه، أو كرست له، وقد حملت الكثير من شوارع مدن العالم اسم مانديلا، إلا أن أغرب ما يحمل اسمه هو طائر من فصيلة نقار الخشب، أطلق العلماء عليه اسم مانديلا، بجانب إطلاق علماء من جامعة ليدز على جزء نووي اسم جزء مانديلا، واستغلت صورة مانديلا عند الناس تجارياً، فتم تسويق وبيع أقمصة تحمل صورته إضافة إلى حوالي خمسمائة كتاب منشور عنه، ومنها أيضا الأشياء ذات الصلة بمؤسسته التي تحارب الفقر والإيدز، والعديد من الفنانين كرسوا أغاني لمانديلا كان أشهرها أغنية الحرية لنيلسون مانديلا في عام 1983، وصور مانديلا في السينما والتلفزيون في مناسبات متعددة، منها فيلم مانديلا ودي كليرك لعام 1997، وفي نوفمبر 2009، أعلنت الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم عيد ميلاده، 18 تموز  بـ يوم مانديلا، كيوم احتفال وطني اعترافاً بإسهاماته في النضال من أجل الحرية والمساواة، ويعتبر مانديلا في جنوب أفريقيا على نطاق واسع بـ (أب الأمة) و(الأب المؤسس للديمقراطية)، كما ينظر له كـ (محرر وطني ومخلص)، وفي عام 2004، منحت جوهانسبرغ مانديلا (حرية المدينة)، وأعيد تسمية ساحة مركز تسوق ساندتون باسم (ساحة نيلسون مانديلا)، ونصب تمثال لمانديلا فيها، وفي عام 2008، ازيح الستار عن تمثال آخر لمانديلا في سجن فيكتور فيرستر سابقا، بالقرب من كيب تاون، ويقف في المكان الذي أطلق سراح مانديلا فيه من السجن، ومن الجوائز التي حصل عليها: الحكم الرشيد في إفريقيا (2007)، ميدالية موتا جوزيبي   (2006)، جائزة سفير الضمير المرموقة (2006)، وسام القديس يوحنا  (2004)، جائزة غاندي للسلام (2000)، وسام أستراليا من رتبة وصيف مشرف (1999)،  وفي عام 1992 حصل على جائزة أتاتورك للسلام من تركي، لكنه رفض الجائزة، مبررا ذلك بانتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبتها تركيا في ذلك الوقت، وقبل لاحقا الجائزة في عام 1999، وسام الحرية الرئاسي  (1999)، وسام صليب القديس أولاف من رتبة فارس أعظم   (1998)، وسام سيرافيم  (1997)، وسام فرسان الفيل (1996)، نيشان الاستحقاق    (1995)، الوسام الأولمبي الذهبي (1994)، جائزة نوبل للسلام  (1993)،  الدكتوراه الفخرية من الجامعة الحرة في بروكسل   (1993)، جائزة فولبرايت (1993)، جائزة أميرة أشتوريس للتعاون الدولي (1992)، الدكتوراه الفخرية من جامعة بكين   (1992)، جائزة فيليكس هوفويت بواني للسلام  (1991)، الدكتوراه الفخرية من جامعة كمبلوتنسي بمدريد  (1991)، نيشان خوسيه مارتي (1991)، جائزة لينين للسلام  (1990)، نيشان الصداقة (1988)، جائزة سخاروف لحرية الفكر  (1988)، جائزة الأمم المتحدة في مجال حقوق الإنسان (1988)، و منحته الملكة اليزابيث الثانية الصليب الكبير من وسام القديس جون ووسام الاستحقاق، الدكتوراه الفخرية من جامعة هونغ كونغ،جائزة برونو كرايسكي لحقوق الإنسان، وسام الحرية فيلادلفيا، جائزة الحريات الأربع ميدالية الحرية، الدكتوراة الفخرية من جامعة برشلونة المستقلة، الجنسية الكندية الفخرية، الدكتوراه الفخرية من جامعة كلكتا، نيشان مالي الوطني من رتبة صليب أعظم، الصليب الأعظم لنيشان رهبانية القديس يوحنا من رتبة حاجب، وسام الصداقة الروسي، نيشان أغوستينيو نيتو، نيشان نجمة غانا، جائزة القذافي لحقوق الإنسان، نيشان رفاق أوليفر تامبو، ميدالية الكونغرس الذهبية، جائزة دلتا للتفاهم الدولي، وسام الإبتسامة، نيشان الجبل القديم، نيشان جامايكا، نيشان باكستان، وسام بلايا خيرون الوطني.

جنوب افريقيا:

جمهورية جنوب أفريقيا، هي دولة تقع في أقصى جنوب قارة افريقيا، ويحدها كل من ناميبيا، بوتسوانا، زيمبابوي، موزمبيق واسواتيني. كما أن اقتصادها هو الأكبر والأكثر تطورا بين كل الدول الأفريقية، والبنية التحتية الحديثة موجودة في كل أنحاء البلاد تقريباً، ويوجد في جنوب أفريقيا أكبر عدد سكان ذوي أصول الأوروبية في أفريقيا، وأكبر تجمع سكاني هندي خارج آسيا، وأكبر مجتمع ملون في أفريقيا، مما يجعلها من أكثر الدول تنوعاً في السكان في القارة الأفريقية، وتعد جنوب أفريقيا من الدول الأفريقية القليلة التي لم تشهد انقلاباً على الحكم، كما يتم تنظيم الانتخابات الحرة والنزيهة منذ عام 1994، مما يجعل للبلاد قوة مؤثرة في المنطقة، بل واحدة من أكثر الديمقراطيات استقراراً في القارة الأفريقية.

في القرن السابع عشر كان يتنافس الهولنديون والإنجليز، بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح عام 1488، من قبل برتو لومور، على استعمار جنوب أفريقيا، وأقاموا مستوطنات الهولنديون وجاءوا بالمزارعين الذين اطلق عليهم البوير، ثم تطور المصطلح ليطلق على المستوطنين الاوربيين، ثم بدأ الاضطهاد بالسود، وجلب اسيويين للعمل واستعبادهم، ووصل طريقة الاستعباد للسود، بأنهم اصبحوا يعاشرون نساء السود بدون ضوابط الزواج، ونتيجة لهذه العلاقة، ظهرت جماعة أخرى هي الملونين، وتسمى في جنوب أفريقيا (جريكاي) وينظر إليهم البعض كما ينظرون للسود والآسيويين، ثم حدث خلاف بين الهولنديون والانجليز، ادى إلى نهاية المطاف مصالحة وقيام نظام برلماني سياسي دستوري يقتصر على البيض فقط، ومنذ عام 1948، بدأت السلطة تطبق نظام التمييز العنصري، مما أدى إلى ظهور حركات ومظاهرات من قبل السود، ولكنها تم ردعها بمذابح واستمر هذا التميز إلى وصول دي كليرك إلى رئاسة الحكم، و كان السبب الأساسي الذي جعل دي كليرك ينهي السياسة العنصرية في البلاد، إدراكه أن العداء العرقي والعنف المتزايد سيقودان جنوب إفريقيا إلى حرب أهلية عرقية جديدة، لكن هذه المرة لن يكون بمقدور البيض الصمود أمامها، فتفاوض الرئيس مع الرجل الذي استحوذ على قلوب وعقول الجميع مانديلا، و في 11أيلول 1990أطلق سراح مانديلا من السجن ودعى أنصاره إلى التوقف عن الكفاح المسلح، وتم انتخاب مانديلا رئيساً للمؤتمر الوطني الأفريقي سنة 1991، وتفاوض مع رئيس البلاد آنذاك، دي كليرك، على إجراء أول انتخابات متعددة الأعراق في البلاد، وفي عام 1992، أعلنت الحكومة أنه سيكون بمقدور السود الادلاء بأصواتهم،  وفي عام 1993، حاز مانديلا وكليرك جائزة نوبل للسلام نظير عملهما المشترك لإنهاء نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا. وهكذا أُجريت أول انتخابات ديمقراطية في البلاد بتاريخ 27 نيسان 1994، وفي 9 أيار 1994، عقد أول برلمان متعدد الاعراق في جنوب افريقيا وانتخب مانديلا كأول رئيس أسود لجنوب أفريقيا.

الأبارتيد

الأبارتيد هو نظام الفصل العنصري الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 وحتى تم إلغاء النظام بين الأعوام 1990 – 1993،  وأعقب ذلك انتخابات ديموقراطية عام 1994. يهدف نظام الأبارتيد إلى خلق إطار قانوني يحافظ على الهيمنة الاقتصادية والسياسية للأقلية ذات الأصول الأوروبية،  وأول استعمال لكلمة الأبارتيد كان عام 1917 خلال خطاب ألقاه جان كريستيان سماتس، الذي أصبح لاحقا رئيس وزراء جنوب أفريقيا عام 1919، ومع أن نشأة الفصل العنصري عادة تنسب إلى الحكومة المهيمنة على الحكم في الفترة 1948-1994 إلا أنه جزئيا هو تركة الاستعمار البريطاني الذي أدخل نظام إصدار القوانين في مستعمرة الكاب ومستعمرة ناتال خلال القرن التاسع عشر، وقد رفضت كافة لغات العالم استقبال هذه الكلمة بترجمتها، وبقيت كما هي الأبارتيد تعبر عن حالة متفردة من العنصرية الرسمية الصريحة، وقد بدأ الحزب الوطني بإدخال سياسة الفصل العنصري منذ1948 وهو الحزب نفسه الذي بدأ تفكيك هذه السياسة عام 1990،بعد صراع طويل مع الأغلبية السوداء ومجموعات مناهضة للعنصرية من البيض والهنود، وبدأ تطبيق سياسة الأبارتيد أي التفرقة العنصرية بشكل رسمي حيث لم يكن مسموحاً للسود بالعمل إلا في أعمال محددة ومنعوا من حق الانتخاب وحق الملكية إضافة إلى انعدام المساواة بينهم وبين البيض في تقاضي الأجور إضافة إلى عزلهم في المساكن وأماكن العمل والمدارس، وتم توسيع سياسة التمييز العنصري في البلاد، فحكم الأربعة ملايين من العناصر البيضاء بقية السكان من غير البيض والذين قدر عددهم بحوالي 29 مليون، وسلكت الحكومة البيضاء سياسة عزل الأفارقة السود في مناطق خاصة بهم، وتوفير الخدمات العامة لهم كالتعليم والصحة بمعزل عن البيض، وقد أصدرت هيئة الأمم المتحدة عدة قرارات لمقاطعة اتحاد جنوب أفريقيا في سنة 1962 والسنوات التالية لها استنكاراً لهذه السياسة، كما قاطعت دول العالم الثالث اتحاد جنوب أفريقيا، وقد قسم الأبارتيد السكان إلى أربع مجموعات عرقية حسب القوانين التي كان يعمل بها منذ 1948 إلى 1991، وتلك المجموعات هي السود والبيض و الملونون و الآسيويون، ومنذ ثمانينيات القرن العشرين بدأ بعض البيض يطالبون بمنح السود حق التصويت، وضرورة إلغاء سياسة التفرقة العنصرية، وبعد أن تخلت حكومة جنوب إفريقيا عن سياسة التمييز العنصري، استأنفت معظم الدول علاقاتها التجارية معها، كما سمح لها بالاشتراك في المنافسات الرياضية العالمية، وفي عام 1992م شارك رياضيو جنوب إفريقيا في الألعاب الأوليمبية لأول مرة منذ 1960، وفي عام 1992 صوت البيض في استفتاء عام بالإيجاب طالبين بذلك من الحكومة المضي قدما في تبني ديمقراطية غير عنصرية، وفي العام التالي ألغت الأمم المتحدة كافة القيود التجارية مع جنوب إفريقيا، وفي عام 1994 أجريت بجنوب إفريقيا أول انتخابات ديمقراطية اختارت حكومة غير عنصرية.

السياسة والتسامح:

عندما أصبح مانديلا أول رئيس منتخب ديمقراطياً في تاريخ جنوب أفريقيا في العام 1994، بدا العالم حينذاك مكاناً مختلفاً تماماً، كان انتخابه رمزاً لميلاد جديد للحرية حول العالم، وكان سقوط جدار برلين ونهاية الحرب الباردة قد أديا إلى استنهاض ثورة ديمقراطية ليس في جنوب إفريقيا فحسب وإنما في جميع أنحاء العالم، وبين بداية التسعينيات والعام 2011، ازداد عدد الديمقراطيات على الكوكب من حوالي ثلث دول العالم إلى ما يقرب من النصف، ولم يكن مانديلا نفسه رمزاً عالمياً للديمقراطية فحسب، وإنما كان رمزاً للتعددية أيضاً، وبدأ انتصاره مثل إيذان بنهاية حقبة الاستبداد والقومية العرقية، وهكذا كان مانديلا زعيماً للحقوق المدنية في جنوب أفريقيا ومحارباً ضد الفصل العنصري، وهو نظام يتم فيه فصل المواطنين البيض وغير البيض عن بعضهم مع عدم إعطائهم نفس الحقوق بالتساو، وقد قضى مانديلا جزءاً كبيراً من حياته في السجن احتجاجاً على ذلك، ولكنه صار رمزاً لشعبه وأصبح رئيساً لجنوب إفريقيا في وقت لاحق، وقد جسد مانديلا طوال حياته أرقى قيم ومبادئ فكرة اتحاد الامم، وقد ظل معتقلاً لعقود من الزمان بسبب معتقداته، ومع ذلك حافظ على إيمان ثابت بالعدالة والمساواة الإنسانية، وعند إطلاق سراحه، تصالح مع أولئك الذين اضطهدوا، ثم قاد الطريق نحو تحقيق جمهورية جنوب أفريقيا الديموقراطية متعددة الأعراق، وقد عمل بلا كلل من أجل السلام والكرامة الإنسانية للشعوب في كل مكان، كما أن اشتراكه في مكافحة فيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) قد فتح آفاقا جديدة، مما ساعد على التخلص من أولئك الذين يعانون من هذا المرض، ولقد كان نموذجاً للمواطن الديمقراطي الذي يتفق مع الجميع ويتعايش مع الجميع و يمكن أن يستمر مثاله في توجيهنا في عملنا لبناء عالم أفضل للجميع، و ترأس مانديلا الانتقال من حكم الأقلية بنظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية متعددة الثقافات، ورأى في المصالحة الوطنية بأنها المهمة الأساسية في فترة رئاسته، بعد أن شاهد كيف تضرر الاقتصاد الأفريقي برحيل النخب البيضاء، وعمل مانديلا على طمأنة السكان البيض في جنوب أفريقيا بأنهم لهم كافة الحقوق في جنوب أفريقيا، و حاول مانديلا تكوين أوسع تحالف ممكن في مكتبه، مع دي كليرك،فقد آمن مانديلا كثيراً بالديمقراطية والالتزام بقرارات الأغلبية، ورسخ لديه الاعتقاد بأن الشمولية والمساءلة وحرية التعبير من أسس الديمقراطية، وكان يؤمن بالحقوق الطبيعية والبشرية، و كان يعارض علنا الرأسمالية والملكية الخاصة للأراضي وسلطة المال الكبيرة متأثرا بالماركسية، ونادى مانديلا أثناء الثورة بالاشتراكية العلمية،  ولكنه نفى أن يكون شيوعيا أثناء محاكمته بالخيانة، وقد استغل مانديلا حب الشعب وحماسه نحو الرياضة في تعزيز المصالحة بين البيض والسود، وكذلك عمل مانديلا على حماية الاقتصاد الوطني من الانهيار، ووضع خطة لإعادة إعمار البلاد وتنميتها، وفي عام 1996، وقع مانديلا على مرسوم تشريع دستور جديد للبلاد، وأنشأ حكومة مركزية قوية تقوم على حكم الأغلبية، مع ضمان حقوق الأقليات وحرية التعبير، وأنشئ  جهاز قضائي وسياسي لقيادة المصالحة، وكان ناجحاً فيها بحيث أصبح نموذج المصالحة والمسامحة في التاريخ، وأسهم في القضاء على الأحقاد ووضع البلد في طريق التعايش، وعمل على تفكيك أي شيء له علاقة بالفصل العنصري، والتصدي للعنصرية في الشركات والمؤسسات الحكومية وغير الحكومية، وحارب الفقر وحاول تحقيق مبدأ العدالة مع الأفارقة الذين حرموا من حقهم، وتعزيز المصالحة سياسياً، وعندما حان موعد الانتخابات العامة سنة 1999، أعلن مانديلا عزوفه عن الترشح، ورغبته في ترك العمل السياسي، ولكنه استمر في نشاطاته الرامية إلى جمع الأموال اللازمة لتشييد المدارس والمراكز الصحية في المناطق الريفية من جنوب أفريقيا، وعمل أيضًا على نشر عدد من الكتب التي تروي معاناته وكفاحه، نذكر منها: (رحلتي الطويلة من أجل الحرية)، وقد آمن مانديلا بفكرة التسامح والغفران بنزع فتيل الإشكال،وتميزت كل خطاباته بعد ذلك بروح العقل والتآخي بين بني قومه، بحيث أن هؤلاء البيض أصبحوا جزءً من الوطن بينما جذورهم انتهت عن بريطانيا، ووصل بشعبه إلى بر الأمان، فكان يهدف إلى أن يحقق الحرية والعدالة والرخاء والأمان والتعايش السلمي، ويقول مانديلا "عندما خرجت من السجن كانت مهمتي تتمثل في تحرير الظالم والمظلوم معا، فأن حاجة الظالم إلى  الحرية أكثر من حاجة المظلوم، فالذي يسلب إنسان حريته يصبح هو نفسه أسير للكراهية والحقد، ويعيش وراء قضبان التعصب وضيق الأفق، فالظلم يسلب كل من الظالم والمظلوم حريته، والحرية ليست مجرد فك الأغلال، ولكن الحرية أن تعيش حياة تحترم فيها حرية الآخرين وتعززها." لذلك أصر مانديلا  أن المصالحة يجب أن تتم خلال فترة حكمه فجعلها هدفه الرئيسي خلال هذه الفترة، وأعلن أن الشعب الشجاع لا يخشى المسامحة من أجل السلام، وهذا الذي جعل مانديلا يحقق المصالحة والمسامحة بين البيض والسود رغم كل الانتقادات الشديدة التي وجهت له من قبل السود المتشددين.

المواقف السياسية بعد التقاعد:

في سنة 1999 قرر التقاعد فلم يترشح لفترة رئاسية ثانية، واشتغل بالأعمال الخيرية من خلال مؤسسة مانديلا الخيرية، وبعد تقاعده عاش مانديلا حياة عائلية هادئة، يتنقل بين جوهانسبرغ وكونو، لكنه وجد صعوبة في البقاء في العزلة، فعاد إلى الحياة العامة مع برنامج يومي للمهام، تضمن اجتماعات مع قادة العالم والمشاهير، وعمل في جوهانسبرغ مع مؤسسة مانديلا، التي تأسست في عام 1999 بغية مكافحة انتشار الإيدز والتنمية الريفية وبناء المدارس، وفي عام 2003 تم إنشاء (مؤسسة مانديلا رودس) في بيت رودس بجامعة أكسفورد، لتوفير منح في الدراسات العليا للطلبة الأفارقة، وبدأ مانديلا يرفع صوته علناً منتقداً القوى الغربية، فعارض بشدة تدخل حلف شمال الأطلسي في حرب كوسوفو سنة 1999، واصفا الأمر بمحاولة من جانب الدول القوية لأداء دور شرطي على العالم كله، ولعب مانديلا دور الوسيط في بوروندي في فبراير 2000، وفي نوفمبر 2001، قدم مانديلا تعازيه في أعقاب هجمات 11 سبتمبر ودعم العمليات في أفغانستان، و في يوليو 2002، منحه الرئيس جورج دبليو بوش وسام الحرية الرئاسي، واصفا إياه بـ(رجل الدولة الأكثر احتراما في عصرنا)، وفي عام 1999، وخلال زيارة إلى إسرائيل وقطاع غزة، طلب مانديلا من إسرائيل الانسحاب من الأراضي المحتلة، وعلى الدول العربية أن تعترف بحق إسرائيل في الوجود ضمن حدود آمنة، و دافع عن علاقته مع ياسر عرفات ومنظمة التحرير الفلسطينية، الذين دعموا تاريخياً دائماً حزب المؤتمر الأفريقي، وقال أن منظمته في نفس صف منظمة التحرير الفلسطينية، لأنهما تحاربان من أجل تقرير المصير ولكن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي لم يشكك أبداً في حق دولة إسرائيل في الوجود، ولكن خارج الأراضي المحتلة، ودعى إلى وضع حد للحصار على قطاع غزة، مشيراً إلى أن نصف سكان غزة البالغ عددهم مليون ونصف المليون نسمة هم تحت 18 سنة وأن هذا الحصار (غير قانوني وغير مفيد)،وطلب مانديلا من إسرائيل ترك الأراضي الفلسطينية ووقف العنف، وكذلك الانسحاب من أي احتلال لها في الدول العربية، وفي عام 2003 عارض خطة الولايات المتحدة والمملكة المتحدة لشن الحرب على العراق، واصفا إياها بـ المأساة موبخا الرئيس الأمريكي بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير لتقويضهم دور الأمم المتحدة واتهم بوش برغبته في إغراق العالم في هولوكوست، كما اتهمه أيضا بالغطرسة وغياب الرؤية والذكاء، واعتقد أن هذا الإجراء سوف يقلل من تأثير الأمم المتحدة، وشجع الشعب الأمريكي على التظاهر ضد الحرب، وكذلك الدول التي تملك حق النقض في مجلس الأمن على استعماله، واتهم مانديلا بوش بالذهاب إلى العراق من أجل النفط فقط، ولمح إلى أن سياسة بوش وتوني بلير،تجاهلت توصيات الأمين العام كوفي عنان لها بدوافع عنصرية، و هاجم الولايات المتحدة على انتهاكاتها السابقة لحقوق الإنسان وإلقاء القنبلتين الذريتين على هيروشيما وناغازاكي خلال الحرب العالمية الثانية.

وحب مانديلا للرياضة وإيمانه بأنها توحد الشعوب خاض حملة منذ عام 2004  ناجحة لاستضافة جنوب أفريقيا لنهائيات كأس العالم لكرة القدم معلنا أنها ستكون (أفضل الهدايا القليلة لدينا في هذا العام) وظهر مانديلا في حفل الختام، وحظي بـاستقبال حافل، وفي 18 يوليو 2007، وبمبادرة من الملياردير ريتشارد برانسون والموسيقي بيتر غابرييل، نظم مانديلا و غراسا ماشيل وديزموند توتو في جوهانسبرغ اجتماعا لزعماء العالم المؤثرين الذين يريدون المساهمة بخبراتهم وحكمتهم في حل المشاكل الأكثر أهمية في العالم وأعلن مانديلا عن تشكيل (مجلس حكماء العالم) في كلمة له خلال عيد ميلاده التاسع والثمانين، وضم المجلس العديد من الاشخاص المؤثرين في العالم من ضمنهم كوفي عنان، ويعمل هذا المجلس على  تشجيع التفاوض حيث يدور الصراع، وإعطاء الأمل حيث ينتشر اليأس، ونشر السلام في العالم، وتحقيق المساواة بين الجنسين، ودعم المبادرات الرامية إلى التصدي للأزمات الإنسانية، فضلًا عن تعزيز الديمقراطية.

 

حيدر جواد السهلاني

................

الهوامش:

1- ينظر نيلسون مانديلا: رحلتي الطويلة من أجل الحرية، ترجمة عاشور الشامس، جمعية نشر اللغة العربية.

2- ينظر مسعود الخوند، الموسوعة التاريخية الجغرافية، ج7، مؤسسة هانياد، لبنان، ص317-380.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم