صحيفة المثقف

عقيل هاشم: رباعية عن متون الليل السردية.. القاص والروائي زيد الشهيد

عقيل هاشمالألوان والموسيقى والحياة التخييلية والانفعال كلها شعرية

يُخطئ المرء حين يَعتَقد أن المَكان مُحَايدٌ

(عبد الرحمان منيف)


 

في هذه الرباعية  ثمة أسئلة كثيرة تطرحُ نفسها، هل أراد الكاتب من عنونة الليل في عزلته النرجسية  وانشغاله في قراءة الكتب  أن يعطي  طقوس قراءة كتب المكتبة  قداسة  لصنع الابداع الخلاق

العتبة الاولى..

نحنُ أمام عمل سردي  ينبض بكل ما يخص المثقف/الكاتب  من عادات وتقاليد عارية تماماً من أي زيف أو رتوق، بل سعى إلى  كشف تلك القصص بقتامتها وبشاعتها، بفرحها وحزنها، دون أن يملي على قلمه النابض ما يزيف الواقع لتجميله، بل تركه على سجيته وبدائيته، وهذا ما أضفى على الرواية شكلاً مؤثرا من حيث الشكل والمضمون

السرود مقسمة إلى اربعة أجزاء، تعددت فيها الأصوات، فاستعمل الكاتب ضمير المخاطب والـ هو والأنا، وقد أضفى هذا التنوع الصوتي تجدداً والتحاماً في كل مرة مع الأحداث والشخصيات.

المكان كعادته السماوة فكان حاضراً، بل أنسنه على طريقته،فتمثل على هيئة امرأة جميلة مجلوة . هي الحاضرة دائما في ثنايا السرد فثمة روافد تؤطر مقصدية هذه السرود  على مستوى الحفر الدلالي، بالتجاور مع بيان العلاقة التي تنشأ بين الكاتب /المراة..التي ما زالت تكمن في وعي الذات الشرقية،

السماوة هو المكان المجازي، المكان اللفظي المتخيَّل، منه يخترق القارئ المتن السردي، انه الفضاء الروائي الافتراضي… أو هو أبواب الرواية كلها الواقعية منها والخيالية،

وهذا يحيلنا الكاتب الى جماليات المكان من خلال  وصف معمارية الازقة والنوافذ ..ويكشف التقنيات التشكيلية الفنية في رسم فضاء السرد .هكذا يستأثر المكان في هذه الرباعية السردية بنصيب وافر من الاشتغال عليها من حيث هي مكوّن فني مستقل بذاتها، ومن حيث هي مكوّن فني جزئي ينصهر مع باقي مكونات الكتابة الروائية،

هكذا المكان يتسم بلا حياديَّته على عكس ما نظنُّه والمسألة ليست حجارة صمّاء  بقدر ما هو طافح بالإحساس، بالدلالات والرموز… إن المكان يعلّمنا كيف نسكُن أرواحنا بالشكل الأمثل، بالشَّكل الذي يليق بنا كذوات بشرية

 النص ولا شيء غير النص، وهنا يبقى البحث حفر ونبش في تلك الأسئلة الممكنة التي تستفز النص وتجعله حيز تفجرات وملتقى مسارات، وتبقى حركية المعرفة تساؤلا وتجاوزا و كشفا…

اقول عندما يصطدم القارئ بالعتبة الأولى للرباعية، العنوان الليل يبدأ الشك يتسلّل إلى وعيه

وكانه مقبل على قراءة دواوين شعر وقد اقترن الليل بالحلم . فالكاتب سعى إلى إذابة أو تذويب الذات في تلافيف النسيج السردي،وهو ما أعطى هذه السرود  نفحة ذاتية متوهجة، يطرح فيها الكاتب قضايا معاصرة من خلال رؤية المثقف صاحب المكتبة العامرة والتي لاتفتح خزائنها الا في الليل المدلهم.

شخصية الكاتب الحقيقة في هذه السرود، ألبسها ثوبا دراميا لسرد سيرته الذاتية؛   لكشف ما يضمره تاريخه الادبي من ارهاصات بشكل مباشر، كشفها لنا بالترميز، أو التعريض، أما الشخوص الباقية كانت كلها ربما أسمائها أشكالها مختلفة من خياله أظهر ميولها وطمعها وجمالها وقبحها  وبواطنها وحيرتها، أعطاها وصفا وسلوكا واقعيا.

2696 زيد الشهيد

 لغة الكاتب الشعرية التي يتميز بها في سرده، كانت حاضرة وبقوة،  يغذيها بالجمل الموحية،  الذاكرة مرايا الحكاية اذا كان بالامكان اقتران الذاكرة بالمدن شعرية المكان فانك ستبحثُ عن ذاتكَ في مرايا المدن .السماوة شخصيةٍ روائيةٍ مضمرة تتحكَّمُ في مصيرها شخصيةٌ الكاتب .وهذا مافعلته اسبانيا في شخصية الكاتب كالوس زافون في رباعيته ..

وهنا حضرت المدينة  بصورة لافتة،و قوية، و عميقة في رباعيته السردية ،فبدا حضور المدينة  فعالا في ناحية التشكيل الفني فظهر عنصر المكان متفاعلا مع سائر العناصر من زمن و شخوص و أحداث، كما أـثر فضاء المدينة على الناحية الدلالية للنص الروائي، بحضور المدينة بدا لافتا من ناحية التشكيل الفني والدلالة الفكرية،و بذلك اقول المكان الروائي أدى وظيفة جمالية تشكيلية و دلالية فكرية في آن معا.

رباعية (مقبرة الكتب المنسية) للإسباني كارلوس رويث زافون، الرباعية منفصلة يمثل كل جزء منها كتاباً مستقلاً،ممكن ان يطلق عليها  الكتب اللذيذة تلك الكتب التي تشبه حلماً جميلاً، قصص متشابكة تدور في أجواء محببة، هذا ما صنعه لنا زافون، برشلونة ما بعد الحرب، شاب يدعى دانيال سيمبري يقوده والده إلى مكان غريب يدعى مقبرة الكتب المنسية حيث تحفظ الكتب التي تقترب من الاندثار، يختار صاحبنا الكتاب الذي سيتكفل بحفظه، رواية بعنوان (ظل الريح) لروائي برشلوني مجهول يدعى خوليان كاراكس، من هنا تنطلق القصة من هو الرجل الغامض الذي يفتش عن كتب خوليان ويحرقها،  قصص صغيرة تتكشف لنا، نلج متاهة لذيذة، نتعرف على شخصيات رائعة،

الاجزاء الاربعة كالاتي (سجين السماء ولعبة الملاك وظل الريح. متاهة الأرواح ..)

العتبة الثانية..

عن دار أمل الجديدة للنشر والتوزيع في دمشق صدرت للروائي العراقي زيد الشهيد رباعية الليل (الليل في نعمائه)، و(الليل في عليائه)، و(الليل في بهائه)، و(الليل في نقائه) ..

الليل في نُعمائه

الجزء الاول من رباعية الليل

تدور احداث الرواية في مدينة السماوة للشخصية القادمة هرباً من البصرة بعد اعتقال زوجها واعدامه، فتعيش في السماوة خمسة عشر عاماً متوارية في زقاق ... وبعد الخمسة عشر عاماً تأتي ابنة اخيها لتسكن البيت التي سكنته عمتها بغية كشف سر تركته العمة مخفياً في جدار قبل وفاتها (وهو عبارة عن شريط كاسيت تحدثت فيه عن معاناتها صوتيا)؛ ولتبدأ بنت الاخ تحويل الكلام الى كتابة لينتهي الى كتاب عملت على طبعه ونشره في المكتبات.

الليل في عليائه

 الجزء الثاني من رباعية الليل

حيث مدينة السماوة فضاء القص .. يشكل الليل ثيمة رئيسية في الاجزاء الاربعة ... تدور أحداث الرواية عن فتاة عندها موهبة حياكة الازر، يصادف ان يشاهد احد اعمالها طالب في كلية الفنون الجميلة فيعمل على اقتباس موهبتها ليوظف في رسوماته التي يعرضها في العاصمة وتسلط عليه الأضواء والبهرجة ويتغاضى عن ذكر مصدر إلهامه في اللقاءات التي تجرى معه في الصحف والمجلات، بل يتهرب من اللقاء بها بعد ان وقع في حبها .. فضل شهرته على حبه؛ غير ان ظهور رسام آخر طغى عليه فانكفأت عنه الأضواء وصار يعيش ندماً بعدما رحلت عنه من احبته واحبها.

 الليل في بهائه

 الجزء الثالث من رباعية الليل

 وتدور احداثها في مدينة السماوة، في الزقاق والبيت اللذين هما فضاءٌ مكاني في الاجزاء الاربع.. البيت تستأجره ثلاث نساء من مدينة بعيدة ويأتين اليه اياماً معدودة من أجل زيارة سجين لهن معتقل في سجن  نقرة السلمان  كل شهر او شهرين.. السجين سياسي نتيجة افكاره التي يبثها في كتبه ومنشوراته الصحفية.. في البيت تتجلى المعاناة ويعرض المؤلف صفحات من الألم الذي يعانين منه النسوة.. مستأجرات البيت في الاجزاء الاربعة هن نسوة وحيدات.

الليل في نقائه

الجزء الرابع من رباعية الليل

 الشخصيتان الرئيسيتان في الرواية هو الرجل الستيني الكاتب الذي يرعى فتاة تستأجر البيت في الزقاق الذي سكنته ... وكانت الفتاة من اللواتي يتابعن كتاباته ويحضرن محاضراته في الجامعة، وكانت تصاحبه يومياً في ساعات الليل يحكي لها فحوى صفحات من حياته، كأن شهريار هو الذي يتحدث لشهرزاد وليس العكس كما في الف ليلة وليلة، غير أن ظروفاً تتشكل انقلاباً في الرأي فتهجر الفتاة البيت ويبقى هو في محاولة استرجاعها.. ولا يتم ذلك الا بعد ان ايقنت الفتاة خطأها.

ومن خلال هذه المتون السردية نجد هناك جرأة لدى الروائي تغلف اختياراته لموضوعات رواياته حكي على لهب الشمعة، سرد  ممتع بفضاءاته التي تلمست فيها أبعادا معرفية تقاطعت مع شغفنا بالحكي المتلاحق  بالرغم من الخسارات  سردها حكاء ماهر   في متوالية تلظم موازين تلك الشخصيات المتنوعة .

العتبة الثالثة..

الشخصيات الأنثوية في العمل أغنت العمل وجمّلت السرد .لكن هذه الصورة والتي  اظهرهن الكاتب فيها من التردد والعجز  لم تناسب نساء تلك النصوص، ولكن رأين فيها بحثاً منهن ربما عن الامان  والحب العذري غير المصرح به. او متنفساً يشعرن بأنهن كيان ثانوي وتابع  هذا مارسم لهن القدر.

نرى ذلك من خلال  ماضي كلّ منهن عن طريقة تفكيرهن وأسلوب حديثهن والوصف التفصيلي لحياتهن وتداعيات ماجرى لهن . هذه الصور  شكلت حياة السرد، ومكنت الكاتب من البناء على متن شديد الإتقان يسمح بتحقق أقدار شخصياته  على مهل. وهي أقدار، رغم قصص العشق ومكابداته التي أوصلتهن لتلك المصائر، انتهت نهايات طبيعية حيث لا ينتصر فيها سوى الحب الذي بقي يُرخي بثقله على الرغم من أفوله.

الحب  في المتون السردية، يأتي أيضاً ليضيف على السرد ما يمكن تسميته بالتمرّد  الذي لا يمكن للقارئ تجاهله. كما ليس ممكناً الحديث هنا عن رواية ناجحة في شكلها الفني والتركيبي من دون أن تكون مسلة  من الواقع الفعلي ومن ضيق المكان والزمان، فهي هنا رازحة بفضل التخييل تحت وطأة هموم وجودية .

المراة في النصوص السردية وكانها تلك النسوة في لوحات الرسام فائق حسن وجوه نافرة فزعة مثل تلك الخيول التي يرسمها بالوان حادة . ولعلها الثيمة الرئيسية وهنا يكون الكاتب  قد عالجت الموضوع من جانبين؛ جانب ذاتي، وجانب يتخذ صفة العموم، تعنى به كل امرأة في هذا المجتمع المقهور بهذه السلطة وبهذا يكون المتن الحكائي عبر شخصية الرجل الحالم والمتزن معا. وبذلك تكتسب التجربة الذاتية صفة العموم، وهذا ما يطمح إليه السرد في التخييل الذاتي عبر مراوغته بين المرجعيات الواقعية والتخييل الروائي ذاته،

اخيرا.. الرباعية نصوص سردية انفلتت من دائرة التجنيس.الكاتب  يكتب بصدق وفنية وحرية تجعله غير مقيد .متحررا من كل شيء إلا من الكتابة ذاتها التي تفرض ظروفها وشكلها ولغتها فرضا متناغما مع ذات الكاتب وآفاقه الروحية والاجتماعية والثقافية لتكون علامة دالة على أسلوبه.

فلكل كاتب أسلوبه الخاص الذي يعرف به، وربما من أجل ذلك كانت مقولة الكاتب هو الأسلوب نفسه؛ بمعنى الأسلوب نابع من التكوين الشخصي المتعدد المصادر للكاتب،

استطاع الكاتب أن يرسّخ له أسلوبا مختلفا  هذه المرة من خلال سلسلة من الروايات .هذه السرود  تداخلت فيها تقنية الحكي الفني، الأسلوب ذاته المفتوح على ثقافة واسعة استقاها من عمله في الترجمة والقراءة المتنوعة مسرح وتشكيل ..الخوغيرها من الفنون وظفها في هذه السرود معززة بلغة عصرية وقد تفرد بشعرية سردية مبهرة لتون أسلوبه الخاص،

السرد فيها كان متناوبا يبحث في التفاصيل، وما وراء التفاصيل، يتفحص الكاتب كل شيء حتى الوجوه والأجسام والمكان والعلاقة الاجتماعية للأشخاص، إنه يمنح السرد لغة واصفة تستطيع أن تكون آلة تصوير تنقل المشاهد بتمامها.

 

قراءة عقيل هاشم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم