صحيفة المثقف

علي الجنابي: دِلْدِلُ.. أختُ عَنْبَسَة

علي الجنابيدِلدِلُ، نَملةٌ مُمتَلِئةُ القوامِ، وحاضِرةُ الحُجَّةِ وذَكيّةُ،

قَرَصَتْ بَطنَ قَدَمي الطّريّة، فَجَعَلَتني أستفيقُ من رِحلَةِ في عوالَمِ غَيبٍ صَفيّةٍ وَفيّة، فعادَتْ بي إلى وَحلةِ عوالَمِ شهادةٍ شَقيّةٍ شَكيَّة.

وفي عَالَمِ الشَّهادةِ تَبدو النّفوسُ وكأَّنَّها

في كارها سَعْيَّةٌ سَبْيَّةٌ، فَتراها تَبيعُ وتَستَبيحُ بَسماتٍ منِ كَذِبٍ لأجلِ لقمةٍ من عَيشٍ هَنيّة.

وفي دّارِها سَوْيَّةٌ سَخْيَّةٌ، فتراها تَستَريحُ وتَذيعُ بسماتٍ من إرثٍ عَذِبٍ من أولي بَقيّة. أمَا وأنَّهُ أولى وأولى لبَسَماتِ الكَذِبِ تيكَ، ثمَّ أولى لها أن تكونَ على الشَّفتَينِ عَصيّةً، وأن تَحبسَ بَسَماتِ كَذبٍ زَرْيّةً رَزِيَّةٌ، وأن تَلبسَ بُردَةَ بَسَماتٍ مُوَحَّدةً، في كارِها كما في دارها، مزخَرَفةً برسماتٍ وَردِيّة ورَوِيّة، وآنئذٍ ستَبيتُ النفوسُ زَكيَّةً زَهيَّةً وبَهيّة.

لكأنَّي ب”دِلدِلَ” نَملةٌ مأمُورةٌ بحِراسةِ عوالَمِ الغَيبِ، وبهِا كانَت حَفيّةً؟ أو أنَّها مَبعوثةٌ من حَرَسِ الأبوابِ بِرِسالَةِ تحذيرٍ مُبَيِّنةٍ وجَليّة:

“إبتعدْ وإلّا ستَرتَعِد بشُهُبٍ حارِقةٍ غيرِ خَفيّة، من رَاصَدٍ نِبالُهُ لرَميتِهِ وَفِيّة”.

رَفَعْتُ النّملةُ “دِلْدِل” بينَ سبابةٍ وأبهامي بِأفَفٍ وإنفعالِ، بأنَّها قَطَّعَتْ أوصالَ خيالي، وصَرخْتُ بها مُهدِّداً بوعيدٍ زائفٍ وأحتيالي:

– أنّى لكائِنٍ مِثلكِ سَخيفٍ نَحيفٍ وبلا أمصالِ، أن يَتعاطى العُدوان بالأفعالِ! فلَأَتَرَفَّهَنَّ بتعذيبِكِ، ولَأَتَفَكَّهَنَّ بِتأديبِكِ، الآن وبإذلالِ، إمّا حَرقاً بسَعيرِ سِيجارتي على إستِعجال، أو خَنقاً بعَسيرِ دُخانِها على إستِمهال. لاغُفرانَ لكَ اليومَ، وإنّما العَفوُ عندي مُحالٌ ومن ضروبِ الخَيال.

-لن تَتَجَرَّأَ فعلَ ذلكَ، ولن أسمحَ بهِ أيُّها الغَضوبُ بإفتِعال؟

– ويحكِ! أهيَ مُناجَزةٌ؟ أَنملةٌ وتُناجِزُ بأنَفَةٍ وعنفوان، حِيالي!

-ليسَ مُناجَزةً يا رَجُل! فعُرْفُنا ماعَرَفَ المُناجَزةَ على مَدى الأَنْسَالِ. قد تَخَلِّينا عنها لبني جِنسِكم مِن كبارٍ ومِن أطفال. بلْ قلْ: هوَ دفاعٌ وحقٌّ لي مصان في كاملِ الأحوال، هذا إن كنتَ تَدري ما الميزانُ، ولاتفتري على المِكيال؟ ثُمَّ إسمعْ: إنَّ العنفوانَ لو كانَ رهينَ فخامةِ الجُثْمانِ في الأجيالِ ، لكانَ   المَهينُ “عنبسة” الفيلُ سَيّدَاً على الأوطانِ بإجلال، ولتأنَّفَ بخرطومِهِ عالياً يُطالبُ بالخَرَاجِ مِن السّحابِ الثِّقال؟

نحنُ -يا أنتَ- أمَمٌ أمثالُكُم مُنبَثِّين في بقاعٍ وأصقاعٍ وبإستقلال؟ أوَما علِمتَ أنَّ النّملَ نَمْلَى في حِلٍّ وترحال، فترانا نَسعى فنَرعى بإبتهال، فَنَعرِشُ في ذُرىً لجبالِ، كما نَفرِشُ في قُرىً لأطلال، ونَغتَمُّ ولانهتَمُّ ولا نبالي، ونَتضاحَكُ ولانتَعاركُ ولا نُغالي. نحنُ أمّةٌ تَكِرُّ على مَن إعتَدى، ولا تَفِرُّ من الرَّدى في نهارٍ ولا في ليالي.

– آه، مِن فَمِكِ أدينكِ، وقد أُلْتِ بسوءِ مَآل:

” أمّةٌ تَكِرُّ على من إعتدى، ولا تَفِرُّ من الردى”،وذلكَ خيرُ ماهُديتِ من قيلٍ وقال، فأيُّنا هُنا – ياأختَ عنبَسةَ- مَن إعتّدى ومَن بَدَأَ بالقتال؟

– أنتَ مَنِ أعتَدى، وإن غُمَّ عَليكَ هِلالُ الحقِّ، ولَكَ ما بَدَا بإستدلال! يا أخا الهَندَسَةِ، وليتَكَ كنتَ فتىً عِندَ عالِمِ النحو عنبسة، وأَخَالَكَ أنّكَ لاتَفهَمُ ماخطوطُ الهَندَسَةِ، وتَجهَمُ حَتَّى لمافي كُتُبِها من فهرَسَة، ولا تنهَمُ منها سِوى البَسْبَسَة، وما أنتَ بِقادرٍ على رَسمِ حَتَّى خُنْفُسَة، فَدَعْكَ -ياذا سيجارةٍ- مِن الغَطرَسةِ، وبئِسَ الكُليّاتُ كُليَات الهَندَسَة، وسُحقاً لها من جامِعةٍ علّمتكم، وتبّاً لها مِن مَدرَسَة. فقد مَضى قرنٌ أو يزيد على تأسِيسِ علمِ الهَندَسَة في دياركم دِيارِ الهَلْوَسَة، ومَا بَنَيتُمُ ناطِحَةً ولا جِسراً ولا بُرجاً وما صنعتم حَتَّى كابِسَةً أو مَكنَسَة!

بل ما جَنَيْتُمْ إلّا خَلْطَ طلّابِ الهَندَسَةِ، فكانَ (الوَلدُ في الصَّفِّ جَنبَ الآنِسَة)، ثمَّ كانَ عاقبتُكم..

أن أضحى البنيانُ خَائِراً فَاسِداً ، وأصبحَ الولدُ بائراً كَاسِداً، والآنسةُ أمسَتْ معَنِّسَة! وباتَتِ الهلوَسَةِ هيَ عندكم المَرهَمُ للهّمِّ والوسوسة! ولن ينفعَ مَرهَمٌ، إن مَرَّ هَمٌّ ومَرَّ هَمٌّ دونَ مَرهَمِ.

– ذَرِي أمرَ الهَندَسَةِ جانباً الآن ياآنسة عَنبَسة، فلن أنزَلقَ لما تَبغينَ للأمرِ من (أبلَسةٍ).

أفَقَرَصتُكِ أنا من بَطنِ قَدَمِكِ، يا أيَّتُها السُوسَةً المُتَسَوِّسة! ثمَّ مهلاً: ألِقدمِكِ بطنٌ ظاهرةٌ أو حتى مُغَمَّسة؟ بل أنتم لابطونَ لكمُ و لاظهورَ، لامُستَقيمةً ولامُقَوَّسة. رُبَما إستَحوَذَت على فسحتِها عيونكمُ المُخَمَّسة، فعلامَ إذاً تلامُ البَطن بذي غَطرَسة!

لعلَّكم سُلالةُ عناكبٍ مُنْطَمِسة، طُمسِتْ في غابرِ حقبةٍ لزَمَن مُنْدَرِسة، الى أفواجٍ من هَوامٍ مُتَكَدِّسَة،وفي القَذَارَة مُنْحَبِسة، ومن روائحِها باتَت أبدانُها مُتَنَمِّلَةً ومُتَكلِّسة، ومنها جاءَت تَسمِيةُ ” النَّملُ” مُنْبَجِسة؟

– أحذِّرُكَ يا صَلصالَ طينةٍ مُتَنَفِسة، تَحُـكُّ جَرَبَها وبحَكِّها تراها مُستَأنِسة، فذَر الْحَـكَّ كيلا تكونَ أردافُ (الإِسْتِ) للحَكِّ مُتَحَمِّسَة. وحِذاريَ مِن سخريةٍ سفيهةٍ سمِجةً مجَّةٌ مُبْتَئِسة، لاتَليقُ بِسَحنَةٍ فيِكَ تبدو ليَ سَحنَةً و..ودُودةً ومُؤتَلَفَة، وللمعروفِ مُتَحَسِّسَة.

– حسناً، إنَّ النَّملةَ تُهدِد! هَباءَةٌ هلاميةٌ كادَت أن تُصنفُ في السِجلِّ بكائناتٍ مِجهريةِ! تُحَذِرُ الخليفةَ في الأرضِ ذا الكَعبِ العليّة! الذي وَضَعَ حَروفاً صُوريّة فَمِسمارِية، وأتقنَ الحرثَ والصُنعَ وحفظَ الحروفَ الأبجَديّة.

أنَسيتِ أنّي أنا أول مَن نَفَعَ الأناسيّ بمَسَلّةٍ بابليّة!

(كان ذاك صفحةً من مسودة الجزء الأول من كتابٍ لي يبحثُ عن دار نشرٍ لطباعتهِ متحمّسة ومؤطر عنوانه :

(حواري مع صديقتي النّملة).

 

علي الجنابي - بغداد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم