صحيفة المثقف

جمال العتّابي: بيكاسو.. نجاحه وإخفاقه.. الجدل المتقابل

جمال العتابيتساءل بيكاسو إثر إطلاعه على كتاب يتناول سيرته: هل أنا من سكان المريخ؟ ثم أسدى للمؤلف النصيحة التالية: يجب أن تضيف فصلاً تقول فيه ان بابلو بيكاسو له ساعدان، ورأس، وأنف، وقلب، وكل مظاهر الكائن البشري، وعندما نقول ان بيكاسو إنسان، فنحن نعني انه ليس نبياً، أو بهلواناً، أو نيزكاَ سقط علينا من الفضاء، أو شيطاناً لفظه الجحيم، أو صانع معجزات، انه إنسان ورسام، أي رجل يلتهم الدنيا بعينيه، ثم يفرزها بيده، وبين العينين واليد، يوجد رأس وقلب، تجري من خلالهما عملية تمثيل وتحول (غارودي، واقعية بلا ضفاف ص 17).

وفق هذا التقديم يبدو جون بيرجر(1926- 2017)، مطمئنا في إختيار عنوان كتابه الصادم (بيكاسو.. نجاحه وإخفاقه)، الصادر عن المنظمة العربية للترجمة، عام 2010 بيروت، ترجمة فايز الصُياغ، فهو يدرك تماماً، ان كتابه هذا تعرّض لهجمات متتالية، منذ أول صدور له عام 1965،ومن أكثر من مكان، إن لم يكن من جميع الأمكنة، بإعتباره يطرح موقفاً متغطرساً، خبيئاً تعوزه الحساسية، وفي إنكلترا (موطن الكاتب)، نُبذ الكتاب، بوصفه فاسد الذوق، وكان بيكاسو آنذاك على قيد الحياة، وفي أوج عظمته، وعلى مدى الأعوام التالية، إستمر إصدار الكتب والمقالات التي تضفي عليه مسحة القداسة.

يعدّ جون بيرجر أحد أهم الشخصيات الأدبية والثقافية في إنگلترا، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، لتعدد مواهبه، وتنوع كتاباته، وإهتماماته، في المسرح، والرواية، والشعر، والنقد التشكيلي، فضلاً عن كونه رساماً، جاهر بيرجر بماركسيته، منذ شبابه حتى آخر لحظة في حياته، وقف إلى جانب الشعوب العربية، في فلسطين والعراق، وسوريا، وهي تواجه الإستبداد، والدكتاتورية والظلم، وكان الفن إحدى وسائل نضاله الفكري، من دون أن يتخلى عن رسالته الجمالية،  صدر له بالعربية: وجهات في النظر، طرق في الرؤية، والأخير أشهرها، إذ ما يزال أحد أهم الكتب في العالم، ويحظى بمقرؤية وحضور واسعين، أما كتابه عن بيكاسو، فيعدّ الأكثر إثارة للجدل في الأوساط الفنية، لأنه قدّم رؤية نقدية جديدة، مختلفة، لا يتفق فيها مع الكثير من النقاد، ولا سيما المعجبون جداً بالنابغة الأسباني، القراءة تحمل قدراً من الصدق والأمانة، منطلقاً من أن أي حوار مع العمل الإبداعي، لابد أن يحقق جدواه في التعرف على أبعاد الشخصية وقيمتها الفكرية والفنية، ويشكل هذا الحوار مفتاحاً للمعرفة المضافة، على عكس تلك الاراء الشخصية، الإنفعالية، التي تقودها العاطفة، بلا أسس ومعايير نقدية تتنتمي للقيم الجمالية، والتي تعد سبيلا للكسب المادي عند البعض،  ومدفوعة الثمن سلفاً.

ان المجد الإستثنائي، والنجاح العظيم لبيكاسو، ينبغي أن لايحجب الإخفاق في مراحل معينة، وبيكاسو بالنسبة لبيرجر، هو الجبل الشاهق الذي لا تضيره الثقوب، والمغاور. بإختصار يمكن القول: ان بيكاسو تعلم كيف يقرأ قانون عصره بلغته التشكيلية.

تترافق مع مايطرحه الكتاب من آراء ومفاهيم حول تجربة بيكاسو، قضية أخرى أبعد من ذلك تتعلق بأزمة النقد عموماً، الفني، والأدبي، وهذا الرأي يدعم وجهة نظرنا، في أن إمكانية الإستجابة للحالات الجديدة، تعد أقسى إمتحان للنقد،  وما أثاره بيرجر من أفكار، وتصديه للمعايير النقدية التقليدية، لا يعود لجرأته، وشجاعته، في تناول تجربة بيكاسو، إنما هو يعبّر عن قناعاته، في نهاية بيكاسو كفنان وقضية، بنهاية الحرب العالمية الثانية.

قبالة لوحة غورنيكا الشهيرة لبيكاسو، وظروف انجازها، يشير بيرجر إلى رد مثير يقوم به ثمانية وعشرون طفلاَ مغربياً، تتراوح أعمارهم بين 5 إلى 11 سنة، مقيمون في احدى ضواحي باريس، رسموا لوحة بنفس قياسات الجورنيكا، خلال 12 يوماً، وفي ستوديو بيكاسو نفسه الذي رسم فيه اللوحة، قبل أكثر من ثمانين عاماً، ان رد الأطفال ينطلق من ساحة المعركة الخاصة بهم. انه مماثل لما حدث، في سوريا والعراق وافغانستان، لكنه غدا امراً مقبولا، بوصفه من المخاطر المؤسفة، لم تعد الجورنيكا تولّد الصدمة لدى من يحكم العالم اليوم، وما عثر عليه بيكاسو من موضوعات، أنتج عدداً من روائع الأعمال الفنية، أما عدا ذلك، فيندرج في عداد العبثي واللامعقول، غير ان احدا لا يتمتع بالشجاعة الكافية للجهر بذلك، خوفاً من إستفزاز أدعياء الثقافة.

انخرط بيكاسو في صفوف الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1944، كمحاولة للخروج من منفاه، وفي موسكو سُخرت سمعته لأغراض دعائية، كرجل عظيم، بينما تعاملت مع فنه كأمرٍ منكر، ولم تعرض لوحاته، ولم ينشر أي كتاب عن أعماله، وأخفق رفيق بيكاسو، الشاعر لويس أرغوان، في ان يدفع عن رفيقه (صلف جدانوف) الثقافي في موسكو، وواقع الحال يشير الى ان هذا الإنتماء، لم يكن ذا غنى في تجربة بيكاسو الفنية،

كرّس بيكاسو جهده لسلسلة من الرسومات، في منتصف خمسينات القرن الماضي، تتعلق كلها بسيرته الذاتية، وصفها النقاد انها تتسم بالغموض والتعقيد، وكان حسبهم أن يهتفوا مرة أخرى:بيكاسو!! وما ان يعبروا عن اعجابهم، حتي يضربوا صفحاً عن كل شيء عدا عظمته، في كل واحدة من تلك الرسوم، توجد إمرأة شابة عارية في العادة، وشهية دائماً، وإلى جانبها يبدو بيكاسو شيخاً قبيحاً قميئاً، انها تطلع اليه بجفاء، ولكي يخفي نفسه، نراه يضع قناعاً على وجهه، ان بيكاسو يعترف بما يتولاه من رعب عندما يدرك ان الجسد يشيخ، في حين ان الخيال لايشيخ، انه يعود للقناع ملتمساً العزاء،

ان بيكاسو في شيخوخته يعترف بالقنوط، وهو غير القنوط الإجتماعي الذي عاناه (غويا)، بل هو المتصل بحياته الخاصة، وربما شفع له، انه قادر على التعبير عنه،

ان ماكتبه بيرجر، إلا محاولة تعنى بفتح نوافذ نحو عطاء فنان عظيم، تعاقبت تمرداته بعضها إثر بعض، أثار بلغته الخاصة قضية مغزى العصر، وقضية الإختيار، ومازالت أعماله تعبر حتى الآن عن إحساس عميق بالمسؤولية.

لذا يستدرك بيرجر في النهاية، على ان بيكاسو بقي مثالاً حياً، وينطوي ذلك على معنى أعمق بكثير من مجرد عدم الموت، انه لم يكف عن العمل، كما انه لم يكذب، ولم يسمح ليأسه الشخصي أن يدمّر حياته، أو إبتهاجه بعنفوانه.

 

جمال العتّابي

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم