صحيفة المثقف

حيدر عبد الرضا: قراءة في رواية (الحفيدة الأمريكية) للروائية أنعام كجه جي

حيدر عبدالرضاالحفيدة بين نرجسية المواطنة ومأزومية عقدة الهوية

توطئة: تسعى دراستنا في هذه القراءة التطبيقية إلى فرز وتحليل بطانة مستوى الكشف عن دلالات الأضمارات الخفية والخلفية الواقعة في بنية وفضاء وموضعة (المابين) ضمن تأسيسات وآليات المنهج النقدي الأسلوبي والتحليلي المتكرس في معاينة أهم التمحورات المهيمنة في موضوعة رواية (الحفيدة الأمريكية) لأنعام كجه جي، وما يترتب على مواقف شخوصها من محققات أختلافية ومختلفة في حدود مأزومية المواطنة وعقدة الهوية الوطنية، استنادا إجرائيا على ما أنتجته علامات ووظائف الشخوص المحورية من جملة أختبارات انعطافية في قرار ومسعى مصيرها المحفوف بالخذلان .

ـ الذاتانية بين حبكات المزدوج الاستباقي والانعطافة الشخوصية

قد أزعم لذاتي أن أول قراءتي إلى بنية العتبة الاستهلالية في رواية (الحفيدة الأمريكية) قد ساورني ذلك النوع من القراءة المحالة إلى جهات مأزومية بفحوى مؤشرات (الهوية ـ انفلات الجذور ـ تهكمية الذات) ورغم أن البنية العنوانية وما تحمله من الوعي الهوياتي المتصل بمجرد التأمل في مفردة (الحفيدة) أول دال (الأمريكية) تقودنا نحو معاينة الأسباب الأرشيفية والتصديرية في كذا قيمة عنوانية مختزلة دالا، حيث نستشف من وراءها جملة متراكبة من إحالات المعنى القصدي المبرمج في قنوات خاصة من الأمكانية الاستحواذية في دليل (الميتاهوية) المنصصة في مضمنات عتبة النص الأولى: (من يغازل امرأة تحمل مقبرة بين الضلوع ؟ .. بائسة أنا .. طاولة زينة مقلوبة، مشروخة المرآة .. أضحك من قشرة القلب بإيجاز وبلا كثير حضور .. ضحكة بلا دسم ـ دايت ـ، هل أضحك بالفعل أم أجاهد كي تطلع مني ايتسامة وجيزة . / ص9 الرواية) هذه الجمل الخاصة من عتبة الاستهلال تكشف لنا ما يعاكس حقيقة الذاتانية عبر موقعها الأصلي من رابط الشخصية المحورية ـ زينة ـ بل أنه النموذج المنصوص هنا في إطارية استباقية حكائية ناتجة من حصيلة وحدات فصولية مجتمعة الخيوط تكشف لنا بالتالي عن حجم الراهن المتكهم في قيم الشخصية الهوياتية الملخصة في واقع شخوصي أطرحته الظروف إلى العمل كمترجمة ومساعدة إلى جنب قوات الجيش الأمريكي في تحرير العراق . نعم بلا شك أنها حقيقة الوضع الايديولوجي المؤدلج في وعي الشخصية الذاتي، الذي هو بمثابة الفعل الادراكي المقيد بالنسبة إلى نوعية امرأة عراقية مهاجرة من بلادها بفعل ظروف سياسية قمعية خاصة ومتكظة بالويلات طويلا، فكيف يكون حدوث الأمر بعد حصولها على الإقامة في امريكا مع ذويها وحصولهم بعد سنوات على الجنسية الأمريكية ثم تتاح لها بعد ذلك فرصة العودة إلى بلادها المخلوعة منها اختيارا وقسرا، كمترجمة ومساعدة لقوات التحرير من عرش الطاغوت العراقي وحاشيته الرذيلة . من المؤكد جدا أن يكون وضعها الموضوعي والذاتي والهوياتي تابعا إلى جهة التوطين الأخيرة أخلاصا، خاصة بعد عيشها وأهلها في أحلك ظروف العراق وظلامه وجوعه وأصفاده المستديمة للفقراء والمساكين والثائرين .. أقول أنا شخصيا كاتب هذه السطور أن (إنعام كجه جي) أخذت في جوهر شخصيتها الذاتانية أقصى درجات الاعتزاز الحميمية لشرف حصولها إلى الانتماء لهذه المواطنة الامريكية .. ولكننا مع وجود ذلك الاحساس بالشرف لديها ندرك غزارة ودخيلة مأزومية هذا الانتماء بوجوه مختلفة وشاذة ومفبركة في بناء وحدات الشخوص الروائية مثلا: فما قيمة رؤى الشخصية المحور إزاء حياتها كمترجمة للقوات الأجنبية في العراق، ما دامت أساسا لا تشعر بذلك الحس الوطني لديها بأمتياز ؟ أهو حافز المال أم الثأر أم العلاقة المتعالية للحصول على الجنسية الأمريكية والأرتقاء بها أحساسا على موطىء جذورها العراقية ؟ . أن جميع وحدات ومؤهلات الرواية تنصب في معنى ثنائية الانتماء أو اللاانتماء، لا إلى مجرد مجندة جاءت لتنقل لنا حكاية عاداتها وسلوكها وطباعها وأفرنجيتها عرضا في جملة فبركات الشكل اللغوي كشخصية أو كاتبة للنص . هناك أسئلة ومآخذ وتعقيبات سوف تجد لها مكانا في عتبة (تعليق القراءة) عند خاتمة الدراسة من شأنها الكشف عن الهوة والفجوة في حكاية موضوعة وبناء الشخصية الروائية في الرواية .

1ـ شعرنة استباقية الزمن وسردنة المراجعة الأولية:

تظهر لنا في مستهل عتبة المدخل الروائي، ثمة محددات ومشخصات للأفعال المتحولة في مسار منظور النقل المسرود بضمير الشخصية المشاركة في النص، كوحدة عاملية من شأنها ترجيح الأفضية الخاصة بحيز الأسئلة والأجوبة في مسار من اطارية حكاية الشخصية في عودتها من حرب تحرير العراق،فهي تهم بنقل إعادة التعريف من خلال انطباعات حياتها بعد عودتها من خرائب الحرب وموت الجنود الامريكان: (اتستر على جوفي لئلا يفور ما فيه وينضح ويشي بالهزة التي حدثت لي منذ أن عدت من بغداد خرقة معصورة من خرق مسح البلاد . / ص10 الرواية) تتبين لنا في بنية الشخصية المشاركة ثمة تساؤلات واقعة في عاطفة (المابين) فهي امرأة جاءت إلى تحرير العراق من الطاغوت، ولكنها عادت امرأة مزدوجة في هويتها الامريكية مخذولة في ذاتها المنقسمة في المابين، أي بمعنى ما منقسمة بين نرجسية كونها المرأة الحاملة للجنسية الامريكية، وإلى كونها المرأة المخذولة في صفات مأزومة من أحقية كونها عراقية تعامل بالنقص الهوياتي والانتمائي الجاد لجذورها الأصل وما بين عشقها لأخيها بالرضاعة من الشخصية سلطانة، وهذا الأمر بدوره هو عين التناقض والمذمومية التي يعكسها موقفها كمواطنة عراقية شرقية صالحة، وقبولها من جهة كونها أمريكية منغرسة في عاداتها الغربية المنفتحة نحو المشاعية والإباحة في كل صورها الخارجة عن قيود التابو والمقدس والمحضور اجتماعيا . على هذا النحو وجدنا حجم الخذلان والتفارق في شخصية المحور زينة بعد عودتها إلى أمريكا عند نهاية عقدها مع الجيش الأمريكي،إذ تسكنها هيستيريا إعادة النظر في أحوال مرجحات القيم والعادات الأمريكية اللافاعلة في ذاتها كامرأة تقع في طرفي جدلية وإشكالية مأزومية المواطنة وأختلال هوية أصولها الشرقية العربية المحافظة قدما .

2 ـ ملفات الجذور الشخوصية:

في الواقع تتيح لنا وحدات الوظيفة الروائية في شخصية السارد المشارك عدة أوجه من أواصر الخصوصية الملخصة في حياة الشخصية زينة، وكأنها الإطلالة (المرجعية ـ النواتية ـ الاستعادية) من تفاصيل حياتها الشخصانية: (تهزني جدتي رحمة جيئة وذهابا بعد أن تجلسني بمواجهتها في حضنها الدافىء .. صدري الهش يقابل نهديها المترعين بالعافية .. يطفحان من صدريتها القطنية / أنظر مسحورة إلى وجهها الأبيض المشرب بالحمرة واتشبث بساعديها .. جدتي المتعلمة التي كانت تقرأ وتكتب وتطالع الصحف، بدت أعجوبة بين نساء جيلها . / ص12 الرواية) ما يتبين لنا من أحداث وحدات السرد المنقول من حال لسان السارد المشارك زينة، وهي تقص إلى القارىء والجنود في الرتل الأمريكي عن طريق المونولوج أو الكولاج استعادة لكل ذكريات طفولتها في مدينة الموصل وكيفية ذهابها وهي طفلة إلى قرى في أطراف الموصل: (أخذوني يوما إلى هناك وأنا صغيرة .. وكنا في عطلة عيد الفصح .. تشتعل سهول المدينة بصفرة أزهار البابونج .. سحرني ذلك الفضاء الأصفر المترامي ودوختني رائحة الطبيعة .. أحببت أقاربي الموصليين ذوي الشعور اللامعة الممشطة إلى الخلف / كيف كان لي أن لا أحب الموصل، وكل ما فيها يتحدث بلهجة جدتي ؟ . / ص13 الرواية) مهما نعاين محاولات الشخصية المحور في التأقلم وفي التحبب لذاتها إلى تلك الأجواء من مدينتها القديمة الموصل، يساورنا وجود ذلك الفاعل الذي يحيل هذا الحب إلى مجرد نزهة سياحية ذاكراتية مستعادة . أما هي اليوم فهي مجندة أمريكة جاءت على سطح مدرعة ناقلة للجنود المحتلين أو المحررين لا غبار على هاتان التسميتان طالما أن الهدف منهما يخدم محصلة قراءتنا النقدية، فهناك استحالة كبيرة في مشاعر الشخصية حقا تكمن أولا في هويتها كأمريكية معربة، وثانيا كونها تحمل في داخلها أثار لوعات وآهات أعتقال والدها بتهمة سياسية كما أظن، مما أدى إلى هجرتهم السببية إلى أمريكا وصولا، وثالثا كونها ترتدي الزي العسكري الذي هو بذاته أخذ يشكل عقبة عاطفية في شرطية كونها المواطنة العراقية افتراضا . ففي كل هذا لم يمنعها الأمر من البوح بعواطفها الحقيقية إزاء حاضرها كمواطنة مجندة: (وأن أحببتهم، فإنني لم أشعر بكثير من الألفة في ذلك البيت الكبير الرطب ذي الأدراج الصاعدة إلى أكثر من سطح .. والنازلة إلى عدة سراديب .. كانت درجات السلم أطول من ساقي الصغيرتين الرفيعتين .. وكوة النور الوحيدة العالية في آخره لا تبدد كل ظلمته . / ص14 الرواية) السرد ها هنا يخض بوصفه استعادة ذاكراتية إلى حجم استحالة حب الشخصية ومنذ بواكر طفولتها إلى ذلك البيت الكبير، الذي هو بمثابة الصورة المرمزة إلى الوطن والمواطنة على أرض البلاد . الروائية كجه جي حاولت توظيف المعادل النصي ترميزا، ذلك على عدم ملائمة المكان الذي هو بالنتيجة أصل واقع جذور عائلة الطفلة في هذه المدينة، إيذانا بواقع رفضها الجاد للهوية الانتمائية للوطن نفسه، فليس عجبا أن نعاين استيلاء حسها بالمواطنة إلى بلاد أخرى في كل وجدانها الذاتاني ومنذ واقع طفولتها مرورا إلى واقع مرحلة دخولها كمجندة إلى العراق ؟ ومع ذلك نعاين مستوى وصولها إلى إمتيازية المجندة الأمريكية التي جاءت للحرب مقابل مبلغ شهري من المال الأمريكي . أنا شخصيا لا أتواخى في قراءتي للرواية هنا أي مشاعر وطنية اطلاقا، كي تجعل مني في دراستي في موضع المنتقد والناقم على الرواية والروائية ومواقف شخصية الرواية المحورية، لا أبدا فأنا أسعى في قراءتي هذه إلى مناصفة موقع الحيادية والموضوعية والتقويم الأمين للرواية وموضوعتها فحسب والكل يعرف بهذا الأمر في الأوساط الثقافية والأدبية .

ـ مؤولات الوظائف السردية والإشكالية في الأنا والآخر

أن القارىء إلى أحداث رواية (الحفيدة الأمريكية) لربما يجدها فضاءات سردية تتوخى مظلومية الشعب العراقي والشخصية ذاتها في مواقفها الرحيمة من نقل وصياغة أحوال التجربة العراقية المأساوية، ومن جهة أخرى تعاطفها مع الناس في هوامش النص الجوانية في المتن، بدلالة التحرير وو تحطيم وثن الطاغوت وزحزحته في الشوارع ؟ ولكن هذا الأمر لا يمنع من أن الشخصية أو صاحبة الرواية هن ممن يحملن المواطنة والولاء إلى الآخر من جهة التوطين المندرج في المقام الأول للجهة الحاصلة فيها الإقامة تشريفا . بإختصار أقول أن الروائية كجه جي، تضمن في ذائقتها الروائية ازدواجية كبيرة، يوم قررت انشاء عوالم هذه الرواية، فهي لربما لم تتراجع قليلا عن كونها مؤلفة مخلوعة عن محل وطنها الأصل، بل بالعكس نجد مفردات شخوص روايتها متحذلقة ومتفرجنة بأجواء الذاتانية المتعالية على جنسية أصولها العراقية الأولى، أما حكاية عشقها من جهة أخرى للشخصية مهيمن، ما هي إلا عادات دقيقة تتجاوز حدود وأعراف التابو المقدس وعفاف الحرمات الدينية والاجتماعية، وذلك لكون مهيمن هو أخيها في الرضاعة حكما وتصديقا . وتتبدى وظائف متناقضة وأزدواجية في أحداث الرواية لأماكن عديدة في النص، وخاصة فيما يتعلق بالعلاقة المفتعلة في عشقها لجدتها رحمة ومهيمن، ناهيك عن سلوكيات الشخصية زينة الأخرى التي تذكرنا كثيرا بالغواني وبائعات الهوى في الشوارع الأمريكية .

ـ تعليق القراءة:

في الحقيقة تشكل مؤهلات ومقومات الصنعة في أداة وأدوات رواية (الحفيدة الأمريكية) أجلى ما هو متوفر في مصوغات البناء الروائي الحاذق، من ناحية الممارسة اللغوية والأسلوبية والبنائية، أي أن النص الروائي لا غبار عليه من ناحية محققاته الأجناسية الروائية . أما من ناحية فكرة وموضوعة الرواية فهناك عليها إشكاليات كبيرة في وظائف الشخصية الروائية، فالشخصية زينة امرأة مأزومة في نرجسية المواطنة الأمريكية غواية وغرورا وإفتعالا، فهناك حالات متناقضة ما بين مشاعر الشخصية القادمة من أمريكا كمترجمة في حرب تحرير العراق وبين عاداتها وسلوكها كامرأة تحيا مشاهد الموت والحرب على بلادها الأصل بدوافع نفعية وغرضية ومنحرفة عن قيم الفكرة والحبكة الروائية التي تتطلب مسارات دلالية أكثر إصلاحا ونفعا . وبلا مؤاخذة منا على أدوات وموهبة الروائية إنعام كجه جي أكرر في قولي الأخير: أن رواية (الحفيدة الأمريكية) ناجحة في مؤثثات بناءها وأدواتها الروائية، ولكنها رواية غير ناجحة من ناحية ضبط وموازنة موضوعتها وشخصيتها الروائية في عاداتها وطباعها المفبركة، فلا يمكننا الوثوق بوطنية وروح المعالجة في حبكة الرواية وأهدافها الفنية، طالما أن شخصيتها المجندة العراقية تتحذلق في سلوكها ولغتها التهكمية في أشد مواقف الرواية مأساوية، وكأنها داخل فواصل إعلانية ناتجة من سيناريو فلم سينمائي لا تحسن بطلته البكاء في مشاهد الحزن إلا بعد فواصل هشة من الضحك والغواية والتهكم بعيدا عن حقيقة الأداء والدور الذي يتطلبه الموضوع في محمول المدلول الفلمي الجاد: هكذا وجدنا عبر هذا المثال منا نموذج الشخصية زينة في متن وفضاء الرواية للكاتبة إنعام كجه جي كحفيدة مدللة جاءتنا مأزومة بالصورية العنوانية لترسم وتجسد لنا دورها التحريري المختل في هوية أنتماءها القسري إلى جذورها المفتعلة في آفاق اللاوطن .

 

حيدر عبد الرضا

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم