صحيفة المثقف

حشاني زغيدي: الإحساس بمشاعر الآخرين

حشاني زغيديالعجيب في خلق الانسان أنه مزود بأحاسيس ومشاعر، فالإنسان ليس آلة صماء، تدار بجهاز تحكم، فهو يحس ويشعر، يحب ويكره، يستمتع بالأشياء، يتقبل الشكر، يرفض الإهانة، يزن المواقف والمعاملات، يستشعر المواقف الإيجابية، يستشعر المواقف السلبية، يسجل الإهانات ولا ينساها، يقدر المواقف التي تحمل الذوق والجمال يثمنها، وهذا هو سر تفضيل الإنسان عن الكائنات الأخرى

يقول الداعية عباس السيسي صاحب كتاب "الذوق سلوك الروح":

"الذوق هو الأخلاق حين ترتدي أجمل ثيابها وهو عطر الأخلاق ونفحاتها.. والذوق هو قمة الأخلاق حين تتألق في إنسان وتتجلى في أحاديثه وتعاملاته التي تنطوي على أجمل المشاعر وأنبل العواطف، فالذوق حركة من لطائف الروح وصفاء القلب.. والذوق هو سلوك الروح المهذبة ذات الأخلاق المرضية".

فالمرء السوي العاقل المتزن يرفض الاستعباد، يرفض حياة الرق والامتهان، بل الانسان الحر يشري حريته ببذل الغالي والنفيس، ليتحرر من قيد الأسر، فترى الأحرار يعيشون متعة الحرية ولو كانوا مقيدين بالقيود، لأن المتعة تدركها الروح المتعالية، ولهذا كانت قيمة الحرية لا يختلف في تقديرها اثنان، ولمشاعر وأحاسيس الأخرين أهمية كبيرة في بعث السعادة في النفوس، فمن الظلم القفز على مشاعر الأخرين سواء بالكلمة أو المواقف الجارحة، وقد ذكر القرآن الكريم نموذجا للشخصية المتعالية المستكبرة، شخصية متسلطة، امتهنت كرامة الانسان في حقوقه الأساسية، كحق الحياة، وحق الوجود واثبات الذات، وحق احترام الخصوصية، وحق الاختيار، وكل هذه حقوق مكتسبة وشخصية، لا يحق لأي كان تجاوزها وانتزاعها، لذلك كان فرعون مصر نموذجا للإنسان الغير سوي يكفي أن نترك القرآن الكريم يروي لنا قصته المثيرة، قصة تصور نموذج الطغيان والتعالي على الخلق، تصور صور الاستخفاف بالعقول والمشاعر .

يقول الله تعلى:

{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا المَلأُ مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَل لِّي صَرْحاً لَّعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكَاذِبِينَ} [القصص:38].

يقول الله تعالى أيضا في لوحة أخرى:

{ وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلاَ تُبْصِرُونَ. أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ} [الزخرف:51-52].

وحين نتأمل صورة أخرى مشرقة، نتأمل سنة النبي - صلى الله عليه وسلم - نجد الاهتمام بمشاعر بالضعفاء اهتماماً بالغاً، يعطيهم حقهم في رعاية خاصة، وتأمل معي هذه القصة، حين انشغل يوما عن واحد من الصحابة بدافع دعوة غيره من صناديد القريشين وأعرض عن الصحابي، لم ينله حقه من الاهتمام، فكان العتاب من الله - عز وجل - فقد كان عبد الله بن أم مكتوم - رجلا كفيفا لا يبصر جاء يطلب من رسول الله العلم والتوجيه، لكن رسولنا كان يدعو صناديد قريش: عتبه وشيبة ابنا ربيعة وأبو جهل والعباس بن عبد المطلب وأمية بن خلف والوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام، رغبة في أن يسلم بإسلامهم الكثير، فقال: يا رسول الله أقرئني وعلمني مما علمك الله تعالى، وكرر ذلك ولم يعلم انشغال الرسول بالقوم، فكره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قطعه لكلامه وأظهر عابس الوجه وأعرض عنه، فكان وحي الله عاجلا لرسول الله، يصحح الوضع يقول الله تعالى: «عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى»

فكان رسول الله - صلى الله عليه سلم - يرفع قدر أم مكتوم حين يراه، ويقول له إذا رآه: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربي»، ويسأله «هل لك من حاجة؟!».

تعلن هذه الشواهد أن نتعلم احترام مشاعر الغير وعدم استغلال ضعفهم أو حاجتهم أو فقرهم فنقدم لهم كيل الإهانات بقصد أو دون قصد، فجرح المشاعر لا يداوى، فكم من فقير آذيناه، وكم من يتيم كسرنا مشاعره، وكم مبتلى فصحناه بتعالمنا، وكم من مسن ألمت به عوامل الزمن فضحنا شيبته، وكم من امرأة محتاجة فضحنا سترها حين قصرنا في خدمتها.

ليتنا نعود لعظمة وتميز منظومة الحقوق في ديننا، شريعة قررت حفظ كرامة الانسان، حفظت حقوق اليتامى والفقراء وذوي الاحتياجات خاصة وغيرهم؛ مما يؤكد أن الإسلام دين يبنى على احترام آدمية الإنسان، يرعى العلاقات على أسس الرحمة والمحبة والمودة، يجمع الجميع في بناء واحد، صمامه التراحم والتكافل بين المجتمع الواحد، يعيش الجميع على الاحترام المتبادل وينعم الجميع بالحياة السعيدة،، حياة تراعي فيها حقوق الضعيف قبل القوي، وترعى فيها حياة الصغير قبل الكبير، والمريض قبل الصحيح، الجميع يحيا في رحمة الله - عز وجل - التي وسعت كل شيء، قال تعالى: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون}

 

الأستاذ حشاني زغيدي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم