صحيفة المثقف

بهجت عباس: داء النرجسيّة

بهجت عباسزهرة النرجس الجميلة أخذت اسمَها من الأسطورة اليونانية التي تقول إنَّ شاباً جميلاً يُدعى نرسيسوس Narcissus رفض حبَّ حوريّة البحر (إيكو)، فعاقبته إلهة الحب والجمال (إفروديت) بأنْ جعلته يُعجَبُ بذاته أو صورته أو خياله، فكان يُحدِّقَ في صورته المنعكسة في بِركة ماء صافٍ دوماً وبدون انقطاع إلى أن نحلَ جسمه وذوى فمات. وكشفقة عليه لما أصابه، حوّلته الآلهة إلى زهرة نرجس تحني رأسها على الماء.

ومن هنا أ ُطلِـقَت صفة (النرجسية) على كلِّ شخص يحب ذاته ويرى نفسه فوق كلِّ اعتبار، وتكون لديه آراء غير واقعية حول عِظَمِ نفسه وأهميّـته وصفاته وعدم احترام للآخرين.  ويقدر الخبراء نسبة النرجسيّين في العالم بـ 1% من السكان، ومن هذه يكون حظ الذكور 65%، وكثافتهم في مناطق العالم تختلف حسب منطقة نشوء الفرد وظروفه العائلية والبيئية والاجتماعية وربما الجينية.

يُعتبر حبُّ الذات في النرجسية مرضاً قد ينمو إلى الخيال الجامح لجنون العظمة مع رغبة مفرطة للإعجاب به. كما أنَّ بعض (النرجسيّـين) يوجِّه انتقاده إلى الآخرين ليتجنّبَ انتقادهم إيّاه. أما إذا انتقده أحدهم دون إساءة بالغة أو مقصودة أو بيّنَ خطأً في لغته أو أسلوبه أو فحوى مقاله، فالويل للمنتقد منه، فهو لا ينام ليلَه دون انتقام. وحتى إذا استطاع الانتقام منه مرةً فهو لا يملّ من الانتقام المتواصل، لأنَّ ذلك الانتقادَ (صَدَّع) نرجسيّـتَه، ولن (تلتئمَ) حتّى ولو وافت المنيّة ذلك البائسَ المسكين!

 

إنَّ خلل االشَّخصيَّـة النرجسيّـةNarcissistic Personality Disorder (NPD) يبدأ في الطفولة ويظهر عند البلوغ مسبِّـباً نقصاً في قدرة المصاب على إظهار شفقة أو عاطفة تجاه الآخرين. ويُعزى سببه إلى إساءة عند الطفولة أو صدمة أو أذى من الأبوين أو الأقرباء وحتى من الأصدقاء، ولم يثبت حتى الآن أنَّ له أسساً وراثية أو عرقية، رغم أنّ بعض الباحثين يفكر أنَّ ثمة جيناً أو جينات مسببة له، ولكن لم يُكتشف حتى الآن أيّ جين له، وهذا لا يعني أنْ لا جينَ مسبباً له، إذ هناك من يعتقد أنه يتوزع في أفراد العائلة الواحدة حسب قاعدة مندل المعروفة في الوراثة والأبحاث جارية في هذا المضمار. يكون مرض النرجسية أحدَ أمرين، إما عقلـيّاً (إنجازات فكرية، أكاديمية، علمية وغيرها) وإمّـا جسمية (جمال، رشاقة، قدرة جنسية وهكذا).

من هم النـرجسيّـون؟

هم أولئك الذين يضعون أنفسهم في السّـماء ويشعرون بأهميتهم الخيالية مضخّمين قابلياتهم ليوهموا الآخرين بالنظر إليهم فقط مع فقدان الواقع. فهم وحدهم الذين يرتبطون بصور (خيالات) الصفات المثالية، النجاح العظيم والقوة والجمال.

وهم مستعدون لاستغلال الآخرين لتحقيق هدفهم مقتنعين بأن لهم امتيازاً ويتوقعون من الآخرين اعتبار ذلك. يتميّزون بقلّة عاطفة وموقف متغطرس وفعل متعجرف، وعدم قدرتهم على التعاطف مع الآخرين أو فهمهم إياهم.

وقد صنّف العلماء والباحثون هؤلاء النرجسيّين حسب طبيعة نرجسيّـتهم. ربما يكون ذكرُ بعض هذه الأصناف مفيدة للقارئ الكريم لتكون لديه فكرة عمّن حواليْه في الأفق القريب أو البعيد من هذه النماذج البائسة في الواقع.

1- مريض الكذب- يكون مراوغاً ماهراً ومُقنـعاً بارعاً حيث يتجنب المحاسبة على أعماله بتلهية الآخرين بالنكتة واللف والدوران (البلف)، ويعتمد على ذاكرته في سرد الحوادث القديمة وينكر ما عمل من سيئات وقد يلجأ إلى التهديد إذا اقتضت الحاجة. في هذه الحال لا تكشف أوراقك أمامه، فقد يستغلها في الوقت المناسب ويستعملها ضدّك. وعليك أيضاً أنْ تتحقق من كلماته قبل الوثوق بما يقول، ولا تسأله أيَّ سؤال، فلا تحصل منه إلاّ على أكاذيبَ.

2- ناقض العهود – يوافق على أيِّ شيء وينكث بعهده. وقد يتّهمك بأنك الناقض الحانث. في هذه الحال أربطه باتفاق قانوني لتضمن حقك إن كان لا بدّ من التعامل معه.

3- النرجسيّ العنيف- وهو القاتل والإرهابي، الذي يستعمل الآخرين، وخصوصاً النساء والأطفال، لتنفيذ مآربه في الاعتداء والانتقام. لا يشعر بالخطيئة والإثم ولا بتأنيب الضمير، وتكون أحكامه خاطئة، إذ أنه يبنيها على أسس وقواعد ضعيفة منهارة ولا يستطيع السيطرة على نفسه. يتوقع دائماً الخيانة وتكون في رأسه صورة نبذ الآخرين له، لذا يعاقبك على لا شيء ويضطرك أن تعمل له ما يريد بأيِّ ثمن. فلا يشعر بأيّ ندم أو أيِّ حقٍّ للآخرين. عليك تجنّـبُه.

4- الرقيب أو المستغل- الذي يوقع الخصومة بين الناس ويبعد أصدقاءه أو حلفاءه عن نيل أهدافهم. يتصف بالمهارة في الحديث والدقة في الكلام أو التلاعب بالكلمات والأفعال ويكون ذا (كاريسما) وعادة ينال المرام، ويكون همّه المال. يكون قاسياً ولا يقرّ له قرار. يتظاهر بالمسكنة والحاجة إلى مساعدة، فيسرع أصدقاؤه لنجدته مادياً ومعنوياً. وبعد أن يقف على قدميه منتصباً، يقلب لهم ظهر المجنّ من حيث يعلمون أو لا يعلمون. ولكي ينال درساً لا ينساه مواجهاً عواقب أعماله، يجب على الآخرين إهماله.

5- المتفاخر بالعلاقات الجنسية وكثرة تناول الكحول وربما المخدرات أو التظاهر بكثرة ممارسة الرياضة والقوة البدنية والذي يطلب من الآخرين تبجيله لصفاته هذه، فالأحرى بالآخرين أنْ لا ينحدروا إلى مستواه وأن يبتعدوا عنه.

6- مستر هايد الذي يتظاهر بأنه دكتور جيكل- أو الذي لا يعني ما يقول أو من يظهر على عكس ما هو عليه. فهو يدّعي الشرف والأمانة والعفة والنزاهة وعلى الناس أن يثقوا به، وإلاّ فسوف يخسرون! والويل لمن يثق به، حيث يغدو بعدها حزيناً مُعذَّباً نفسيّـاً يلوم نفسه دون طائل. إنَّ هذا النرجسيَّ المتقلب يختار ضحاياه ويخدعهم، فإما يكتشفونه فيتركونه، وإلاّ سينبذهم ويختار خلقاً آخرين. فطبيعته عدم الصبر على طعام واحد، فهو طفيليّ فُـَرصٍ. الحذر منه!

7- السّاديّ- وهو الذي يُسَرّ لرؤية الأخَر مُعّـذَّباً فاقداً مالَـه أو منصبه أو يقسو عليه نفسيّـاً أو جسديّـاً. وسعادته هي اختطاف ما يملك الآخرون لجرِّهم إلى حزن عميق. إن أغلب ضحاياه نساء وأطفال وشيوخ وكلُّ من يكون فريسة باردة له. فمن المستحسن أن تنسف كل الجسور والطرق بينك وبينه، وألاّ تفكرَ أنَّه كان يو.ماً طيباً أو سيكون.

8- غاسل الدّماغ - يكون ذا هيئة جذابة محترمة (كاريزما عالية) يستغلّ الآخرين لجلب الصّيت والجاه والثروة إليه. عادة يكون من رجال السياسة والدين. وهو يستهدف السّذَّج والمغفلين من الناس أو ضعاف العقول، وأعداؤه هم المثقفون النّابهون. تجنّبهم!

9- المغامرون- وهم الذين لا يتعلمون من تجارب الماضي ويستمرون في مغامراتهم وبعين الطريق، إذ هم يتميّزون بإحساس ضعيف منفلت. فلا تركضنَّ معهم!

10- النرجسيّ الذّ ُهاني- وهو الذي يشكّ بأيِّ شيء من دون سبب، يكون خائفاً جداً عند تعرّضه لأيّ خطر ويكون ذا خطر إذا هُـدِّدَ. وبسرعة يقطع حبل الوصل مع معارفه وأصدقائه إذا (توقّع) نبذَهم إياه. لا تـُعطِه أيَّ سببٍ يستدعي الشكَّ، فقد يكون ذا عنف!

11- صانع الصور (الخيال)- يتباهى بأطفاله، بزوجته وبإنجازاته وينتظر من الآخرين الإعجاب به والتعجب من قدرته وعبقريته. ولكنه لا يقتنع أبداً. وعندما يسقط قناع التكبر والاستعلاء الزائف عن وجهه ويبين على حقيقته، يغير قناعه وينشد العطف والشفقة ويدعي بأنه أحسن أب وزوج وصديق. من الأحسن ألاّ تعيرَ إيَّ أهمية لمثل هذا السلوك الطّفولي، لأنَّ غايته (جذب) الإنتباه إليه والخداع.

 

د. بهجت عباس

.............................

* من كتاب (الجينات والعنف والأمراض – فيشون ميديا – السويد 2007)

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم