صحيفة المثقف

علي المؤمن: تجديد منظومة المرجعية الشيعية وضرورة مجلس أهل الخبرة

علي المؤمنظلت دعوات تجديد بنية قيادة النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومؤسسته الدينية تتكرر خلال القرن الأخير، ولا يزال يقودها علماء دين ومفكرون وباحثون يدركون حجم الحاجة إلى هذا العمل؛ لتكون بنى النظام وهيكليته وأجهزته وأنساقه، منسجمة مع اتساع مساحات النظام وصلاحيات قيادته المرجعية وحرية حركة مؤسسته الدينية. وبالطبع لا تدخل في هذا الإطار بعض الدعوات الانقلابية التي تغطي نفسها بشعارات التجديد والإصلاح؛ لكنها تعمل على ضرب أُسس النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وسلطته، ومؤسسته الدينية. وبالتالي؛ فإنّ ما يعنينا هنا الدعوات الداخلية الإصلاحية التي تستند إلى الأُسس والثوابت والمبادئ، وتستهدف المتغيرات والهياكل. ويرى هؤلاء بأنّ مبادئ الإسلام ومذهب آل البيت تضع ـ مجتمعة ـ في عنق المسلم واجب الدعوة إلى إصلاح المتغيرات وتجديد القراءات بالحكمة والموعظة الحسنة، وبما يعزز قوة النظام الاجتماعي الديني الشيعي وقيادته ومؤسسته الدينية وفاعليتها.

إنّ العوامل الجديدة التي تدخل ـ بمرور الزمن ـ في بناء الحياة، والتغيرات العامة، ولا سيما الاجتماعية والسياسية والعلمية؛ تستتبع ـ عادة ـ تحولات في المفاهيم والمصطلحات والبنى التقليدية المتحركة، لتتناسب مديات الحاجة إلى هكذا تغيير وتجديد، طردياً مع حجم التحوّل والتغيّر، مع الأخذ بنظر الاعتبار ثبات المفاهيم والبنى التي تعبّر عن هوية الأُمّة وأصالة نظامها الديني.

وربما بقيت بعض المفاهيم والبنى بمنأى عن هذا التحول، بفرض عوامل معيّنة، ربما يكون أحدها حالة القدسية الموروثة التي تتمتع بها. إلّا أنّ التفاصيل التي استنبطت في زمن معيّن، وفي ظروف معيّنة، أو رعاية لمصلحة موضوعية؛ لا يعني أنّها مقدسة، ولا يمكن مناقشة مضامينها ونظمها، والمساس بها، وعدم إخضاعها للحوار العلمي الجاد. وإذا كانت مفاهيم «المرجعية الدينية» و«نيابة الإمام المعصوم» و«ولاية الفقيه» و«الاجتهاد» و«التقليد» و«الرجوع إلى رواة الأحاديث» و«الاحتكام إلى الفقيه» في المذهب الشيعي من ثوابت عصر الغيبة (غيبة الإمام الثاني عشر)، التي تقود إليها الأدلة الشرعية والعقلية؛ فإنّ هياكلها وأنساقها وتفاصيلها التقليدية الموروثة تظل دائماً من المتغيرات، والتي تفرض متطلبات الواقع والمستقبل ضرورة إعادة النظر فيها، وتعديلها وتطويرها.

والإحساس بهذه الضرورة حمل الكثير من الفقهاء المتأخرين والباحثبن المتخصصين، على إضافة مصطلحات جديدة لتوضيح مدلول المرجعية المعاصرة، ومحاولة إعادة تنظيم بنائها، ومنها «المرجعية الرشيدة» و«المرجعية الموضوعية» و«المرجعية القائدة» و«المرجعية المؤسسة». وهذا يعني أنّ منظومة المرجعية والمؤسسة الدينية، فيها كثير من المرونة والقابلية على المراجعة والتجديد والتحديث في آليات عملها.

والمقاربة التي نحن بصددها هي تصورات عامة في الطريق، أمّا الحوار العلمي التخصصي حول شكل المشروع وسبل تنفيذه؛ فهو شأن المعنيين من الفقهاء المجددين وأهل الخبرة. ويتطابق مستوى نضوج المشروع مع حجم وعي المتخصصين بمتطلبات العصر، والتي ينبغي أن لا تؤثر فيه الأجواء الانفعالية، والميول النفسية المحكومة بظرف معيّن، أو مصلحة خاصة؛ ليكون القرار بهذا الشأن على مستوى المصلحة الإسلامية العليا.

إنّ من أهم القضايا التي تطرح خلال الحديث عن بنية «المرجعية الدينية» ومؤسساتها:

1ـ مأسسة المنظومة المرجعية ومتغيرات حركتها الخاصة والعامة، وفقاً للحاجة ومتطلبات الحاضر والمستقبل، بما في ذلك آليات تحديد شروط الاجتهاد الجديد، وكيفية الكشف عن مصاديقه وشخوصه، وفرز مراجع التقليد، واختيار المرجع الأعلى.

2ـ تقنين سياقات علاقة المرجعية العليا بولاية الفقيه ومرجعيات التقليد والفقهاء في البلد نفسه والبلدان الأُخر، في إطار منظومة مرجعية واحدة.

3ـ تجديد هيكلية الحوزة العلمية ومناهجها الدراسية ومراحلها.

4ـ تنظيم الحقوق الشرعية (كالزكاة والخمس وغيرهما) والولاية عليها وحق التصرف فيها.

وقد تناولنا في الفصلين السابقين كيفية نشوء المصطلحات والمفاهيم والبنى المتغيرة في إطار النظام الاجتماعي الديني الشيعي ومرجعيته ومؤسسته الدينية، وتبين أنّ كل المفاهيم والمصطلحات والهيكليات والتطبيقات التدبيرية التي تستجيب لمتطلبات الواقع وضغوطاته، هي من المباحات؛ بل من اللوازم والضروريات العقلائية، طالما لا تتعارض مع نص شرعي ولا يعيقها كابح شرعي، ولطالما تحقق مقاصد حفظ الدين والمذهب وأتباعه، وتطوير أدوات حركتهم. وأمثلة ذلك: استحداث مصطلحات ومفاهيم ومواقع كالمرجع الأعلم أو المرجع الأعلى أو المرجع المتصدّي أو سيد الطائفة أو زعيم الحوزة؛ إنّما هي إجراءات تدبيرية تنظيمية تنطلق من إشكالية وحاجة حقيقية، تتمثل في كون جميع الفقهاء حججاً على الناس، في زمن واحد ومكان واحد، في المجالات التي حددتها أحاديث الأئمة. وتطبيقات هذه الحجية تعني ولاية لجميع الفقهاء على إدارة المجتمع الشيعي دينياً وجزائياً واجتماعياً في الزمان والمكان نفسيهما. من هنا، سيكون وضع نظم وحدود من شأنها تأكيد الحيلولة دون حصول التعارض والتزاحم اللذين يؤديان إلى تشتت كلمة الأُمّة وفرقتها؛ ستکون ضرورة عقلائية لا بد منها في كل زمن.

وبما أنّ أكثر هذه المفردات يمثّل عناصر تدبيرية مستجدة باتت الحاجة إليها تبرز بمرور الزمان، ولم يعالجها الفقه من قبل؛ فإنّها بحاجة إلى حركة اجتهادية تجديدية تدبيرية واسعة النطاق، لتبيين تفاصيل النظرية وأساليب تنفيذها. وهنا تتفاعل العملية الاجتهادية مع حركة الواقع، على اعتبار أن تلك التفاصيل خاضعة للتطور، حسب متطلبات العصر.

مجلس أهل الخبرة لاختيار المرجع الأعلى وإدارة الحوزة

إنّ افتقاد النظام الاجتماعي الديني الشيعي وقيادته المرجعية إلى مجلس شورى حقيقية لأهل الخبرة، ومؤسساتٍ للحكماء والخبراء والاختصاصيين، يقوم برسم الستراتيجيات الموحدة، ويضبط حركة النظام، ويقدم المشورة لكل مكونات النظام وتفرعاته الدينية والاجتماعية والسياسية والمالية، عبر قواعد نظرية وأدوات إشراف عملية، هذا الافتقاد ظل في بعض ساحات العمل أحد أهم أسباب عدم وضوح المشروع العام وانعدام الستراتيجية الموحدة ونفوذ القرار القيادي ووحدته، وانهيار الواقع الشيعي، ومصادرة كفاحه وإنجازاته من قبل الآخر الطائفي والآخر الإيديولوجي. وليست هذه الإشكالية وليدة اليوم؛ بل هي قديمة قِدم النظام الاجتماعي الديني الشيعي، وقد كانت في كثير من المفاصل التاريخية تتسبب في تجاذبات تعيق الوحدة المجتمعية. وكلما كان الواقع السياسي رخواً ومتحركاً؛ كان التفرق والشد المجتمعي يبرز بشكل أكبر.

ولا شك أنّ الأعراف في الحوزات العلمية تنفع ـ غالباً ـ في تنظيم موضوع تعدد المرجعيات ووحدة القرار العام، والمتمثل بتنازل باقي المراجع عن ولاياتهم وصلاحياتهم ووظائفهم في مجال الشأن العام لمصلحة المرجع المتصدّي، سواء تمثل ذلك في المرجعية العليا كما في النجف الأشرف، أو ولاية الفقيه في إيران، وهو الحاصل الآن حيال مرجعية السيد علي السيستاني وولاية السيد علي الخامنئي. ولكن هذا العرف لا يطبَّق دائماً، ولا يلتزم به بعض المراجع وعلماء الدين أحياناً، وهو ما يؤدي إلى زعزعة النظام العام وتشتت قراره. وهو ما ظلت تستغله الأنظمة العراقية السابقة، من أجل تمزيق الواقع الشيعي العراقي والإقليمي، كما لا تزال تستغله الأجهزة المخابراتية والسياسية للأنظمة الطائفية والاستعمارية المعادية. وبالتالي؛ سيكون لزاماً مأسسة المنظومة المرجعية للحيلولة دون حصول هذا اللون من الشقاق المجتمعي.

والعرف الحوزوي، وإن كان شفوياً وتقليدياً وينبغي تطويره، إلّا أنّه مفيد وضروري غالباً؛ لأنّه يمثل صمام الأمان في مواجهة حالات الاختراق والانفلات والمزاعم المستمرة بكل أشكالها وعناوينها، وهو الذي حفظ الكيانية الشيعية طوال ١٢٠٠ سنة. إذ لا توجد غير العرف الضاغط هذا أية سلطة أو مؤسسة أو جهة تمنع ادّعاء أيّ شخص لدرجة الاجتهاد أو المرجعية، ثم يخرج على وسائل الإعلام بصفة «المرجع الشيعي» ليشتم الحوزة والسيستاني وإيران. وبسبب عدم تطبيق المعايير العرفية أحياناً، ووجود مخططات معادية للمرجعية والحوزة أحياناً أُخر؛ فقد كثر مدّعو الاجتهاد في العراق بعد سقوط النظام البعثي في العام ٢٠٠٣.

إنّ دوافع ذلك الادّعاء ـ أحياناً ـ ذاتية، وتتمثل في الغرور، والنفس الأمّارة بالسوء، والطموح غير المشروع في رکوب الموجة للتعيّش عن هذا الطريق الحافل بالمال والمقام. ثم يأتي التدخل الخارجي ليحوِّل هذا الغرور والوهم والطموح إلى فتنة داخلية. ولا يمكن لليد الخارجية أن تتدخل لولا وجود أرضية داخلية. ولو كان هناك ورع وتقوى وعدالة تكبح جماح الغرور وطغيان الذات لدى بعض المدّعين؛ لما كانت هناك حاجة لضوابط ضاغطة لتحديد آليات فرز المجتهد والفقيه والمرجع والأعلم والأكفأ؛ لأنّ الميدان الديني المحض ينبغي أن ينطوي على كوابح ذاتية من الورع والتقوى والعدالة، وليس كالميدان السياسي والاقتصادي.

ومن هذه الآليات التي يمكن استحداثها؛ مؤسسة مرجعية استشارية عليا تحت اسم «مجلس الحكماء» أو «مجلس أهل الخبرة» أو «مجلس أهل الحل والعقد» أو «مجلس كبار العلماء»، وهم المجتهدون العدول المقبولون شعبياً، والمتفق على اجتهادهم وعدالتهم وفق معايير مؤسسية يتم تثبيتها من لجان تخصصية، ويقرها المرجع الأعلى والمراجع الآخرون؛ لتكون حجة على الجميع. وتناط بهذا المجلس خمس مهام:

1ـ اختيار المراجع الحائزين على شروط التقليد، وطرحهم للأُمّة؛ لكي يكون تقليدهم مبرءاً للذمة لمن يريد تقليد أحدهم.

2ـ اختيار المرجع الأعلى الجديد من بين المراجع الحائزين على شروط التقليد، بعد رحيل المرجع الأعلى السابق، أو فقدانه أحد شروط التقليد، ولا سيما ما يرتبط بالأعلمية أو العدالة أو كفاءة إدارة الشأن العام.

3ـ مراقبة المراجع، ولا سيما المرجع الأعلى بخصوص محافظتهم على شروط مرجعية التقليد ومرجعية التصدّي.

4ـ تقديم المشورة للمرجع الأعلى في مختلف شؤون المرجعية، لاسيما ما يرتبط بشؤون الحوزة والشأن العلمي والشأن المالي والشأن العام وغيرها.

5ـ التخطيط ورسم الستراتيجيات للنظام الاجتماعي الديني الشيعي، ومختلف فروعه ومكوناته، بالتعاون مع لجان من الاختصاصيين والخبراء والأكاديميين من غير علماء الدين.

ومن أولويات عمل مجلس أهل الخبرة وضع ضوابط دقيقة في مجال الكشف عن ملكات الاجتهاد والعدالة والأعلمية والكفاءة والمقبولية العامة، ثم القيام بتطبيقها. أي أنّ دور المجلس كاشف أولاً، وترجيحي ثانياً. وقيام مجلس أهل الخبرة بترشيح مراجع التقليد واختيار المرجع الأعلى المتصدّي للشأن العام هو ـ أساساً ـ واجب أهل الخبرة كما توضحها مسائل التقليد وسياقات معرفة المكلف بمن يرجع إليه بالتقليد. وأهل الخبرة يرجحون ويوجهون الاختيار بحسب قناعاتهم، ولكن وفق معايير ثابتة مقننة. والهدف هو توحيد الموقف الشيعي العام وعدم السماح للخطوط والجماعات الخاصة بالتمرد على هذا الموقف وتمزيق الواقع الشيعي.

وفي الوقت نفسه يبقى المجلس يراقب أداء المرجعيات، ولا سيما المرجع الأعلى، من ناحية القدرة المستمرة على الاستنباط، والعدالة والتقوى، والكفاءة القيادية، وكذلك عمل باقي مكونات وتفرعات النظام الاجتماعي الشيعي. ومن المهم الاستعانة بخبراء من غير علماء الدين في إطار لجان ومراكز دراسات تخصصية تابعة لمجلس أهل الخبرة.

وقد يتصور بعض المهتمين أنّ فقدان أحد شروط المرجعية والولاية يرتبط بتقدم المرجع في السن. والحال أنّ التقدم في السن لا يؤدي ـ غالباً ـ إلى عدم الأهلية وعدم القدرة على تأدية الواجبات المرجعية؛ إلّا إذا اقترن بفقدان بعض الحواس التي تعيق أداء الوظيفة، كفقدان الذاكرة أو فقدان السمع والخرس أو القدرة على الحركة مثلاً. وقد يحدث فقدان أحد الشروط في سن مبكر، ومن بينها شرطي العدالة والكفاءة مثلاً، وربما يبقى المرجع محتفظاً بكل الشروط حتى لحظة وفاته.

وبالتالي؛ فإنّ ملاك الولاية الممنوحة للفقيه المتصدّي (المرجع الأعلى)، والتي يكشف عنها مجلس أهل الخبرة، ويرجِّح من يمتلكها بدرجات أكبر على غيره؛ هي أربعة شروط أساسية لا تنفصل عن بعضها:

1- الاجتهاد المطلق.

2- العدالة والتقوى والورع.

3- الكفاءة القيادية والوعي بالشأن العام.

4- المقبولية العامة:

وحينها يتم ضمان عدم حصول تعارض وتزاحم بين الفقهاء، واقتصار فعلية ولاية الحسبة وحفظ النظام على المرجع الأعلى المتصدّي للشأن العام، وضبط حركة المال الشرعي، وبلورة القرارات المصيرية ذات العلاقة بإدارة الحوزة العلمية ومؤسساتها، وذات العلاقة بالشأن العام وبالدولة. وحينها كذلك يكون صدور الحكم الشرعي ذو العلاقة بالشأن العام منحصراً بالمرجع الأعلى أو الولي الفقيه. والمقصود هنا الحكم الثانوي والولائي في الشأن العام، وليس الفتوى.

إنّ الأفكار التي تدور حول المرجعية، سواء المرجعية الرشيدة، أو المرجعية الموضوعية، أو المرجعية المؤسسة؛ ينبغي بلورتها في صيغة معيّنة تستبطن في نضجها تجربة المرجعية على طول التاريخ، وتراعي الواقع بكل تفاصيله. وهذا الجانب هو من القضايا الأساسية التي تواجه النظام الاجتماعي الديني الشيعي في الوقت الحاضر. فتلك الأفكار والنظريات لا يمكن جرّها بتفاصيلها إلى واقع التطبيق؛ لأنّ الكثير من المهام الموكلة ـ في هذه النظريات ـ إلى المرجعية هي مهام المرجع الحاكم أو المرجع المتصدّي، باستثناء المسائل التخصصية المرتبطة ـ مثلاً ـ بمناهج الدراسة في الحوزة العلمية.

 

د. علي المؤمن

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم