صحيفة المثقف

عصمت نصار: الفلسفة في مصر بين الحضور والغياب.. على هامش قراءة القراءة (2)

عصمت نصارإنّ من يتابع حركة تطور الثقافة الغربية إبّان عصر النهضة سوف يجد معظم متفلسفيها قد انتهجوا الشك في المعارف الموروثة والمعتقدات التي سَلَّمت الأذهان بصحتها دون فحص أو نقد، شأنهم في ذلك شأن معظم علماء الحضارة العربية الإسلاميّة في عصرها الذهبي. وقد عبر فرانسيس بيكون (ت1626م) وديكارت (ت1650م) عن أهمية نقد المعارف وتحليلها ومراجعتها قبل قبولها أو التسليم بصحتها شأنهم في ذلك شأن أخوان الصفا والغزالي اللذين رفضوا التبعيّة في ميدان العلم والتعلم وحثوا على تخليص الذهن من الخرافة وأوهام الماضي والأخبار الكاذبة، وفرقوا بين الظن والبرهان في الحكم على كل ما يعرض على العقل.

ولاريب في أن قادة الفكر العربي الحديث، ولاسيما في مصر ثم بلاد الشام وتونس والعراق، قد سلكوا نفس المسلك وساروا على عين الدرب في أخريات القرن الثامن عشر حيث المجالس الثقافية والحلقات الأدبية. ويخطئ من يعتقد أن الدراسات الفلسفية والأبحاث المنطقية والكتابات الأخلاقية لم تظهر في مصر إلا عقب الحملة الفرنسية أو على يد الإرساليات الأجنبية كما حدث في بلاد الشام، أو بتوجيه من بعض المثقفين الأوروبيين الذين نزحوا إلى مصر واستوطنوا الإسكندرية ودمياط وطنطا والمنصورة؛ فتعد المجالس العلمية التي كانت تعقد في بعض دور الوجهاء، ونفر من شيوخ الأزهر- الراغبين عن المقررات الدراسية الأزهرية التي كانت تعتمد على أسلوب التلقين في التحصيل- وحوانيت الورّاقين والنسّاخ وتجار الكتب، بالإضافة إلى المقاهي العامة التي ازدهرت في مصر في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، وكانت تجمع بين كل شرائح الطبقة الوسطي بالإضافة إلى بعض الوجهاء من المماليك أو العثمانيين أو التجار الوافدين من الهند أو إيطاليا أو اليونان أو فرنسا - تعدُّ من أهم الروافد المعرفية الفلسفيّة؛ إذْ كانت تدور معظم أحاديث روادها حول أحدث الكتب التي حملها التجار إلى مصر، أو بعض قضايا اللغة والأدب وأخبار الصوفيّة، والمستطرف من العلوم الحديثة من رياضيات وطب وفلك وجغرافيا، والمستظرف من أخبار المشعوذين والسحرة، وكتب الجنس التي ذاعت آنذاك، ذلك فضلاً عن عقدهم جلسات نقديّة شهرية حول أحدث الكتب المقتناة أو المؤلفة.

أمّا المقاهي؛ فكان يغلب مجالسها موضوعات الأدب الشعبي، حيث إنصات العوام للشاعر المغني السارد لسيرة أبي زيد الهلالي، أو عنترة بن شداد، أو مغامرات أحد شطار المصريين، أو نوادر حجا، أو أقاصيص الرحالة، وكان القليل من رواد هذه المقاهي يستأجرون أحد طلاب الأزهر؛ ليقرأ لهم بعض الكتب الأدبية أو التاريخية أو الجنسية.

أمّا المجالس الفلسفية، المتخصصة فلم تظهر في هذه الآونة، ويمكن التماس إرهاصاتها في مجلس الشيخ حسن الجبرتي (ت1774م)، ومكتبة أحمد بن محمد الشرايبني (ت1759م)، ومجلس عبد الرحمن بن عمر العرايشي (ت1779م)، ومجلس الوفائية الذي أسسه محمد بن يوسف بن عبد الوهاب الوفائي- المُكنى بأبي الأنوار السادات (ت1783م)، مجلس الحكيم الهندي وقد أسسه الشيخ حسام الدين الهندي (ت1782م)، وكانت تطالع فيه كتب أبي حيان التوحيدي، وابن مسكويه، وابن حزم الأندلسي، وابن سينا، والغزالي، وابن تيمية، وابن عربي، وابن خلدون، والشّعراني.

ويعدُّ مجلس حسن العطار (ت1835م) من أهم المجالس التي أدرجت في مناهجها العلوم العقليّة؛ إذْ كانت تناقش فيه مسائل علم الكلام وفِرَقَهُ، وقضاياه، وعلى رأسها قضية الخلافة عند الفرق الإسلامية - وتصنيف العلوم اللسانية والعقليّة والنقليّة. ويعتبر حسن العطار من أوائل المصنفين المصريين الذين ناقشوا أبعاد هذه القضية من حيث طبيعة الإمام وشروط تنصيبه، ومصدر السلطات في الدول الإسلامية ودور أهل الحل والعقد في السياسة الإسلامية، ذلك فضلاً عن مناقشته لآراء الفقهاء والفلاسفة ومذاهبهم، والصوفية وطرقهم، والعلماء وتصنيفهم.

وقد لعبت دوائر الاستشراق التجاري والسياسي دوراً لا يمكن إغفاله في هذا السياق، وحمل العديد من المستشرقين الفرنسيين والإيطاليين بعض الكتب الفلسفيّة الغربية، نذكر منها كتاب الأمير نيكولو دي مكيا فيلّي ‏‏(1469 - 1527) الذي قيل إنه تُرجم على يد "رفائيل أنطوان زاخور" مدرس اللغة العربية بمدرسة بولاق عام 1822م، ذلك بالإضافة إلى العديد من كتابات "فولتير" و"منتسكيو" التي أحضرها طلاب مدارس الإرساليات الكاثوليكية والبروتستانتية بعد عودتهم من أوروبا.

وقد ازدهرت تجارة الكتب على يد دوائر الاستشراق العقدي الذين نقلوا مئات المخطوطات الشيعية والفاطمية والصوفية في مصر إلى مكتبات أوروبا، وذلك منذ العقد الأول من القرن التاسع عشر، أمّا عن دورهم في نشر المعارف الفلسفية، فكان محصوراً في المدارس اليونانية والأرمانية والفرنسية والإيطالية التي أنشئت لتعليم أبناء الجاليات في مصر وطلاب طائفتي الكاثوليك والبروتستانت من المصريين، ولا نكاد نلمح كتابات فلسفية مترجمة في هذه الآونة، ويعني ذلك: أن المعارف الفلسفية كانت تدرس في هذه المدراس بلغاتها الأصلية.

وإذا ما انتقلنا من طور "الترجمة" إلى طور التصنيف والتأليف، فسوف نجد أن رفاعة الطهطاوي (ت1873م) في طليعة الكتُاب المصريين الذين ذكروا بعض المعارف الفلسفيّة في كتاباتهم نذكر منها "أرجوزة في علم الكلام "، وقد وضعها خلال دراسته بالأزهر، وكتاب "القول السديد في الاجتهاد والتقليد"، وهو بحث ألفه لطلاب مدارس الألسن ونشره بعد ذلك في مجلة روضة المدارس؛ ليرغب تلاميذه في إعادة فتح باب الاجتهاد لتجديد الفكر الديني، وكتاب "قلائد المفاخر في غريب عوائد الأوائل والأواخر"، وهو مصنّف معرّب عن الفرنسية للأديب جورج باريز، أو "الديوان النفيس بإيوان باريس"، وقد ظهر في (1834م)، وكتاب "مناهج الألباب المصريّة في مباهج الآداب العصرية"، طبع في مصر سنة (1869م) وهو من أوائل الكتابات التي عمدت إلى توفيق بين الأصالة والمعاصرة والمنقول والمعقول في الدعوة إلى المدنية والتقدّم وتحديث آليات النهضة المصريّة، وكتاب "موقع الأفلاك في وقائع تليماك"، وهو تعريب لكتاب "مغامرات تليماك"، للكاتب الفرنسي فنلون، وقد ظهر في مصر سنة 1867م عقب طبعه في سوريا، وكتاب "قدماء الفلاسفة" وطبع بمصر سنة 1836م. وهو أقرب إلى التلخيص والتصيف منه التأليف، وكتاب "دروس في المنطق" لطلاب المدارس، وذلك عوضاً عن كتب الشروح التي كانت تدرس في الأزهر، وكتاب "نبذة في تاريخ الإسكندر الأكبر"، وكتاب "نبذة في الميثولوجيا.. جاهلية اليونان وخرافتهم"، وكتاب "بداية القدماء ونهاية الحكماء"، لعبد لله أبو السعود ومحمود عبدالرازق (ت1838م).

وقد أشرف رفاعة على ترجمته وقدّم له، وهو من أوائل الكتب التي تناولت جانباً من تاريخ الفلسفة اليونانية والمسيحية والإسلامية، وقد أدرج ضمن الكتب الدراسية للمدارس التجهيزية عام (1838م)، وكتاب "قرة النفوس والعيون، بسير ما توسط من القرون"، وهو مُترجم عن الفرنسية، وقام بتعريبه مصطفى أفندي الزرابي، وقد أشرف على تعربيه الشيخ رفاعة الطهطاوي الذي أضاف على متنه العديد من الوقائع التاريخية في الحضارة الإسلامية.

ويجدر بنا الإشارة إلى جهود المُعربين الشوام في نشر المعارف الفلسفية في مصر، الذين زودوا المكتبة العربية بالعشرات من الكتب المترجمة عن الفرنسية والإنجليزية، والملخصات عن الموسوعات الأوروبية، ذلك فضلاً عن المؤلفات الموجزة عن الفلاسفة العرب، والتحقيقات العلمية المبكرة لكتاباتهم.

وحريٌّ بنا أن نتسأل: هل كان لمدرسة حسن العطار خطاباً فلسفياً أم مشروعاً عملياً نهضوياً؟ الحق أن لحسن العطار مشروعاً فلسفياً وخطة عملية لا يمكن إنكارها أو تجاهلها أو بخس فضلها ومجهوداتها في إعادة بعث الدراسات الفلسفية للثقافة المصرية من جهة، وإعادة تشكيل عقل جمعي من شبيبة المثقفين الأزهريين لحمل راية التجديد والوعي والحرية والإصلاح من جهة أخرى. فقد نجح حسن العطار كذلك في إقناع الرأي العام القائد بأهمية دراسة العلوم العقلية لتثقيف الرأي العام وإعداد نخبة من قادة الرأي للتخطيط لمشروع النهضة المصرية المزمع القيام بها.

وقد نجح في ذلك عن طريقين أولهما : عقد مقارنة بين كتابي مكيافيلّي ومقدمة ابن خلدون، وتفهيمهما لمحمد على الكبير ثم إقناع ابنه إبراهيم باشا بالخطة التنويرية التي وضعها لتوعية الرأي العام التابع في مصر والشام.

ثم عكف بعد ذلك على تحييد شيوخ الأزهر الذين لم يتحمسوا لمشروعه في تطوير البنية المعرفية للمقررات الدراسية الأزهرية، وذلك عن طريق تشجيعهم على مجابهة التيار السلفي الوهابي والتيار الشيعي الإيراني والمهدي، وكذا الدفاع عن علم التصوف السُّني والفقه الأشعري، ودراسة المنطق الأصولي ونشر روح التسامح في الروح الجمعي المصري.

وثانيهما: عقد برنامج لأولى البعثات العلمية إلى فرنسا مع صديقه (مسيو جومار) وإشراك أحد تلاميذه في أولى هذه البعثات ثم إقناع إبراهيم باشا بزيادة حظ الطلاب المصريين من هذه البعثات عوضاً عن غيرهم. ذلك فضلاً عن إعداده الجيد لصفوة من الدارسين المصريين لحمل راية التعليم الحديث في المدارس التي خطط لها مع تلميذه رفاعة الطهطاوي، ثم على مبارك، وكلاهما كان خير خلف لأفضل سلف. فقد أسس رفاعة مدرسة الألسن ثم ديوان المدارس، ووضع الخطوط الرئيسة لصحافة الرأي في مجلة روضة المدارس، وراح ينشر مقومات النهضة في الرأي العام لكتاباته عن التجديد والإصلاح، وأكمل مشروع أستاذه في تصنيف العلوم وألقى بعض الضوء على أهمية الدراسات العقلية والتأليف بين الأصالة والمعاصرة، والنقل والعقل.

ذلك فضلاً عن انتهاجه للمنهج الجدلي في التناظر والتساجل العقلي خلال رده على غلاة المستشرقين وطعونهم في سيرة النبي، صلوات وسلامه عليه، وذلك خلال كتابه نهاية الإيجاز.

ويمضي المشروع متواصلاً دون أدنى نكوص أو جنوح مع "على مبارك" الذي أنشأ دار العلوم لتحقيق مقصد المدرسة من التأليف بين التراث التليد والعلم الأوروبي الجديد، ويتضح ذلك جلياً في قصته "علم الدين" التي كتبها لتوعية الرأي العام التابع.

تلك كانت أهم ملامح مشروع النهضة المصرية التي جعلت من الفلسفة آلية فعالة لإعادة تشكيل العقل المصري الحديث وتأهيله للإلحاق بمن سبقه من الأمم الغربية دون أدنى تفريط في مشخصاته التي اجتهد في ترسيخها وعقيدته الدينية التي ما برح يدافع عنها ضد الفكر الوافد المتطرف بغض النظر عن مصدره.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم