صحيفة المثقف

عدنان حسين أحمد: بلاد الرافدين.. دعوة للتسامح الديني وتغليب الهُوية الوطنية

2699 بلاد الرافدين رشيد الخيونصدر عن دار "لندن للطباعة والنشر" في العاصمة البريطانية كتاب "بلاد الرافدين.. ثوابت الجغرافيا وصور التعايش" للباحث رشيد خيّون الذي قال في التمهيد "أنه لم يكن كتابًا نظريًا أو فكريًا، بمعنى التحليل واستخلاص النتائج، بقدر ما جاء كتابًا تراثيًا في مادته وأسلوبه"، ثم يعزّز هذا الرأي بالقول "إنه كتاب بسيط في مادته، وقد يكون مُعقّدًا في غرضه". ويمكن للقارئ اللبيب أن يستشف من الصفحات الأولى للكتاب بأنّ المؤلف يتحرّق شوقًا لأن يرى العراقيين بمختلف قومياتهم وأديانهم ومذاهبهم ومللهم الأصيلة والوافدة متعايشين متحابّين متكاتفين لا تفرّقهم النزعات الدينية والعرقية والطائفية لأن مساحة الاتفاق أكبر بكثير من خانق الافتراق الضيّق. لقد خسر العراق منذ منتصف القرن الماضي آلافًا مؤلفة من اليهود العراقيين المُخلصين لبلاد الرافدين، كما تناقص عدد مسيحيّيه وصابئته المندائيين إلى درجة مُخيفة تُنذر بانقراضهم من هذا البلد الذي يمحضونه حُبًا من نوع خاص لكنهم اضطروا لمفارقته جسديًا رغم أنّ أرواحهم تحوم في سماوات بغداد وبقية المدن العراقية وتأبى أن تغادرها إلى الأبد.

يتتبّع الباحث في الفصل الأول اسم العراق أو الصيغ الأخرى التي تدلُ عليه فقد كان العراق في عصور غابرة يسمّى بابل، بينما يذهب عالم الآثار طه باقر (ت 1984م) إلى أن أول استعمال لاسم العراق قد ورد في العهد الكيشي منتصف الألف الثالث ق.م باسم إيريقا. وقد ورد اسم العراق في "تاريخ الأمم والملوك" للطبري (ت 310ه) لأكثر من 300 مرة، وبلغت تسمية "أهل العراق" في المصدر نفسه ما يربو على الـ 100 مرة. وفي السياق ذاته يستشهد الباحث رشيد خيون بالعديد من القصائد التي ذُكر فيها اسم العراق لشعراء مشهورين من بينهم زهير بن أبي سلمى (ت 13ه) وجرير بن عبد المسيح (ت 580م) وعنتر بن شدّاد (ت651م) الذي يقول:

تُرى عَلِمَت عُبيلةُ ما ألاقي             من الأهوال في أرضِ العراقِ

فخضتُ بمهجتي بحرَ المنايا        وسِرتُ إلى العراق بلا رفاقِ

بلاد الأنهر

يعني العراق في السريانية والآرامية بيت النهرين (دجلة والفرات) أو بلاد الأنهر، ولعل الإشارة هنا إلى الأنهر الأخرى الموجودة في العراق آنذاك إذا أخذنا بنظر الاعتبار أنّ خارطة العراق آنذاك يمتد طرفها الشمالي من آشور إلى طرفها الجنوبي في عبّادان وما تنطوي عليه من أنهر كثيرة تبدأ بالزاب والأعلى والأسفل، وتمرّ بديالى والوند وتنتهي بنهرَي الكرخة والكارون، إضافة إلى عشرات الجداول التي تنبع من داخل إيران وتصب في الأراضي العراقية. يتوقف الباحث عند كلمة "بغدادو" البابلية التي تعني "بيت الخِراف" أو "المرعى" أو "بيت العنكبوت" ويراها الأقرب إلى الدقة من التسميات الأُخر. تمامًا مثلما يرى أنّ اسم العراق مشتق من "أوروك" ويغضّ الطرف عن التسميات الأخُر التي لا يقبلها المنطق العلمي.

يشير رشيد خيّون إلى أنّ العراق يتضمن خمسة أديان وهي: الصابئة المندائية، والإيزيدية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام، إضافة إلى الكاكائية، والبهائية، والزرادشتية بأعدادهم القليلة. يناقش الباحث في هذا الفصل عبارة "أهل شقاق ونفاق" التي تُنسب خطأً إلى الحَجّاج بن يوسف الثقفي، أو لعلي بن أبي طالب "رض" بينما هي تعود للخليفة عبدالله بن الزبير (قُتل في 73ه) حيث قال ابن الزبير:"ألا إنّ أهل العراق، أهلَ الشقاق والنفاق باعوه (مصعب) بأقلِ ثمن كانوا يأخذونه به". وقد وردت على لسان الحَجّاج بالصيغة الآتية:"إن طائفةً من أهل العراق، أهل الشقاق والنفاق، نزع الشيطان بينهم، فقالوا مات الحَجّاج! فَمَهْ! وهل يرجو الحَجّاج الخير إلاّ بعد الموت!".

فتوى القتل

يتمحور الفصل الثاني على كوامن المذهبية والعِرقية ويرى أنّ مكوّنات المجتمع العراقي تتألف من: الصابئة المندائية، والإيزيدية، واليهودية، والمسيحية، والإسلام، والبهائية. ثم يتوسّع بالحديث عن كل مكوّن على انفراد. فالصابئة المندائيون الذين تعرّضوا لفتوى القتل في عهد الخليفة القاهر العباسي (ت 329ه)، وهم يقدّسون يحيى بن زكريا، وديانتهم مغلقة، وقد اعترفت بهم الدولة المعاصرة بوصفهم أحد مكونات الشعب العراقي. أمّا الإيزيديون فهم يقدّسون الشيخ آدي أو عدي بن مسافر (ت 557ه). ولديهم "كتاب رش" و "الجلوة" اللذين ينطويان على تعاليمهم الدينية. يتوقف الباحث عند الديانة اليهودية التي يربو وجودها في العراق على 2600 سنة. وقد هُجّروا في منتصف خمسينات القرن الماضي إلى إسرائيل ثم توزع غالبيتهم في المنافي الأوروبية والأمريكية. أمّا وجود الديانة المسيحية فهو يعود إلى القرن الميلادي الأول ويتكونون من الكلدان الكاثوليك، والسريان الكاثوليك، والبروتستانت، والأرمن، والنساطرة، علمًا بأن الغالبية هم الكلدان الكاثوليك. يشير الباحث إلى أنّ الإسلام قد دخل إلى العراق مع الفتوحات بين عامَي 14- 17ه، وصار مكانًا لنشأة النِحَل والمذاهب مثل المذهب الحنفي، والشافعي، وقليل من الحنابلة، وقليل جدًا من المالكية إلى جانب المذهب الشيعي الإمامي. أمّا البهائية فقد أُعلِن عنها كديانة في نهاية القرن التاسع عشر 1863م داخل بغداد، ولديهم "الكتاب الأقدس" الذي يشتمل على أحكام الدين البهائي وسوف يتعرضون إلى بعض المضايقات التي تجبرهم على الهجرة إلى فلسطين وأوروبا والغرب الأمريكي. يتناول خيّون الجماعات الأُخر مثل الكاكائية الذين يقدّسون الإمام علي بن أبي طالب ويعتبرون أنفسهم الأقرب إلى الشيعة لكنهم ليسوا بشيعة كما يذهب الباحث.

يقسّم الباحث الجماعات العِرقية إلى سبع جماعات وهم: "العرب، والكورد، والكورد الفيليون، والتركمان، والسريان، والكلدان، والشبك". ويفرّق الباحث بين اليزيدية التي تعني أنهم أتباع الخليفة الأموي يزيد بن معاوية، والإيزيدية التي تعني "الإلهيين" نسبة لاسم الله يزدان في لغتهم القديمة. يرى المسيحيون أنهم قومية قبل أن يكونوا ديانة وهنا يميزون بين آشوريين أو آثوريين وكلدان، فالأولى ورثة آشور، أما الثانية فهم ورثة بابل.

هُوية المواطنة العراقية

يُعدد الباحث الأحزاب العراقية، ويرى أن حزب الأخوان المسلمين وحزب التحرير هما حزبان خالصان للسُّنة، وأنّ الحزب الجعفري، وحزب الدعوة، والشباب المسلم هي أحزاب خالصة للشيعة. كما أنّ الحزب الشيوعي العراقي كان يُنظر إليه كحزب شيعي لكثرة أعضائه الشيعة، وحزب البعث كحزب سُّني لكثرة أعضائه السُّنة المنتمين إلى صفوفه، وهذا ما يقود الباحث إلى القول:"هنا ولاية الفقيه، وهناك الحاكمية الأخوانية" ولا يمكن أن تُحلّ نزاعات واختلافات أبنائه إلاّ بهُوية المواطنة العراقية التي يجب أن تتقدم على كل الهُويات الفرعية.

يمكن اختزال الفصل الثالث بترويسة العنوان التي تقول بأنّ "الناس شركاء في الأوطان" ولا ينبغي لنا أن "نتساكن" أو "نتعايش" فقط، وإنما يجب أن نتفاعل بغية تحقيق المساواة التي تلغي التراتبية في المواطنة، وتشطب إلى الأبد توصيفات مواطن من الدرجة الأولى أو الثانية أو الثالثة، وأن نتعامل مع الجميع كأسنان المشط. ثمة مقاربات ثقافية كثيرة في هذا الكتاب، فالباحث رشيد خيّون يحب الشعر ويتذوقه فلاغرابة أن يستشهد بالكثير منه مع أنّ الشعر يجنح إلى الخيال أكثر من جنوحه إلى الواقع، والملاحظ أن خيّون ذوّاقة ونادرًا ما تجد في اقتباساته أشعارًا ضعيفة أو مهلهلة. وفي هذا الفصل بالذات يقتبس من أبي العلاء المعري هذا البيت الجميل والمُعبِّر الذي يقول فيه:

الناس بالناس من حضرٍ وباديةٍ           بعضٌ لبعضٍ وإن لم يشعروا خدمُ

لكن ما يثير العجب والاستغراب أن الوعّاظ والدُعاة ورجال الدين يوظِّفون هذا البيت في خُطبهم وأحاديثهم ولا ينسبونه إلى أبي العلاء المعرّي الذي أُدرج ضمن حلقة الشعراء الزنادقة حيث قالوا:"زنادقة الدنيا أربعة: بشّار بن برد، وابن الرّاوندي، وأبو حيّان التوحيدي، وأبو العلاء المعَرّي".

خيال الظل

يركِّز الباحث في الفصل الرابع على موضوعَين أساسيّين وهما "خيال الظل" و "الفرهود". وفيما يتعلّق بخيال الظل يورد الباحث حادثة تتلخص بأنّ عبادة المخنّث قال للشاعر دعبل الخزاعي عندما هدّده الأخير بالهجاء. "والله لأن فعلت لأخرجنّ أمك في الخيال" وهو يعني خيال الظل الذي حرّمه بعض السلاطين مثل الظاهر بيبرس الذي وُصف بأنه "عدوّ المخايلين وأرباب الفسق والفجور". وهذا ما يفسّر أن فن خيال الظل Shadow play ظلَّ إلى فترة قريبة في بلداننا فنًا مُحتقرًا من قِبل الغالبية بينما قال أحدهم:

"رأيتُ خيال الظل أكبر عبرة               لمن هو في علم الحقيقة راقي

شخوص وأشباح تمرُّ وتنقضي           وتفنى جميعًا والمحرّك باقي"

وفيما يتعلّق بالسلب والنهب فقد تعرّضت بغداد لمرات كثيرة من الانفلات الأمني حيث نهب سوق الثلاثاء في بغداد حين وصل القائد مثنى الشيباني قبل السيطرة الإسلامية. كما تعرضت لنهب متواصل لمدة أربعين يومًا بعد اجتياح هولاكو. غير الباحث رشيد خيّون يتوصل إلى أن النهب ليس مقتصرًا على بغداد وحدها، فلقد "تفرهدت" روما وأثينا والقاهرة وبيروت وغيرها من المدن والحواضر العالمية.

يتمحور الفصل الخامس على التعايش الديني  ويورد الباحث أمثلة عديدة نذكر منها أنّ يزدان بخت، رئيس المانوية كان يحضر مجلس المتكلمين الذي يُقيمه المأمون أسبوعيًا... فلما هُزم في المناظرة قال له المأمون: اسلم يا يزدان بخت، فلولا ما أعطيناه إياك من الأمان لكان لنا ولك شأن. فقال له يزدان بخت: نصيحتك يا أمير المؤمنين مسموعة، وقولك مقبول ولكنكَ ممن لا يُجبر الناس على ترك مذاهبهم". وهذا الموقف يُدلل بوضوح تام على التعايش الديني بين المسلمين والمانويين وغيرهم من الديانات الأخر. كما يثبت بالدليل القاطع أن ثقافة الحاكم أو الدولة تنعكس على ثقافة المجتمع. تتمثّل الحادثة الثانية بشابٍ صابئي جادل غلامًا للمعتزلي بن سيّار في عِلّة تحريم الخمر. فقال له الغلام: إن الخمرة تُذهب العقل. فردّ عليه الصابئي: أن النوم يُذهب العقل فهل نحرّمهُ أيضًا؟ فأفحمهُ هذا الرّد! وإذا انتقلنا من زمن المأمون في القرن التاسع الميلادي إلى زمن الاحتلال الإنگلو- أمريكي للعراق عام 2003م لوجدنا التحريض علنيًا ضد الصابئة المندائيين وقد اتهموهم بشتى التهم التي تتجاوز ممارسة أعمال الدجل والشعوذة والتفريق بين المرء وأهله وهدّدوهم بالقتل إن لم يكفّوا عن هذه الممارسات البشعة التي لا تتلاءم مع تقاليد المجتمع العراقي.

التهجير القسري

يتوقف الباحث عند مصطلحَي الأكثرية والأقليّة، فالأول يعني الهيمنة والسطوة وفرض النفوذ، والثاني يوحي بالضعف والتبعية والانكسار الأمر الذي يحرمهم من الحقوق ويلغي الشراكة المتوازنة في الوطن الواحد ويجعل منهم شريحة متوارية لا حول لها ولا قوّة، وهذا ما دفع ثلاثة مكونات أساسية وهم اليهود والصابئة المندائيون والمسيحيون إلى مغادرة العراق واللجوء إلى البلدان التي توفر الحماية للإنسان بغضّ النظر عن ديانته وقناعاته الشخصية. وعلى الرغم من أنّ اليهود كانوا طائفة مُنتِجة في الصناعة والمال والفن والأدب وبقية مناحي الحياة الأخرى إلاّ أنهم تعرضوا "لـ الفرهود"، وإسقاط الجنسية، والتهجير القسري، وهذا الأمر سوف ينسحب لاحقًا على المسيحيين والصابئة المندائيين.

وعلى الرغم من القمع الذي تعرّضت الديانات الأخرى في العراق إلاّ أن ذلك لم يمنع من التعايش الديني وربما تكون قصيدة "يهودي في ظل الإسلام" التي كتبها الشاعر والأديب أنور شاؤول إثر اعتقاله عام 1969م لتصفية ما تبقى من اليهود العراقيين هي أنموذج لهذا التعايش الديني حيث يقول:

"إن كنتُ من موسى قبستُ عقيدتي          فأنا المقيم بظل دين محمد

سأظلُ ذيّاك السمؤأل بالـــــــــوفا            أَسعُدتُ في بغداد أم لم أُسعَدِ"

وقد تمكّن شاؤول من إرسال هذه القصيدة إلى صالح مهدي عمّاش، وزير الداخلية، والمُحبّ للشعر الذي أرسلها بدوره إلى الرئيس أحمد حسن البكر فأمر بإخلاء سبيله والسماح له بالسفر إلى خارج العراق. ويعتقد رشيد خيّون أنّ هذه القصيدة كانت سببًا في إخلاء سبيل صديقه الأديب مير صبري (ت 2006م).

تجدر الإشارة إلى رواية كاظم أحمد المشايخي (ت 2004م) التي يمكن أن نلخّصها بأن الوصي على العرش قد استولى على أرض مجاورة له فاشتكى صاحبها اليهودي عليه وأصدر الحاكم قرارًا لمصلحة الوصي فميّز اليهودي الدعوى وكان رئيس مجلس التمييز آنذاك الشيخ أمجد الزهاوي الذي درس القضية جيدًا ونقض قرار الحكم وأعاد الأرض لليهودي. وهذا مثال آخر على التعايش الديني في العراق.

لم يتردد الرصافي في نعي ساسون حسقيل، أول وزير مالية عراقي في العصر الحديث معروف بأمانته وحرصه الشديدين على المال العام حيث قال:

"نعى البرقُ من باريس ساسون فاغتدت     ببغداد أم المجد تبكي وتندب

ولا غروَ أن تبكيه إذ فقدت به               نواطق أعمال عن المجد تعرب"

ويكفي أن نشير هنا إلى ساسون اليهودي، من سكنة الديوانية، وهو يصف حاله قبل الهجرة حين قال هذا "الدارمي" الذي ظل عالقًا في ذاكرتهم الجمعية:

"مِدّ إيدك على الروح أهنا يهل مار ما ترضى تمشي وياك أمچلبة بالدار"

يبلغ التعايش الديني ذروته حينما يفتي شخص مثل أبو حنيفة النعمان بدخول أهل الذمّة إلى المساجد والجوامع، بل حتى إلى الكعبة حيث جاء في أحكام أهل الذمّة: "لهم دخول الحرم كله حتى الكعبة نفسها، ولكن لا يستوطنون به".

قناعات حبيسة

يُعد الصابئة المندائيون من أهل الكتاب، أي من معصومي الدماء، وبالتالي تؤخذ منهم الجزية ولا يُخيّرون بين الإسلام والقتل وهذا ما ذهب إليه أبو القاسم الخوئي لكن هذه القناعات ظلت حبيسة ضمائر هؤلاء العلماء ورجال الدين غير المتعصبين إلاّ أن أبناء هذه الطائفة المندائية الكريمة يتعرضون للأذى وجرح المشاعر حينما يلّمح البعض بـ "نجاستهم".

يُحرِّم الإيزيديون الزواج بين طبقاتهم، ولا يقبلون الزواج من خارج ديانتهم إطلاقًا. ورغم هذه العزلة القاسية إلاّ أنّ هناك العديد من الشخصيات المسلمة مثل أبي الحنيفة النعمان الذي دعا إلى التعايش الديني وأوجد مساحة مشتركة بين الإسلام والأديان الأخرى. وهناك من أباح زواج المسلمة بالكتابي أو الذمّي أو اليهودي أو المسيحي مثل الشيخ السوداني حسن الترابي. فيا حبذا لو تتسع هذه المساحة المشتركة للتسامح، وتضيق، في الوقت ذاته، مساحة التكاره والنفرة النفسية والاجتماعية.

يركِّز الباحث في الفصل السادس على أحمد بن بويه (932 - 967م) الذي يُعد أوّل من أقام شعائر العزاء الحسينية، وبعدها أصبح عاشوراء تقليدًا رسميًا تتجدد فيه الصدامات بين الشيعة والسُّنة.

يشير الباحث إلى أن الأمير فيصل الأول لم يكن طائفيًا في اختيار الموظفين القادمين معه من دمشق، فقد اصطحب ساطع الحصري السُّني، كما اصطحب رستم حيدر الشيعي. ويرى أن الحصري كان علمانيًا يسعى لفصل الدين عن الدولة ومؤسساتها التعليمية، فقد أخرج التعليم من الكتاتيب إلى المدارس الحديثة. أما الطبقة السياسية المعاصرة فقد أحيا بعض ممثليها النَفَس الطائفي المقيت الذي يعمّق الجراح وينسف فكرة التسامح الذي نسعى إليه، وهذا التناحر هو تناحر أحزاب وتنظيمات طائفية لا غير وأن سُّنة العراق وشيعتهم لا ناقة لهم ولا جمل في هذه النزاعات المُقرفة. لم يكن الوسط الثقافي العراقي طائفيًا، فالرصافي، كما يرى خيون، أعمق من أن يكون طائفيًا وقد رثى ومدح العديد من أعلام الشيعة مثل الشيخ محمد مهدي الخالصي، والشاعر عبد المحسن الكاظمي، وملا عبود الكرخي، وقد قال بحق محمد مهدي الجواهري ما يلي:

"بكَ لا بي أصبحَ الشعرُ زاهرا     وقد كنت قبل اليوم مثلك شاعرا"

جُنوح المخيّلة

لا تستحق الآراء التي قيلت بحق الكورد أن نوردها في هذا المقال لجنوحها المفرط في الخيال ولأن العقل لا يقبل بها أبدًا. ينتقد الباحث قانون الجنسية العراقية الذي صدر في 6 آب 1924م الذي استُغل للفرز الطائفي، فما معنى الانتماء الوطني لمن صُنِّف بالتابع لا المواطن؟ ويُحسَب لفاضل البرّاك انتقاده لمفهومي لمفهومَي الأقلية والأكثرية لأنه منافٍ لمفهوم المواطنة.

يتمحور الفصل الثامن على مدينة البصرة بوصفها بوابة العراق البحرية وموئل خيراته المتعددة، كما أنها منشأ الأفكار والفرق والمذاهب اللغوية والكلامية. ينتقد خيّون المعجميين العرب لأنهم لا يذهبون أبعد من الفتح الإسلامي لكي يتعرفوا على أسماء المدن العراقية. فكلمة البصرة تعني "الحجارة الغليظة أو الحجارة الرخوة المائلة للبياض"، بينما تعني بالآرامية أو السريانية الأقنية أو بيت الجداول. يرى الباحث أن البصرة كانت الزبير حاليًا بدلالة وجود أضرحة طلحة بن عبيد الله، والزبير بن العوّام حيث دارت معركة الجمل، وضريحَي الحسن البصري ومحمد بن سيرين. وفي عام 1630م حدّد الرحالة الغربيون تركيبتها الاجتماعية إذ قال أحدهم أن سكان المدينة هم خليط من العرب والأتراك العسكريين والفرس الذين يعملون بالتجارة لذلك تجد اللغتين التركية والفارسية منتشرة في مضاربها. كما يعيش فيها مسيحيون نساطرة ويعاقبة وصابئة مندائيون. احتضنت البصرة جماعتي المعتزلة وإخوان الصفا، وتعرّضت لثلاث انتفاضات للتخفيف من جور أسيادهم، وكانت الانتفاضة الثالثة هي الأطول، إذ استمرت لـ 15 سنة، وفي كل مرة كان يعاد بناؤها لكن المشكلة في خراب النفوس والعقول.

طِباع طيور الماء

يتناول الفصل التاسع والأخير موضوع الأهوار في العراق وثمة إشارة إلى مقولة الليدي دراوَر مفادها "أنّ في سكان البطائح كثير من طباع طيور الماء". لم يجد الباحث أصلاً لكلمة الهور في المعاجم العربية ولعل أصلها آرامي  لأن كلمة "الحور" بالآرامية تعني "البياض والنقاء". أمّا الكلمات المقابلة للهور فهي الأجمة والبطيحة كما ذهب الجاحظ والمسعودي، ويعتقد أحمد سوسة بأن أهل البطائح والأهوار هم جماعة من السومريين الأوائل. وقد خصّهم المؤرخ عبد العزيز الدوري باسم النبط. ويرى آخرون أنهم الزُط الذين نُقلوا، هم وجواميسهم، من الهند إلى أهوار العراق أيام الساسانيين وقاموا بثورات متعددة ضد العباسيين فهجّرهم المعتصم بالله إلى حدود الروم البيزنطيين، ومن هناك انتشروا في ربوع أوروبا ولكن بعض الحقائق العلمية تشير إلى وجود الجواميس الوحشية في أهوار العراق في الألف الثالثة ق.م. جدير ذكره أن رشيد خيون من مواليد ذي قار، حاصل على الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية من صوفيا، وقد صدرت له العشرات من الكتب نذكر منها "معتزلة البصرة وبغداد"، "جدل التنزيل"، "الأديان والمذاهب في العراق"، "ضدّ الطائفية"، "أثر السود في الحضارة الإسلامية" الذي نال عنه جائزة الملك عبد العزيز للكتاب سنة 2017م.

 

عدنان حسين أحمد

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم