صحيفة المثقف

مهدي الصافي: العقد الاجتماعية وسبل التفكيك في بلادنا

مهدي الصافيالبيئة، الطبيعة الاجتماعية القبلية او العشائرية، الدين والطائفة، التراث والثقافة، الانتاج الفكري والادبي والابداع الفني، الاحداث والازمات والاوضاع الاقتصادية....الخ.

كلما نظرنا الى الماضي سواء بتصوراته الشخصية او العامة تتوارد الاحداث المهمة الى مقدمة قائمة الاستذكار او الاستعادة والاستحضار، ولعل اهم مراحلها هي فترات الدراسة الاولية، ثم تتصاعد وتزدحم شيئا فشيئا مع المراحل المتقدمة من النضج، لان فيها تداخل جانبي مؤثر سواء من قبل السلطة او المجتمع، لتظهر لنا بعد عقود على انها حزمة واسعة من العقد المصاحبة لعملية بناء شخصية الفرد او المجتمع...

كنا نرى العقد الاجتماعية في المدرسة على وجه وحركات وتصرفات المعلم، وكذلك في الشارع المليء بالمتناقضات غير المتكافئة احيانا، فتارة ترى للثقافة والاخلاق دورا كبيرا في ضبط منظومة القيم، وتارة اخرى تجد ان الشارع استولت عليه الاخلاقيات السوقية والانحطاط والانحراف والمبوقات الكثيرة، بفعل الظروف الاستثناىية التي مرت بها بلادنا (نظام شمولي متوحش، حروب وحصار اقتصادي، قروية المدن، الخ.)،

فترى زوايا ومسارات اجتماعية معقدة في البيوت والاسواق والعلاقات العامة،

لكن هل هذه الامور محددة بجغرافية وبيئة معينة، بالطبع لا فكل المجتمعات الانسانية قد تمر بظروف مشابهة وتنتج نفس الانهيارات الاجتماعية، الا انها تبقى داخل دائرة التأثر والطبيعة والنسب المتفاوتة، ففي الحضارة العلمانية الغربية هناك انحرافات اجتماعية كبيرة، على الرغم من ان الدول هناك تمثل بيئة الرفاهية الاجتماعية المتقدمة في العالم، ومع هذا لديها مشاكل وعقد اجتماعية فردية (وفئوية احيانا..كظهور الاحزاب اليمينية المتطرفة ، والجماعات العنصرية، والشذوذ والانحراف العقلي، الخ.

ليست الطبيعة الاجتماعية البدائية وليدة البناء الاسري العشائري فقط، انما البناء الاثني والطائفي يلعب دورا رئيسيا في زيادة التشوهات الثقافية الشعبية، التي يعد العنف والتشدد والحدة في التعامل اليومي بين الافراد احد دلالاتها الواضحة، اضافة الى العوامل والاسس المختلفة، التي يمكن حصرها بعدة نقاط مختصرة ، منها على سبيل المثال مايلي

اولا: عقدة النظام السياسي وطبيعة تعامله مع المجتمع

ثانيا: عقدة النمط والروتين الاداري المذل في التعامل المتبادل بين دوائر ومؤسسات الدولة من جهة وبين المواطنين، وهي اساليب متعمدة للاذلال

ثالثا: عقدة تعامل الاجهزة الامنية العنيف وغير الانساني في الشارع، وداخل اجهزة ومؤسسات الدولة الامنية مع المتهمين او المعتقلين

رابعا: عقدة التربية والتعليم وتعامل المعلمين والمدرسين مع التلاميذ او الطلبة بطريقة مزاجية فيها الكثير من الوقاحة والغلظة والعنف غير المبرر

 (كانت المدارس الاولية تعامل التلاميذ بقسوة ، وكأنها تستنسخ عصا شيخ الكتاتيب الذي كانت تصاحبه في تعليم الاولاد الصغارحفظ الايات القرانية، بل كان بعض المعلمين واساتذة طلبة الثانويات تصفع التلاميذ والطلاب على وجوههم، ولازالت صورة جريد النخل الاخضر، ثم تحولت في عهد البعث الى الكيبل او الماسورة السوداء الصلبة حاضرة في ذاكرة طلبة الاجيال السابقة)، وذلك يرجع الى اهمال الدولة والمجتمع لاهمية هذه الحقول والمجالات التربوية الرئيسية، التي منها وبها تصنع شخصية ونفسية وعلمية اجيال المستقبل

خامسا: عقدة اقتحام العادات والتقاليد والاعراف القروية او الريفية المدن، وغياب المساحة والمسافة الفاصلة بينهما، ففي العراق اصبح اهل المدن يتحاكمون عشائريا بدلا من الذهاب الى المحاكم، لضعف الدولة والسلطة القضائية الخ.

سادسا: عقدة احتقار واضطهاد المرأة، وتحجيم دورها الرئيسي في بناء وقيادة المجتمع، بل والتزاحم على المهن والاعمال والوظائف الخاصة بطبيعة المرأة وقدراتها، ففي الغرب اصبحت الوظائف الادارية العامة ان لم تكن مناصفة بين الرجل والمرأة، فهي اقرب الى مسألة تبادل الادوار والمواقع والاختصاصات، وفي معظم الاحيان تجد ان دور المرأة المدني متعلق ببناء وادارة بيت الدولة، والرجل في حقول الاشغال والاعمال الشاقة...

سابعا: عقدة الشارع المنفلت والتائه اخلاقيا وامنيا واداريا او حتى خدميا، فشوارع المدن الحديثة للعديد من دول العالم في القرن الحالي ، لم تعد عارا يلاحق من يتربى به، لان الدولة ومؤسساتها وجمعياتها الرسمية والخاصة تساهم بأنتشال من ترمي بهم الاقدار والظروف فيها، بينما لازالت العديد من شوارع المدن العربية مرتع للجريمة والانحراف وتعاطي المخدرات وممارسة الرذيلة والاغتصاب وارتكاب المخالفات والتجاوزات الاجتماعية المختلفة....

تتطلب عملية التشخيص والدراسة والتحليل لتفكيك هذه العقد المتوارثة المتزايدة بعد ثورات الربيع العربي؛جهود وطنية استثنائية، تشارك فيها الدول والفعاليات الثقافية والاجتماعية وحتى الدينية، لاعادة بناء منظومة قيمية عربية اسلامية معتدلة ومتزنة في بلداننا،

عبر التركيز على ايجاد الحلول التنموية الشاملة لحالة ومظاهر الفقر والبطالة في هذه الدول، وحل مشكلة العشوائيات، واعتماد اليات تربوية وثقافية واعلامية انسانية متطورة، يكون من اولوياتها تغيير الاساليب العقيمة المتبعة في تدمير شخصية النشئ او الاطفال والفرد عموما، والتي كانت معتمدة تربويا واجتماعيا على انها جزء من وسيلة صناعة الثقافة الابوية للاولاد (القادمة من ثقافة السيد والعبد)، ويمكننا حصر مجموعة مقترحات نعتقد انها مهمة في تفكيك هذه العقد الاجتماعية المدمرة، بعدة اشارات منها مايلي

اولا: احداث نقلة تربوية نوعية، بان تكون الدولة والمجتمع والاسرة مع الاطفال ضد اية خروقات او انتهاكات او تجاوزات ترتكب من قبل الكوادر التدريسية او ادارة المدرسة تجاه التلاميذ او الطلاب، وذلك باطلاق مجموعة تشريعات وقوانين وتعليمات تربوية تنظم اسس وثوابت العلاقة داخل البيت التربوي العام والخاص، والعمل على تطوير القطاع التربوي ، والتخلي عن نظرية التشدد والانضباط المفرط في احكام السيطرة على سلوكيات الاطفال الطبيعية، حيث تعد المراحل الدراسة الابتدائية او الاولية هي البيئة الجاذبة والمحببة الاولى للتلاميذ بالاستمرار والبقاء في المدرسة، اذ من المعروف ان اغلب حالات التسرب من المدارس وتركها تبدأ في مرحلة الابتدائية، وهذه مؤشرات خطيرة على طبيعة تعامل الدولة او الوزارات المعينة بهذه الشرائح او الاجيال المهمة

ثانيا: تشريع قوانين حماية الطفل داخل البيت وخارجه، وضمان ابعادهم عن اسواق العمل، بتوفير بيئة معاشية ملائمة لهم سواء كان داخل الاسرة او في مراكز الرعاية

ثالثا: طرح النخب المثقفة بغض النظر عن انتماءاتها وتوجهاتها او ايديولوجياتها فكرة انسنة المجتمع؛والعمل على تفكيك عقده عقلانيا وفكريا وعلميا او منطقيا، فالمجتمعات المحصورة داخل اسوار الهويات الطائفية او الاثنية او العشائرية ، لايمكنها ان تبني دولة امنة مستقرة، فهم يرون بأعينهم خراب النماذج والتجارب المشابهة او القريبة من بلدانهم، او رؤية الفرق الشاسع بينها وبين الدول المتحضرة او المتعددة الثقافات الناجحة عالميا

رابعا: الهوية الوطنية هي هوية الدولة والنظام السياسي العام، لاعلاقة لها باية هويات فئوية اثنية او طائفية او عشائرية، لان سيادة الدولة وهيبتها تعتمد كليا على جميع ابناء الوطن الواحد، سواء كان نظام الدولة جمهوري مركزي او فيدرالي اتحادي ، اما اساليب المحاصصة والتقسيم وبناء الولاءات والانتماءات الزعامات فهي اساليب ومخططات وتصرفات خاطئة هي اقرب للهدم والتخريب منها للتوافق والبناء او الردم الترقيعي المؤقت،

وهذا لايعد رجما بالغيب او مجرد تحليلات وتوقعات فوقية ، هذا هو الواقع قديما وحديثا ، النتائج تثبت فشل تلك التجارب العبثية ، ونجاح دول الامة المتماسكة...

خامسا: التداول السلمي الفكري والثقافي بين الاجيال، مثلما هناك مصطلح التداول السلمية للسلطة، والتي بالطبع تعني تسليم الجيل السابق السلطة للجيل الذي يليه

 (علما ان في السياسة قد يكون نفس الجيل يتداول السلطة لهذا لايمكن ان تتوقع الشعوب ان ترى شيئا مختلفا او فرقا كبيرا بين عقلية الاثنين)،

اي ان الاجيال القديمة (او التي تدخل مرحلة الجمود والشيخوخة)عليها اما ان تتماشى مع رغبات الاجيال الحالية الراغبة في التحرر والانعتاق من قيود الماضي ، وشروطه الاجتماعية او الفكرية، او السماح لهم بخوض غمار التجربة والبحث عن المعرفة الحديثة، هذا لايعني ان للفكر والفلسفة والثقافة شيخوخة وحد فاصل للنهاية، بقدر ماهو ايصال فكرة الفصل بين الثقافة الشعبية العامة بين الاجيال، والاهتمام بمسألة ان الحضارة التكنولوجية الفضائية تزداد ابتعادا وتقدما على التراث والثقافة والايديولوجيات السابقة او الماضية، وهي تسير بسرعة قطار فائق السرعة كما يقول خبراء الاقتصاد وعلوم التكنولوجيا.....

هناك اعتقاد سائد بان دول العالم الثالث لم تتأخر حضاريا عن العالم المتقدم الا بسبب وجود عدة عقبات عقدية تاريخية متورثة، تعطل مسار الالتحاق بالنظام العالمي الجديد، ومن اهمها الاديان والطوائف والموروثات القبلية او البدوية المتخلفة، وهذه الاعتبارات الى حد ما فيها نسبة من الصحة، ولكنهم يتجاهلون ان سقوط الامبراطوريات والحضارات العظيمة يكون مدويا على مر الازمنة وفي جميع العصور تقريبا، وبعضهم يعدها من صيرورة بناء الاقوام والامم والحضارات...

الا ان اهمية الاشارة والانفتاح الداخلي المحايد لشعوبنا على مكامن الخلل والتراجع والانحطاط، يعزز من فرص الاصلاح والنهوض بالقدرات الذاتية للمجتمعات ونخبها، بدلا من انتظار رياح الامبريالية العالمية ان تجلب معها رايات التغيير القسري، وعندها يصبح كل شيء في بلادنا مقدس، فتبدأ مرحلة الانتحار والاقتتال والتطاحن الداخلي...

 

مهدي الصافي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم