صحيفة المثقف

حاتم حميد محسن: هل سيرتدي كانط قناع الوجه؟

حاتم حميد محسناشتهر عمانوئيل كانط (1724-1804) بفلسفته الأخلاقية في الأخلاق المطلقة categorical imperative(1). في منطق دقيق وصارم يجادل كانط باننا يجب ان نعامل الناس كغاية بذاتهم وليسوا وسيلة لغاية . هو يبني على هذا ليقول اننا لدينا واجبات معينة تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين يجب أدائها بصرف النظر عن خطورة الظروف المحيطة. أبرز هذه الواجبات هي عدم الكذب(2) وعدم الانتحار(3). هذه يمكن النظر اليها كواجبات للحفاظ على الفرد الأخلاقي المفكر، والمخلوق الانساني الطبيعي.

يبدو من الواضح ان كانط لو كان بيننا سيوافق على إرتداء قناع الوجه في ظروف الوباء الحالي.

اولا، القيام بهذا سيحافظ على الوجود الطبيعي للمرء.

ثانيا، ارتداء القناع سوف يساعد في حماية الوجود الطبيعي للآخرين، بالاضافة الى إحترام الآخرين كافراد أخلاقين مفكرين يعترفون بنفس الإلتزام تجاهك.

اخيراً، إعترافك بالإلتزامين الأول والثاني وإنجازهما سيكون شكل من إحترامك كانسان أخلاقي وكائن مفكر. ولكن ماعدى هذه الحالات، هل هناك أشياء اخرى نستطيع الحصول عليها من كانط فيما يتعلق بهذه القضية؟

بعض الناس، مثل الناشط ضد الحكومة الامريكي امون بوندي يدّعي ان القواعد التي تتطلب ارتداء القناع هي شكل من الدكتاتورية. إدراك كانط المتميز للأخلاق والحرية يمكن ان يساعد في بيان لماذا هذا الإلتباس السيء.

الأخلاق مقابل القانون

يفهم كانط الأخلاق في اطار الواجبات التي نلتزم بها تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، حين ندرك متى يتطلب الواجب منا استخدام العقل لفهم القانون الأخلاقي المرشد لأفعالنا . فمثلا، نحن نتّبع الواجب بعدم الكذب ليس لأننا نخشى من العقوبة وانما نحن نستخدم عقلنا لكي نكتشف اننا لو لم تكن هناك قيود ضد الكذب، فسوف لا نعرف ابدا متى يتم قول الحقيقة. السماح باستثناءات لهذا الواجب يمكن ان يخلق منحدرا زلقا يصبح فيه ادّعاء الحقيقة مستحيلا.

ان إستعمال العقل، بالنسبة لكانط، هو طريقة في التقرير الفردي لما يجب ان نقوم به بالإرتكاز على قوانين أخلاقية ضرورية وصحيحة عالميا. في الحقيقة، ان الفهم العقلاني للقانون الأخلاقي ، ستصبح معه القواعد القانونية والتقليدية زائدة عن الحاجة. لو كنا نفهم عقلانيا أهمية مساعدة اولئك المحتاجين لمساعدة طبية عاجلة، فسوف لا نحتاج لقوانين لمتطوعي الانقاذ. وبالعكس، نحن عادة نجد حتى عندما توجد هناك تعليمات قانونية، فان اولئك الملتزمين بها قد لا يفهمون سبب لوجودها، ولهذا العديد من الناس يتّبعونها فقط بدافع الخوف من العقوبة.

اذاً كيف يمكن ان يساعدنا تصوّر الأخلاق والعقل في الحكم على الخلاف العام حول ارتداء الاقنعة؟

كل فريق يتحدث عن "الحرية"

المعارضون لقوانين لبس القناع يميلون للقول ان حقوق الافراد ليست عرضة للقيود الإكراهية والغير ضرورية. فلاسفة السياسة يسمون هذا الحق "حرية سلبية". معارضو القناع يدّعون ان متطلبات لبس القناع يقيّد حرية الافراد. احدى المشاكل مع مفهوم الحرية السلبية هي انه لا يساعدنا في تقرير الغاية التي توجد لأجلها حريتنا. هذا النقص يميل لإختزال الحرية لدوافع تافهة تتصل بالأفضليات والرغبات. هنا مطلوب منا الكثير من العمل لإستنتاج الغايات التي تفيد كل من الفرد والآخرين. للتعويض عن هذا النقص، يمكن للمرء إضافة شرط واحد: وهو ان حرية الفعل يجب ان يُسمح بها فقط بالمقدار الذي لا تؤذي به الآخرين. هل اولئك الذين يصرّون على حقهم بعدم ارتداء القناع يأخذون هذا الشرط على محمل الجد ؟.

وبالمقابل، نحن لاحظنا ان كانط يفهم ماذا يعني ان يكون المرء انسانا من حيث قدرته على التفكير وبهذا نعترف بالتزامات معينة تجاه أنفسنا والآخرين.

هذا السياق مهم جدا للكيفية التي يتصور بها كانط الحرية. هو لا يعتبر غياب القيود على الفعل جوهر الحرية، لأن مثل هذه الحرية يمكن ان تتعارض مع مقدرتنا على التفكير. فمثلا، نحن نتيجة لتأثيرات غير واضحة، ربما نتصرف بحرية بطرق تسبب لنا الأذى كما في حالة الفعل المتهور المتحفز بالشهوة . بدلا من ذلك، يتصور كانط الحرية كفعل طبقا لما هو اما ضروري عقلانيا(بالنسبة للواجبات) او مرخص به (في غياب الواجب). وبينما تبدو هذه الرؤية مقيّدة في مستوى واحد – لأنها تتضمن ادراك اننا يجب ان نتصرف بطريقة واحدة وليست باخرى- انها تفترض ان الحرية تتأسس ليس على الفعل الفردي وحده وانما على الفرد من حيث علاقته مع الآخرين الذين يشتركون بالقدرة على التفكير. اذاً في ظل هذا السياق أين نضع الرؤية التي ترفض إرتداء القناع؟

اذا كنا دقيقين في توصيف الفلسفة الأخلاقية لكانط، فان اولئك الذين يقولون ان فرض لبس القناع هو استبداد هم يقعون في التباس حول معنى ان تكون انسانا قادرا. انه يعني كونك قادرا على التفكير حول الكيفية التي يجب ان نتصرف بها تجاه الآخرين. ان غاية فكرة كانط للحرية هي إحترام كل الكائنات العقلانية. بالمقابل، الرؤية السلبية للحرية، تفتقر لهذا المعنى وغايتها عمليا هي التمركز حول الذات.

 

حاتم حميد محسن

.......................

Philosophy Now, Aug/Sep2021

الهوامش

(1) هي مفهوم فلسفي مركزي في فلسفة كانط الاخلاقية. يمكن تعريفها كطريقة لتقييم حوافز الفعل. طبقا لكانط، الكائنات الواعية تشغل مكانا خاصا في الخلق، وان الاخلاق يمكن تلخيصها بأوامر العقل الإلزامية العليا، منها تُشتق جميع الواجبات والالتزامات. هو يعرّف الـ imperative كأي افتراض يصرح بضرورة فعل او عدم فعل معين . ان الالتزامات الافتراضية hypothetical imperatives تتصل بالرغبات وتنطبق على أي شخص يرغب بتحقيق غايات معينة كما في "انا يجب ان ادرس لكي انجح في الامتحان"او "لا أسرق لكي اكون محبوبا".

اما الالتزامات الإلزامية categorical imperative فهي تشير الى المتطلبات المطلقة وغير المشروطة التي يجب ان يطيعها الناس في كل الظروف وتُبرّر كغايات في ذاتها. هذه الاساسيات المطلقة يمكن التعبير عنها بصيغة: إعمل فقط طبقا للمبدأ الذي بواسطته انت تستطيع في نفس الوقت، ترغب بان يصبح قانونا عالميا.

(2) يرى كانط ان الكذب دائما خاطئ أخلاقيا. هو يجادل بان كل الافراد وُلدوا ومعهم "قيمة جوهرية" أطلق عليها الكرامة الانسانية. هذه الكرامة تُشتق من حقيقة ان الناس هم كائنات عقلانية متفردة، قادرين على العمل الحر في اتخاذ القرارات، وتعيين الأهداف، ووضع أفعالهم تحت اشراف العقل. لكي تكون انسانا، يقول كانط، ان تمتلك قوة عقلانية للاختيار الحر، ولكي تكون أخلاقيا، يعني ان تحترم تلك القوة فيك وفي الآخرين. الكذب خاطئ اخلاقيا لسببين: اولا، الكذب يفسد أهم خاصية في الانسان وهي القدرة على عمل خيارات عقلانية حرة. كل كذب أقوله يتعارض مع ذلك الجزء مني الذي يمنحني القيمة الأخلاقية. ثانيا، الكذب يسرق من الآخرين حريتهم في الاختيار العقلاني. عندما الكذب يقود الناس ليقرروا خلاف ما لو كانوا عرفوا الحقيقة، فسوف يلحق الضرر بكرامتهم الانسانية، وبهذا يكون ضرر الكذب مزدوجا، ضرر في منْ يكذب وضرر على من يُكذب عليهم. اعتقد كانط لكي نقيّم انفسنا والآخرين كغاية وليست وسيلة، فنحن لدينا واجبات تامة بدون استثناء لنتجنب الإضرار او التدخل في او سوء استخدام القدرة على صنع قرارات حرة، بكلمة اخرى ان لا نكذب.

(3) في رفضه للانتحار إعتمد كانط على خطين من التفكير. اولا ان الانتحار ينتهك رغبة الله، لأن الرغبة في الموت تسلب حق الله في تقرير فترة وجودنا ، واننا كملكية لله غير مخولين لأنهاء حياتنا عمدا. والحجة الثانية هي ان الانتحار غير منسجم مع نظام الغايات المقصودة المتصورة قياسا بنظام الطبيعة، وبهذا فان الانتحار لايمكن ان يُرغب بشكل متماسك كمبدأ عالمي عملي.

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم