صحيفة المثقف

محمود محمد علي: قراءة استشرافية لكتاب "ريح الشرق" لأنور عبد الملك (1)

محمود محمد علي1- تقديم: منذ أربعينيات القرن الماضي والعقل الأوروبي يراجع ناقدا نفسه وقد انحسرت هيمنته، وأخذ يتساءل: فهل استقال العقل الأوروبي عن دورة الحضاري؟.. ومنذ ستينيات القرن الماضي، تفجر بركان الغضب، وشملت الأزمة العقل الغربي بعامة، واهتزت مقولات رسخت على الساحة الفكرية زمانا، تجاوز القرنين. وبدا أن التاريخ الذي رسم مساره الفيلسوف الألماني"هيجل" ليس هو الخطاب الصحيح، وظهرت اليابان، ويلدان العالم الثالث على السطح، بثقافاتها، وتطلعاتها، وجهودها، باحثة عن هويتها وتاريخها، ناقدة وناقضة مقولات الغرب، وبدت حضارات هذه الشعوب بتعددها الخصب المتكامل وبعمقها التاريخي العريق خطاباً إنسانياً جديداً في المعرفة .

وتعددت البحوث والدراسات الفكرية والفلسفية والعلمية في محاولات نقدية وتصويبيه للعقل الغربي، وعقل عصر التنوير الأوربي، ولمعت أسماء، وسطعت تيارات فكرية، وسادت نظريات ومناهج بحث، كاشفة عن دور الأيدولوجيات في العلوم الإنسانية والطبيعية معا، وانحيازها الخفي، أو الساخر، دفاعاً عن ثقافة الغرب، وتجسد هذا الانحياز في نظريات وصفت بالأكاديمية، حدثتنا عن العرق الأسمى والعقل الأرقى، وأن لهما الحق بالوراثة والطبيعية في السيادة على من هم دونها، وهذا ما يعنى في النهاية سيادة الغرب عقلا وعرقا على العالم أجمع لأنه الأدنى؛ وارتدينا جميعا قناع الأيديولوجيا الغربية زمنا وكأن فروضها من حيث لا نعى، مسلمات تصوغ رؤيتنا للحياة والتاريخ (1).

أما تاريخياً فقد شكلت علاقة الشرق بالغرب قضية جدلية في الأوساط الفكرية والسياسة العربية والغربية، إذ اختلفت الرؤى حولها باختلاف المرتكزات الثقافية والدينية والظروف السياسية والاقتصادية، فبعد أن كان الحديث أثناء القطبية الثنائية عن "التعايش السلمي"، و"الحرب الباردة"، كتعبير عن حالة الصدام والتأزم بين القطبين منذ الحرب العالمية الثانية حتى تفكك الاتحاد السوفييتي، وظهرت أطروحة "نهاية التاريخ" عند "فرانسيس فوكوياما" مبشّرة بالديمقراطية الليبرالية كشكل غالب على الأنظمة حول العالم مع نهاية الحرب الباردة، ثم جاءت أطروحة "صامويل هنتجنتون" حول "صراع الحضارات"، كرد مباشر عليها، لتنذر بنمط جديد من الصراع،تحركه الاختلافات الثقافية، والدينية، بدل النزاع القديم بين الأيديولوجيا الرأسمالية والشيوعية، وهو نزاع الغرب مع حضارات محتملة هي الحضارة: الإسلامية، والصينية، إذ اعتبر الشرق، وفي القلب منه العالم الإسلامي مصدر تهديد للغرب ومصالحه، مما أعاد جدل العلاقة بين الغرب والإسلام إلى نقطة البداية، وأثارت السؤال من جديد: هل العلاقة بين الغرب والإسلام علاقة صراع أم حوار حضاري (2).

ولم تخل الساحة المصرية من النقاشات حول هذه المسألة؛ فمنذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، حيث كان توجّه معظم المفكرين المصريين، نحو الغرب، وكانوا يرون في الاتجاه غرباً طريقاً لنهضة وتقدّم مصر، وخروجها من حالة التخلف؛ فـ" طه حسين" يرى ضرورة ربط مصر بالغرب من خلال حوض البحر الأبيض المتوسط، وأنّ كلمة "الخديوي إسماعيل" حول أنّ مصر ينبغي أن تكون قطعة من أوروبا؛ هي هدف ينبغي أن نسعى إليه، وكان" سلامة موسى"، يرى أنّ علاقتنا بأوروبا ينبغي أن تتوطد إذا أردنا أن ننهض، وتطرف حتى دعا إلى كتابة اللغة العربية بالحروف اللاتينية، وأن نكتب من اليسار إلى اليمين كما يكتبون، وكان يقول: "أنا مؤمن بالغرب كافر بالشرق" (3).

بيد أنه عندما بزغت الصين وبلاد جنوب شرق آسيا كقوى اقتصادية جديدة في العالم، بدأت المراجعات في الربع الأخير من القرن العشرين لطبيعة العلاقة مع الغرب الاستعماري ؛ وفي إطار هذه المراجعات؛ كانت دعوة "بطرس غالي"- (1922 - 2016) إلى ضرورة اتجاه مصر إلى الجنوب والعمق الإفريقي، وكانت دعوة "أنور عبد الملك" - (1924- 2012) إلى ضرورة الاتجاه شرقاً نحو الصين واليابان ودول الشرق الناهضة، وذلك في إطار التوجّه نحو تفكيك المركزية الأوروبية وعلاقة الشرق الأوسط بها (2).

2-التعريف بالمؤلف:

ينتمي الأستاذ الدكتور "أنور عبد الملك" إلى جيل من المثقفين العرب الذين قدموا مساهمات بالغة الأهمية في قراءتهم خطاب النهضة . وقد تميز مع قلة من هؤلاء، في إعطاء هذه القراءة وَجْهًا ً معرفياً برزت بعض ملامحه من خلال ميلها الواضح إلى إعادة قراءة التاريخ للفكر العربي والبحث فيه عن الديناميات الدافعة إلي التقدم والأسباب المعيقة له (4).

لذلك يعدّ المفكّر المصري "أنور عبد الملك"، أحد أبرز المفكّرين المعاصرين، الذين لم تنل اجتهاداتهم وإنجازاتهم الاهتمام الذي يليق بمنجزه الفكري، فقد عاش معظم حياته مغترباً في باريس (5)، حيث ظل الرجل للاتجاه شرقا باعتبار أن الشرق سيكون المركز الجديد للقوة والنفوذ والتأثير. وها هي توقعاته تصير حقيقة، لكن ريح الشرق، التي كانت عنوان أحد مؤلفاته الشهيرة، تحمل هذه الأيام انبعاثا لروح قومية متطرفة يمكن أن تقود لمخاطر قد تفوق الحرب الباردة بكثير (6).

كما يعد من مفكرينا العظام الذين أسسوا لوجهة نظر فكرية، حاولت استرجاع البعد الحضاري لمشروع النهضة العربية، عبر إعادة صياغة بعض المفاهيم التي لم تكن متداولة، وبخاصة في أوساط دعاة الحداثة والتنوير ؛ مثل الخصوصية، والأصالة، والاستمرارية التاريخية، والنهضة الحضارية (7).

يتناول أنور عبد الملك هذه القضايا بلغة سوسيولوجية واضحة، بعضها ضمن رؤية فكرية وحضارية تبلورت ونضجت على مدى سنوات، إلي أن طفقت تتمحور في كتاباته الأخيرة حول مسألة النهوض الحضاري الشامل . وعلى هذا الأساس، فهو يعتبر أن إشكالية حركة التحرر في الوطن العربي ليست إشكالية الانتقال من مرحلة الاحتلال والتبعية والرجعية إلى مرحلة الاستقلال والتحرر والثورة الاجتماعية، وإنما عى وجه الدقيق، الانتقال من التدهور الحضاري إلى النهضة الحضارية (8).

أمضى الدكتور "أنور عبد الملك" حياته مخلصاً للتجربة الناصرية، مُعتزاً بها وبقيمها وبما قدَّمته، ورغم أنه سُجن في معتقلات الرئيس "جمال عبد الناصر"، ظلَّ- ككثير من طلائع الفكر والعمل والمنخرطين في اليسار المصري، مثل "شهدي عطية الشافعي" و"صنع الله إبراهيم" و"سعد زهران" و"محمد يوسف الجندي".. وغيرهم- مُؤمِناً بتجربته مخلصاً لها، وهذا نادراً ما يتكرر في سِير العمل الوطني، كان مدركاً المغزى التاريخي للتجربة الناصرية التي أدخلت مفهوم الاشتراكية العلمية إلى صلب الحركة الوطنية، وركَّزَت على السيادة والاستقلال الوطني العربي، وأرست حدود السياسة الخارجية العربية وأوجدت صيغة التحالف الموضوعي مع الدول الاشتراكية على أساس شعار (نصادق من يصادقنا ونعادي من يعادينا) كما تجلت في مجموعة "عدم الانحياز" التي كانت مصر في طليعة قياداتها (9).

ولد أنور عبد الملك في القاهرة في 23 أكتوبر 1924 .. والده الذي قاد منظمة اليد السوداء، التي اعتبرت بمثابة التنظيم السري لحزب الوفد المصري خلال ثورة 1919، لم يتوقف عن تعليمه كل شيء؛ التاريخ والجغرافيا، والمعارك الكبرى، واللغات. وحين رحل الأب عندما كان "أنور" الصغير قد تجاوز ثماني سنوات، حلّ مكانه عمه "فؤاد" مؤسس جمعية الفنون الجميلة، اصطحب الصغير إلى المتاحف والمسارح والأوبرا. باختصار، فتح عينيه على الفن والفلسفة والخيال. شاهد نجيب الريحاني، واستمع إلى أم كلثوم، وأغرم بالموسيقى الكلاسيكية (10).

ثم انخرط الرجل في صفوف الحركة الوطنية لمُقاومة الاحتلال الإنجليزي، وهو في المدرسة الثانوية، ثم تدرج أيديولوجياً خلال تعليمه الجامعي، فانضم للحركة الماركسية، وتزامن ذلك مع قيام ثورة يوليو بقيادة "جمال عبد الناصر" والضبّاط الأحرار، وأسقطت تلك الثورة النظام الملكي، وطبقتي كبار مُلاك الأراضي، الذين أطلق عليهم مجازياً "الإقطاعيين"، وكذلك "كبار الرأسماليين"؛ كما قاومت تلك الثورة كل من اختلف مع سياساتها أو أفكارها. من ذلك أنها أعدمت بعض القيادات العُمالية في كفر الدوّار، وبعض القيادات الإخوانية في القاهرة، كما حاكمت وسجنت كثيراً من قيادات العهد الملكي، ومن الماركسيين (11).

وفي هذا السياق تمت مُلاحقة الشاب الماركسي "أنور عبد الملك". إلا أن رفاقه نجحوا في تهريبه إلى خارج البلاد، وبمُساعدة الحزب الشيوعي الإيطالي ثم الحزب الشيوعي الفرنسي، عاش بين روما وباريس، وفى هذه الأخيرة، قرر أنور عبد الملك استكمال دراساته العُليا في جامعة السوربون.. ومع المد القومي العربي وسّع أنور عبد الملك من مُحيط اهتماماته الأكاديمية والسياسية لتتسع للعالمين العربي والثالث. كان ذلك بتأثير الأعداد الكبيرة من الطلبة العرب في باريس، ومن أمريكا اللاتينية، وانتفاضات الطلبة في أوروبا وأمريكا ضد الحرب في الجزائر ثم في فيتنام، وأصبح منظور أنور عبد الملك، وزميله المصري الآخر في باريس، الاقتصادي سمير أمين، منظوراً كونياً. ولهما معاً، وآخرين من مُفكري أمريكا اللاتينية يعود الفضل فى بلورة "نظرية التبعية"- Dependency Theory، التي سادت في أدبيات التنمية خلال عقدي الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي (12).

وضمن ذلك كانت الدعوة التي قادها أنور عبد الملك لحوار "الجنوب – الجنوب"، وحوار "الجنوب – الشرق"، وهي دعوة في روحها لتحرير أبناء المُستعمرات السابقة لاستكمال تحررهم السياسي بتحرر اقتصادي وثقافي، وذلك ليس فقط بالتضامن المعنوي، لكن بعلاقات تبادل تجاري وتعليمي. وأخذ "أنور عبد الملك" على عاتقه أن يُعيد اكتساب الإمكانيات الهائلة للشرق، ممثلاً باليابان، والصين، والهند، ولم يكتب الدعوة النظرية والإعلانية، لكن عمل واستجاب له مُثقفون آخرون بإنشاء جامعة للأمم المُتحدة، مقرها طوكيو، وكان هو من أبرز من قاموا بالتدريس فيها، وتبعه مُفكرون وأكاديميون مصريون آخرون، مثل "سمير أمين"، و"حسن حنفي"، و"صلاح عيسى" (13).

ورغم أن رؤية "أنور عبد الملك"، التي تضمنها، على الأخص، كتاباه "ريح الشرق" و"تغيير العالم" لا تقتصر على العالم العربي، بل تمتد إلى العالم الثالث بأسره، فإن العرب يقعون في قلبها، ليس من منطلق أنهم يشكلون جزءا من العالم الثالث، التي أراد أن ينتصر لها عبد الملك فحسب، بل لأن الحال العربي كان حاضرا في كل ما وجهه من أفكار وقدمه من تحليلات للأوضاع العالمية، في التاريخي والآني، على حد سواء، الأمر الذي جعله ينظر للعالم الثالث في سياقه الدولي المتسع بعين عربية، أو ببصيرة مفكر مهموم بمشكلات العرب (14).

وقد ترك "أنور عبد الملك" ترسانة معرفية من الكتب والأطروحات المعرفية المستقبلية، مكّنته فعلاً من أن يظهر كاتباً مؤسِّساً، موسوعياً وصاحب مشروع حضاري متكامل، منها على سبيل المثال لا الحصر: "دراسات في الثقافة الوطنية"، "الفكر العربي في معركة النهضة"، "في أصول المسألة الحضارية"، "من أجل استراتيجية حضارية"، "الإبداع والمشروع الحضاري"، "تغيير العالم"، "مصر مجتمع يبنيه العسكريون"، "الجيش والحركة الوطنية"، "ريح الشرق"، "الشارع المصري والفكر"، "الطريق إلى مصر الجديدة"...إلخ. ومن يقرأ هذه الكتب وغيرها لأنور عبد الملك يلحظ أن الرجل قد تجاوز فيها المصرية والعربية إلى العالمية، محققاً بذلك رؤية شافية من المأزق السياسي والحضاري الذي "نتخبط فيه كعرب مأسورين إلى الدائرة الاستعمارية الغربية منذ نهاية الإمبراطورية العثمانية وحتى اليوم". وهو لأجل ذلك دعا ومنذ مطالع السبعينيّات من القرن الفائت للالتفات إلى الدائرة الحضارية الشرقية الكبرى مختزلةً في الصين واليابان لنتعلّم منهما شقّ طريقٍ نهضوية استقلالية عن الغرب الذي ما انفك يكبّلنا في كلّ مرحلة تاريخية حديثة نتصوّر واهمين خلالها أننا حققنا فيها شيئاً من السيادية والاستقلال (15).

كما دعا عبد الملك إلى الاستفادة ممّا سمّاه "الدوائر الجيو-ثقافية" متمثلةً بـ "منظمة شنغهاي للتعاون" و"منظمة آسيان لأمم جنوب شرق آسيا"، ثم لاحقاً "منظمة دول أميركا اللاتينية" والتجمعات الاقتصادية الصلبة مثل ميركوسور، وكذلك "الاتحاد الأوروبي" نفسه؛ وذلك كله لمواجهة المشروعات والأطماع الكبرى للولايات المتّحدة وإسرائيل في الشرق الأوسط؛ فبغير قراءة تجربة الشرق البعيد الناجحة، لا يمكن للعرب والمسلمين أن يحققوا نهضة حقيقية ومتوازنة في منطقتهم ذات البعد الاستراتيجي الخطير كونها تشكل قلب العالم ومصدر ثرواته (16)... وللحديث بقية.

 

الأستاذ الدكتور / محمود محمد علي

رئيس قسم الفلسفة وعضو مركز دراسات المستقبل بجامعة أسيوط .

................

1- شوقي جلال: الحضارة المصرية (( صراع الاسطورة والتاريخ )) دار المعارف، القاهرة، 1997، ص 18-19.

2- محمد بعيطيش: حوار الحضارات ونقد الاستشراق عند أنور عبد الملك، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة مولاي الطاهر سعيدة، الجزائر، 2017، ص 54.

3- د. أحمد سالم: لماذا دعا أنور عبدالملك إلى الاتجاه نحو الشرق؟.. حفريات، نشر بتاريخ 03/09/2019.

4- عبد الغني عماد: الفكر الماركسي العربي والتحليل الاجتماعي - الثقافي: أنور عبد الملك نموذجاً، الثقافة العربية في القرن العشرين، مركز دراسات الوحدة العربية، المجلد الأول، 2018، ص 263.

5- د. أحمد سالم: المرجع نفسه.

6- المرجع نفسه.

7- عبد الغني عماد: المرجع نفسه، ص 263.

8- المرجع نفسه، والصفحة نفسها.

9- حمزة قناوي: مشروع النهضة المصري في فكر أنور عبد الملك، الجمعة 02-08-2019 23:10.

10-عبدالله عبدالسلام: ريح الشرق الخطرة!.. مقال بجريدة الأهرام .. نشر يوم الأثنين 7 من رمضان 1442 هــ 19 أبريل 2021 السنة 145 العدد 49077.

11- سعد الدين إبراهيم: رياح الشرق من أنور عبدالملك إلى محمد مُرسى.. مقال بجريدة المصري اليوم.. الجمعة 31-08-2012 22:10

12-المرجع نفسه.

13- المرجع نفسه.

14- د. عمار علي حسن: "أنور عبد الملك".. ريح الشرق وتغيير العالم ونقد "المركزية .. 24 الأوروبية".. مقال منشور ضمن جريدة 24 الالكترونية ..السبت 12 مارس 2016 / 17:54د.

15- أحمد فرحات: أنور عبد الملك: نهضة في رجل، أفق، مؤسسة الفكر العربي،

https://arabthought.org/ar/researchcenter/ofoqelectronic-article-details?id=315&urlTitle

16- المرجع نفسه.

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم