صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: الاضطهاد الديني والتصوف

مجدي ابراهيمهناك وثيقة عجيبة وقد وربما تكون نادرة تشهد على ما لاقَاهُ الصوفية من أذى، قد نقلها الشعراني عن السيوطي، في اليواقيت والجواهر، والطبقات؛ (من ص 13-  15). وإنها لوثيقة تاريخية تنطق بمقدار ما عاناه الصوفية من ضروب الاضطهاد الديني بما لا تكاد الإنسانية تشهد مثله من قبل، ومِمَّنْ؟! من مسلمين أمثالهم في العقيدة والدين .. أليس هذا دَاعياً للدهشة والعجب؟!

إذا كان دور التصوف في المجتمع يأتي فيكسر الأنماط  ويتحدى السلطات: سلطة العقل والنظر المحدود، وسلطة المفهوم من ورائه، وسلطة الضمير الغُفْل من تنقية الباطن، وسلطة المجتمع المحكوم بِقَوانينه، وسلطة المنافع والمصالح أو ما شئت في الحقيقة أن تضيف من سلطات ..! فلا شيء يدعو للعجب أكثر من الاضطهاد الديني مصيراً يلقاه الشرفاء؛ فمثل هذا التحدي  للسلطات جميعاً يقف وراءه سلطة واحدة (إذا جاز أن تسمى سلطة) يواليها ويعمل لها ألف حساب وحساب هى سلطة الله الأحد الذي ليس سواه في الوجود على الحقيقة موجود، فليس هناك من فاعل إلا الله، وليس هناك من موجود إلا الله، ولا حساب لديه على الإطلاق لسلطات يصنعها أو يَتَوَهَّمها الإنسان.

ومن أجل ذلك؛ كان عَمَلُ التصوف تحرير الإنسان من وَهْمٍ تَعَشْعَش في أعماقه: أن يحسب للأغيار حسابات السلطة مهما كانت أو كائنة ما كانت؛ ليجري وراء ما تَتَوَهَّمَهُ لنفسها من سطوات؛ لتُخِيفه في أعماقه الباطنة أو لتشل حركة المجموع شللاً فتخضعه لما عَسَاهُ يزعم أنها ذات سلطة في نفسها، وهى في الحق، وفي الواقع كذلك، خَاوية فارغة من كل سلطة حقيقية: تحريره من الزيف، وجوداً وفعلاً، وتحريره من سلطة العقل، وسلطة الضمير الغُفْل، وسلطة المجتمع المحكوم بقوانينه، وسلطة المصالح والمنافع، لتكون سلطته الحقيقية هى السلطة الإلهية، وليكون الدِّينُ - من بعَدُ - ليس قشرة سطحية بَرَّانِيةً بل هو الجوهر الباطن يظهر في الفعل خالصاً لله.

هذه هى دعوة التصوف: أن يَبْلغَ الدينُ نقاوته في الوجدان الإنساني، ويبلغ التحدي فيه على مستوى الفرد كل أنماط مخلوقة تضر بإنسانية الإنسان أكثر ممّا تنفعه بعد أن تسلبه حيويته الروحية وحماسته الدينية. بالمعنى الفلسفي: ألم التشيؤ والانحصار البالغ في الحشد ومطالب الحشد وحاجات الحشد واهتمامات الحشد هو الفقر الظاهر مع فقدان البصيرة وتلاشي البقية الباقية من وجود الإنسان الحقيقي الجوهري لا الوجود المزيف الغُفل؛ ليكون خاضعاً ذليلاً أو عبداً كسيراً لمخلوق مثله يعبده، ويتذلل له بالعبادة، وينسىَ أنه عَبْدٌ لله.

وهذا هو الشرك الخفي، الذي قال فيه رَبِّ العزة سبحانه:" أنا أغنىَ الأغنياء عن الشريك؛ وقد جاء في حديث مسلم بلفظه عن أبي هريرة أن رسول الله r قال:" قال الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشُركاء عن الشِّرْك، مَنْ عَمَلَ عملاً أشرك فيه معي غيري تَرَكتُهُ وشِركَهُ" (صحيح مسلم: عناية وضبط أحمد جاد؛ دار الغد العربي، القاهرة، ط1، 1428هـ ـ 2007م، ص 1053).

هكذا يكون على الدوام عمل التصوف: التطهير من أوْحَال التوحيد: من الشرك على جميع مستوياته، وعلى كافة أنشطته التي تلازم الآدمي في حياته، إنْ على صعيد المعرفة أو على مستوى الوجود؛ حتى إذا مَا بَلَغَ المتصوف هذا المبلغ فقد اعتقد الدين في نقاوته ومرتقاه، بعد أن يكون قد تخلَّص من تلك السلطات التي تتبَدَّىَ في عالم كله - كما يبدو في الظاهر فضلاً عن الباطن - ظلمة وضباب، ويكون قد تحرَّر من ذلك السطح العَكِر تتكسَّر عليه أشعة الضوء السماوي.

مَنْ أصَابَتْهُ في قلبه مثل هذه النقاوة، واستقر الدين بين شغافه، لا يتصور زَوَاله أبداً؛ لأنه مَرْئىَ كل عواطف النفس وغايتها، ومجمع كل أشواق القلب وتطلعاتها، فلن يزول الدين من قلب عَرَفَ الديَّان، ولا من نفس أخَذَتها العاطفة ففاضت شوقاً إليه .. وبهذا القلب النقي، وبتلك العاطفة النبيلة، قال التصوف كلمته ولا يزال يقولها في كل نفس عطوفة، وفي كل قلب مُتَبَتل وشغوف.

والذين دفعوا الباطل البشري والشر الرابض في سوْءات الإنسان فمسَّ قلوبهم شعاع من ضوء الحقيقة؛ كانوا نظروا إلى الدين من منظور التصوف فدافعوا عنه؛ لأنهم قرروا الدفاع عن سرِّ الفطرة الإنسانية التي خُلقَ الإنسان مفطوراً عليها، وهى فطرة الله التي فطر الناس عليها، فكان أنْ قال المستشرق الفرنسي "أرْنِسْتْ رِيِنَان" في كتابه "تاريخ الأديان" عن هذه المسَّة الرُّوُحِيَّة: "من الممكن أن يضمحل ويتلاشى كل شيء نحبه، وكل شيء نعدّه من ملاذ الحياة ونعيمها، ومن الممكن أن تبطل حرية استعمال القوة العقلية والعلم والصناعة؛ ولكن يستحيل أن ينمحي التدين أو يتلاشى؛ بل سيبقى أبد الآبدين حجة ناطقة على بطلان المذهب المادي الذي يودُ أن يحصر الفكر الإنساني في المضايق الدنيئة للحياة الدينية".

وهل زَادَ التصوف شيئاً على إحياء هذه المسَّة الروحية في الإنسان على التعميم؟!.. فالتدين باعتباره لازماً معنوياً من لوازم الذات الإنسانية يتزايد اتساعاً وعمقاً مع الفكرة الحيوية والتجربة الشعورية، وهما أخص خصائص التصوف والنزعة الروحية بإطلاق، تتزايد ولا تنقص مع التفكير فيه، وبه، ومن خلاله.

وليس لأحدٍ أن يتوهم غافلاً بأن هذه النزعة الروحية المُمَثَّلة في التصوف؛ والتي تقرَّرت خَلفَاً في الإسلام هى هى النزعة التي تقرَّرت سلفاً في التاريخ كمذاهب دينية سلبية لا تعني العناية الكافية بالناحية العملية والاجتماعية؛ بل كثيراً ما تجعل المتدين -  في رأي من يتصور مثل هذا التصور - ينطوي على نفسه متخذاً مثله الأعلى في العزلة والصمت والتأملات العميقة.

فلئن كان المقصود من هذا؛ هو بعض المذاهب اليونانية القديمة كحكماء الرواقية مثلاً، فهو صحيح مقبول؛ أما إذا كان المقصود بذلك صوفية الإسلام فهو مرفوض من هذه الجهة قطعاً، نقول هذا لأننا نجد كثيراً من الباحثين من غرَّه التشابه بين الأفكار فوجد وجوه التقاء، فغرَّر به في الربط بين الصوفية في الإسلام وحكماء الرواقية ربطاً ينقصه الدليل المقارن بمقدار ما يفقده التذوق حيوية الفكرة وخصوصيتها وتشكُّلها من مضمونها الديني، هذه واحدة.

أما الثانية؛ فلأنَّ عزلة المتصوف في الإسلام إنما هى عزلة موقوتة ومحدودة للتنقية والتطهير، ولسلامة الحس وسلامة التذوق من عَطَبِ المفسدين، ولرياضة النفس على اكتشاف ذاتها وترويضها على المكاره مما ليست تألف، ولصيانة السِّر عن دعاوي المحجوبين. غير أنها عزلة محدودة بأيام معدودة ليست دائمة ولا مستمرة، أو قُلْ إنها خلوة يخلو بها قلب المؤمن ليستجمع قواه وطاقاته الباطنة على خوض لجة لا يخوضها سوى الجسور ولا يقدر عليها بحال مثل ذلك الجَبَانِ المَرْذُول، كما وَصَفَ الغزالي صادقاً تجربته في "المنقذ من الضلال".

وليست العزلة موسومةً بالانسحاب الذي يفيد الهرب والتعطيل، وذلك لأن الانسحاب من الحياة عَبَثٌ لا يَرْضَاه الدين ولا العقل ولا الشرع، فَضْلاً عن أن يَقِرَهُ لكل مُتَدَيِّن عَارف وبَصِير.

أقول؛ ليس لأحدٍ أن يتوهَّم ذلك أو ينسجه محبوكاً كما تنسج الأساطير والخُيَالات؛ لأن التصوف كما كان ضد السلطات برمتها على تنوعها وتعددها، كان كذلك ضد الانعزال الدائم أو قلة المساهمة في شئون الحياة الاجتماعية والعملية، وتاريخ المتصوفة يمثل ذلك ويعبر عنه خير تعبير، وإلا لو كانوا بالفعل أهل عُزْلة وصمت وتأملات بعيدة عن خدمة المجتمع والناس لما تَعَرَّضَ لهم ذوو الأخلاق الوَبِيئَةِ من السَّفَلة والمنحطين للوقيعة والمكيدة، فَشُرِّدُوا وطردوا من مواطنهم، وذُبِّحوا ونُكِّل بهم بغير ذنب ولا حَق، واتهموا بتأليب العامة، وتغيير موالاتهم للسلطات السياسية أو الاجتماعية يومذاك، مَنْ ذَا الذي يقول إنِّ الحلاجَ لم يكن له دَوْرُ اجتماعيُّ ..؟!.

وَمَنْ ذَا الذي يسلب عن المتصوفة ميولهم الإصلاحية ونزعتهم الخُلقية وتَفَرُّدهم بالتَّوَجُّه الروحي فيما من شأنه لو طبق أن ينعكس على المجتمع بالإيجاب؛ بالخير كله؟ ومَنْ ذَا الذي يسلبهم طِباعهم السمحة المستقيمة، أو شجاعتهم النادرة في الحق، ومن أجل الحق، ووقوفهم دوماً أمام الظلمة والمفسدين؛ وفي وجه الأمراء والحكام، وللنصيحة للبر والفاجر، وعلى مدى تاريخهم الروحي الطويل ..؟!.

وَقَفَ ذو النون المصري في وجه الخليفة المتوكل، وحملوه من مصر إلى بغداد مغلولاً مقيداً بعد أن جاءت تهمته الزندقة؛ فلما كلم الخليفة بعبارات القوم قال في دهشة المُسْتريب:" إنْ كان هذا زنديقاً فما عَلَىَ وجه الأرض من مسلم".

وكانت لهَارُوُنِ الرشيد مَقابلات خَاصَّة مع متصوفة عصره يندى لسَماعها جبين الصادقين؛ وكانت لابن قِسيِّ (سنة 546 هـ) وزملائه من أولياء المغرب دعوات إصلاحية، تبحث في كل ما مِنْ شأنه أن يرضي الله من خدمة المجموع فتفعله، ولا تنطلق في طريقها قائمة فاعلة إلا وهى هادفة إلى الإصلاح الذي يلزم سعي الصوفي بالقصد إلى الله؛ لكنه قتل بعد أن لفِّقَتْ له التُّهم، كما لفقت للحلاج من قبله، تماماً كما قتلوا ابن برَّجان (قتل سنة 536هـ) والخوالي والمرجاني مع كونهم أئمة يُقْتَدىَ بهم.

ثم من أجل الإصلاح وكلمة الحق الصادقة المخلصة، ومن أجل العمل لإعلاء دين الله وتحقيق كلمات الله في النفس والضمير لاقى شيوخ الصوفية من الأذى، ما لم يشهده تاريخ الاضطهاد الديني - بغير مبالغة - في ثقافات العالم مجتمعة.

أمَرَ الخليفة بضرب عُنق سمنون المُحِبِّ بعد أن أدَّعت عليه امرأة كانت تهواه، راوَدَتُه عن نفسها وهو يأبى أن يأتيها في الحرام؛ ثم حَرَّضوا العامة ضده فطردوه هو وجماعته، وشهدوا عليهم بالكفر والزندقة، فمنهم مَنْ هَرَبَ ومنهم من توارى سنينَ متخفياً عن عيون الحانقين والمتربصين حتى كفَّ الله محنتهم.

ونفوا أبا يزيد البسطامي من بلده سبع مرات؛ لأنه كان يتكلم على الكشف بعلوم لا عهد لأهل بلده بها من مقامات الأنبياء والأولياء، فأنكر عليه رجلٌ يُدْعىَ الحسين ابن عيسى البسطامي إمام ناحيته، وأمر أهل البلدة أن يخرجوه منها، فأخرجوه ولم يعد إليها إلا بعد موت الحسين هذا !

ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم وأفتى العلماء بتكفيره لألفاظ وجدوها في كتبه. وشهدوا على ذي النون المصري بالكفر بعد أن تَعَصَّبَ عليه فقهاء إخميم. وأخرجوا سَهْل بن عبد الله التُّسْتَريِّ من بلده إلى البصرة، وَنَسَبُوه إلى قبائح موبقة، وكفروه مع علمه ومعرفته واجتهاده، ولم يزل بالبصرة حتى مات.

وشهدوا على الجنيد - مع فضله وعلمه وجلالته ورقي أحواله وريادته في الطريق - بالكفر حين كان يتكلم في إشارات التوحيد، واضطهدوه ثم إنه تَسَتَّرَ بالفقه وبظاهر العلم الظاهر، واختفى عنهم، فراح يقرر علم التوحيد في عُقْرِ دَارِه.

واخرجوا محمد ابن الفضيل البلخي بسبب المذهب؛ لأن مذهبه كان مذهب أصحاب الحديث، فقالوا له لا يجوز لك أن تسكن في بلدنا ولا تتخذ منها وطناً يأْوِيك! فتحداهم تحدي من سقطت من عينه مطلقاً رؤية الأغيار حتى لكأنه لم يَعُدْ يَشْهَد لهم عيناً ولا أثراً. فقال لهم: لا أخرج حتى تجعلوا في عنقي حبلاً وتمروا بي على أسواق المدينة وتقولوا: هذا مُبْتَدِع نُريدُ أن نخرجه من ديارنا؛ ففعلوا به كذلك.

وأخرجوه وألتفت إليهم وقال:" نَزَعَ اللهُ مِن قُلوبكم معرفته"، فلم يخرج من بَلْخ بعد دعائه هذا صوفيُّ مع كونها كانت أكثر بلاد الله صوفية.

واخرجوا الحكيم الترمذي من بَلْخ حين صَنَّفَ كتاب "علل الشريعة"، وكتاب "ختم الأولياء"، وأنكروا عليه بسبب هذين الكتابين، وأغلظوا الإنكار، وكانت التهمة جاهزة بطبيعة الحال، إذْ قالوا: فضَّلت الأولياء عَلَىَ الأنبياء ..!

وَرَمُوا يوسف بن الحسين الرازي بالعَظَائم وتكلموا في حقه بالكلام الخارج، وَشَهَدَ عليه زهاد الرَّاز وصوفيتها بالإنكار؛ فلم يعبأ بهم ولم يبال. واخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي من المغرب مع فضله وعلمه وزهده واستقامة طريقه، وتَصَدُّره للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فحملوه من المغرب مقيداً إلى مصر، وشهدوا عليه عند السلطان، وَلمْ يَرجِعْ عن قوله، فأخذوه وسلخوه وهو حي فصار يقرأ القرآن وهو مَنْكُوس مَسْلُوخ، فكاد أن يفتن به الناس فرفع الأمر إلى السلطان فقال: أقتلوه ثم أسلخوه ..!

واخرجوا أبا الحسن البوشنجي، وأنكروا عليه، وطردوه إلى نيسابور فلم يزل بها حتى مَات. واخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع مجاهداته وتمام علمه وحاله، وطاف به العلوية على جمل في أسواق مكة بعد ضربه على رأسه ومنكبيه، فأقام ببغداد، ولم يزل بها حتى مات.

وَشَهَدُوا على السِّبْكي بالكفر مراراً مع تمام علمه وكثرة مجاهداته وإتباعه السُّنَّة إلى حين وفاته، وأدخلوه البيمارستان (أي المستشفى)؛ حتى أنَّ مَنْ كان يحبه شهد عليه بالجنون طريقاً لخلاصه ونجاته، وقال فيه أبو الحسن الخوارزمي أحد مشايخ بغداد المعروفين يومها:" إنْ لم يكن لله جهنم، فإنه يخلق جَهَنماً بسبب السِّبْكي "؛ أي يخلقها الله للذين آذوه وأنكروا عليه وكفروه بالباطل.

وأفتوا في بلاد المغرب بتكفير الغزالي وأحرقوا كتابه "الإحياء". وطعنوا على الجنيد، وعلى رُوَيِّم، وسمنون المحب، وابن عطاء، ومشايخ العراق، وكان المدعو أبو دنيال إذا سمع أحدهم يذكرهم بخير تَغَيَّظ وتَغَيَّر وكادَ يأكل نفسه من الحسد.

واخرجوا أبا الحسن الشاذلي من بلاد المغرب، وفي صحبته أبي العباس المرسي وجماعته وشهدوا عليهم بالزندقة. ولقد لاقي شيوخ الشاذلية الكِبَار ألوانَ الاضطهاد وأصناف المكائد والأذية، كما لاقى الشاذلي نفسه جَرَّاء دعوته شيئاً من العنت والأذى في سبيلها، فطردوه وأخرجوه وتكلموا في حقه بالكلام الساقط كما حدث لجمع غفير من المتصوفة من قبله من أجل ماذا؟! من أجل دعوته الإصلاحية التي أُمِر برفع لوائها، ونادى في الناس بفضيلة الإصلاح ما أستطاع إلى الإصلاح سبيلاً، لكنه هو وجماعته لم يجدوا من بعض الناس إلا الضلال والمكائد والعزوف عن قصد السبيل، وهم مع ذلك كانت لهم في رسول الله أسوةٌ حسنة حين لم يفقدوا الأمل، ولم ييأسوا من نصر الله، ولم يكن لهم مع كل ما لاقوه من أذى سوى وجه الله، وسوى الغيرة على طريق الله وطريق رسوله، وسوى خطى رسول الله يمتثلونها في كل حال، غير أنها بحق ضريبة الإصلاح يدفعها من يتصدى للدعوة مخلصاً لها على طول الطريق.

ورموا الشيخ أحمد ابن الرفاعي -  بالزور والكذب والبهتان - بالزندقة والإلحاد وتحليل المحرمات.

وعقدوا للشيخ عز الدين بن عبد السلام مجلساً في كلمة قالها في العقائد، وحرَّضوا السلطان عليه، إلى أن تداركته ألطاف الله. وأنكروا على ابن عربي وابن الفارض وجماعتهما إنكاراً عظيماً، وتطاولوا في الإنكار، وشهدوا عليهم بالكفر، ولا يزال جهلة الناس يكفرونهم حتى يومنا هذا.

وذبحوا الحلاج وَالسَّهْرَوَرْدِي بعد الحكم عليهما بالتكفير والمروق عن الدين.

ثم ماذا؟ إنْ لم يكن الصوفية أهل إصلاح لنفوس معوجة، وأهل تغيير لواقع فاسد، وأهل جهاد في سبيل حياة كريمة من أجل الله، لمَا تَعَرَّض لهم سفلة الناس وتصدُّوا لهم بالوقيعة والتعذيب والتنكيل والطرد والتكفير، وبكل دسائس الشر ووسائل الاضطهاد التي تصطدم مع أبسط حقوق المرء في التعبير عن فكره. ونحن من ثمَّ نعجب من تمسك الصوفية تمسكاً غريباً بملاقاة الأذى وتحمله من سفهاء الآدميين، ولكننا حتى إذا ما عَرَفنا السبب بطل لدينا العجب.

والسبب فيما نرى هو أن الداعي إلى الله على ديدن الصدق وشريعة الإخلاص لا يكون له حظ من ميراث رسول الله، صلوات الله وسلامه عليه، ما لم يُلقْ الأذى من جرَّاء دعوته إلى الله، ويتحمل في سبيلها بصبر الأقوياء العاملين كل ألوان الاضطهاد الذي يلقاه الشرفاء في عالم منكود.

لعَلَّ هذا السبب هو المقياس الذي يُقاس به معدن الإخلاص في ذات الإنسان المخلص: أن يدعو إلى الله على بصيرة، ويتحمل تبعة دعوته فيواجه الأذى كما واجهه الأنبياءُ والمرسلون والأولياءُ والعارفون وأهل العزم من أولي الصدق والإحسان ممَّن ورثوا ميراث النبوة.

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم