صحيفة المثقف

مجدي إبراهيم: فلسفة العمل في الإسلام

مجدي ابراهيمعبادة = (وجود  وخلود): هنالك عبارة هى لب تجربة ومعاناة حياة، قرأتها للشعراني (898هـ - 973هـ)، في كتابه "لطائف المنن والأخلاق"، وهو المسمى بالمنن الكبرى، وودتُ أن تكون هى الشعار الذي نحياه بالفعل لو استطعنا؛ لأني كنت جعلتها شعار مذكراتي في سنوات الطلب والبحث، وكم كنت أرددها بيني وبين نفسي ترديد العامل الشغوف بمقاصدها، إذ كانت عبارة مُلهمة دالة من الوهلة الأولى دلالة عمل وممارسة وتطبيق. يقول الشعراني: لمّا اجتمعت بأهل الطريق قالوا لي:

" اجعل أعمالك كلها "مقاصد" لتحضر فيها مع الله تعالى، ولا تتخذها "وسائل"؛ فتموت ولا تصل إلى مقصودك". لاحظ الفرق بين المقاصد والوسائل تجد أعمالنا كلها في الغالب مجرد "وسائل" بعيدة عن وحدة القصد. لهذا، ومن أجل هذا، يأخذنا البطر أحياناً كثيرة بعيداً عن دروب الحكمة، فيسلب عنا نعمة إلهيّة عظيمة: هى نعمة البقاء دوماً في رحاب الله، نعمة الرضى بالمقسوم. والرضى بالمقسوم هو "علم القدر"، وليس هو بالكلمة الشائعة على ألسنة العوام كسائر الشائعات التي لا تعرف لها وجهة ولا دلالة.

علم القدر:  الكلمة التي يقولها عوام الناس البسطاء، جدتي وجدتك، أمي وأمك، الرجل الفقير العابس في الشارع يمر عرضاً في طريق، الكلمة التي نقولها غالباً في المصائب والكوارث للتعزية والسلوان، ولا نفهم لها معنى، ولا نريد. هى كلمة (الرضى بالمقسوم). كن راضياً عمّا أصابك، وارض برزقك، وتحقق من وحدة قصدك مع ربّك، ولكنك لن ترضى ما لم تؤمن، ولن تؤمن ما لم تعرف "علم القدر" ماذا عساه يكون؟ 

الخضر عليه السلام رمز لعلم القدر كما جاء في سورة الكهف: الخضر العبد الصالح ذو العلم اللّدُّنيّ أم القَدَر؟

إذا كانت أقوال العارفين، الشعراني تحديداً، تقول: (اجعل أعمالك كلها "مقاصد"؛ لتحضر فيها مع الله، ولا تتخذها "وسائل"، فتموت ولا تصل إلى مقصودك)؛ فإن ملاحظة الفرق الفارق بين كون "العمل" وسيلة قريبة وقرينة حاضرة تعتمد الأسباب والوسائل وكفى، وبين كونه مقصداً شريفاً يذكو به التوجُّه؛ ليحضر فيه العبد مع الله لهى ملاحظة تحدّد عندي "وحدة القصد" من جهة، ثم من جهة أخرى تقيم فلسفة العمل على العبادة؛ لتكون هى هي الوجود وهى أيضاً الخلود.

كان رسول الله؛ صلوات الله وسلامه عليه؛ المثل الأعلى لنا جميعاً في أن نعبد الله؛ كأننا نراه، أو في أن نرى الله في جميع ما نأتي وما ندع: في الكون نذَلّـلِهُ ونسخِّره، وفي المجتمع نصلحه ونهذِّبه، وفي العمل نتقنه ونخلص فيه، وفي الحديث نتحرى فيه الصدق والأمانة.

لقد حوّل رسول الله؛ صلوات الله وسلامه عليه؛ الحياة كلها إلى عبادة حتى صارت (وجوداً) لا تقوم الحياة الحقّة بغيرها، فكل حياة تقوم على "العبادة" هي الوجود الحقيقي لا الوجود المزيّف. فكان العمل عبادة، وإنّ من الذنوب ذنوباً لا يُكَفِّرها إلا السّعي على المعاش. والجهاد عبادة، وإنْ أفضل الأعمال الإيمان، ثم الجهاد، والجهاد عمل دائب وكفاح متصل في سبيل وجود أرقى يأخذ قيمة الوجود الدنيوي ليمدّه إلى وجود روحي أزكي وأفعل وأخلد في عالم البقاء.

ولقد وصل الأمر به، صلوات الله وسلامه عليه، أنْ جَعَلَ الأكل والشرب والمشي عبادة، أي جعل الحركة في سبيل وحدة القصد عبادة؛ لأن هذه الحركة نفسها فاعلية عمل مخلص يرقب صاحبه كما يرقبه صاحبه كلما اتسعت الرؤية واتسع شهود الحق في مجلى الأعمال والأقوال. وهكذا أصبحت الحياة حركة وسكوناً لله، سبحانه، كلها عبادة:" قُلْ إنَّ صَلَاتيِ وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتيِ للهِ رَبِّ العَالمَيِنَ، لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلكَ أُمِرْتَ وَأنَا أوْلُ المُسْلِمينَ".

ولقد وضح هذا الاتجاه قصداً مباشراً؛ ليُجْلي مراقبة الله تحقيقاً لا عرضاً؛ ولتكون العبادة، وهى عمل خالص، مع القصد والنية والحضور عبادة من أرقى العبادات الدينية في الإسلام؛ منذ اللحظة الأولى للوحي، منذ:" اقْرَأْ بِسْمِ رَبِّكَ الذَّي خَلَقَ "؛ أي منذ العلم الحقيقي  الذي يربط حركة الأرض بقوانين السماء، منذ اللحظة التي أوجبت على العامل ذكر الله، وأن يعمل العمل؛ ليكون بداية باسم الله، نعم باسم الله يتم فعل القراءة ويكتمل مقصودها ويتحقق خلالها العلم النافع. وما خلى اسم الله من فعل القراءة، أي من فعل العلم، إلا وكان مجرد حظ نفس ووسيلة لغرض زائل ليس وراءه تحقيق مفيد، مجرّد حظ نفس مقطوع العلاقة بين الوجود والخلود. 

ثم إنّ القرآن كله فسّره، ووضحته أعمال الرسول؛ صلوات الله وسلامه عليه. فكانت الحياة كل الحياة من أجل ذلك عبادة:

الأنْفَاس، والحركات، والسَّكنات، والنوم، واليقظة، والمشي، والقعود، وهكذا دواليك: حركة الفعل نفسها عبادة فيما لو خلصت النية وصَحَّ قصد التَّوجُّه.

الحياة كلها، بل والموت عبادة. أجل! إنّما الموت عبادة.

حقيقة ما أكثر الذين يتكلمون!

يفصحون عمّا هم فيه من البداهة لكن ينقصهم صوابها من أول وهلة. وما أقلّ وأندر الذين يعملون ولا يقولون! ولئن قالوا قالوا عن حق، فنطقوا عن حق؛ لأن أعمالهم كانت صدرت برقابة الحق؛ بإحاطة الإيمان والتقوى. انظر إلى قوله تعالى:" وَلَوْ أنَّ أهْلَ القُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهُمْ بَرَكَات منَ السَّمَاء وَالأَرْض"؛ لترى أن فتح البركة من السماء والأرض مَرَدَّهُ إلى الإيمان والتقوى، مشروط بهما عمل العامل على شرطهما.

على أن الفرق بين الإيمان والتقوى أن الإيمان هو ما خالط القلوب ومازج السرائر. ولكن التقوى مباشرة دائمة وتحقق فعلي، وجهاد. التقوى تحقيق ما في القلب تحقيقاً عمليّاً في الواقع الفعلي، ألزم ما يلزمها الجهد والتشمير والسعي الدائم مع العزم على العمل من أجلها، وعلى شرطها.  الإيمان داخلي، والتقوى تجمع بين ما هو في الداخل وما هو خارج؛ ظاهر في واقع النفس. الإيمان مفهوم، والتقوى تصديق. الكلام الجميل كثير، وما أصعب التطبيق مع التصديق.

إنما العمل ضد الكلام، والذين يكون عملهم هو الكلام، هم في الغالب أقلّ الناس حُظوة يوم الدينونة إلا أن تتحوّل "الكلمات" لديهم إلى "أفعال".

لا جَرَمَ كان هذا العمل يصل الوجود بالخلود، وتلك فلسفته في الإسلام. في رسالة التوحيد يقول الإمام محمد عبده (1849- 1905م): " إنّما الأعمال الدينية تصدر عن الملكات والعزائم الروحيّة؛ لأن الروح لها السلطان القاهر على البدن حقيقة".

ومعنى هذا: أن العمل الديني إذا هو صدر عن عادة الجسد حركة رتيبة، لا يعوّل عليه، ولا يمسّ الروح في شئ، ولهذا تجيء العبادات خلاله شكلاً ينقصها التحقق الروحي الذي يفرضه المضمون الديني؛ فلا عمل أرجي للقبول أكمل ولا أخلد من عمل تتولاه الروح وتسعد فيما تباشره، وهنا تكون أعمال القلوب أولى وأقصد من أعمال الجوارح، وتظل أقدر على الاستمرار من الأعمال التي هى مجرّد عادات لا تعطي ثمرات التحقق من الوصول إلى حيث وحدة القصد.

ولكن هذه الأعمال عزيزة جداً على من يتخذها "وسائل"، ولم يتخذها "مقاصد" يحضر فيها مع الله. في الحالة الأولي، حالة "الوسائل"، تنفصم العلاقة بين الوجود والخلود، وتتلاشى، ويموت المرء ولا يصل إلى مقصوده؛ لأن الأعمال تنصرف إلى وجود مزيف لا وجود حقيقي، تنصرف إلى وجود وهمي، سرعان ما يزول مع زوال صاحبه قطعاً مع الزائلين؛ ولأن العمل في هذه الحالة لم يكن عبادة كما تقرّر في الأثر، بل هو خارج دائرة العبادة. وما دام قد خرج عن دائرة العبادة، خرج تباعاً عن الوجود وعن الخلود سواء.

وفي الحالة الثانية، حالة "المقاصد"، وهى اتخاذ الأعمال "مقاصد" يحضر فيها العبد مع الله، يمتد الوجود المحدود المنظور من طريق العمل والعبادة إلى الوجود الأبقى الخالد، اللامحدود واللامنظور؛ لأنه يستبقي "وحدة القصد" في البدء والمنتهى؛ فوجود العمل في هذه الحالة يخضع لحكم الوجود الحقيقي لا المزيف؛ لأنه وجود الروح التي تحرك الجوارح؛ لتعمل بالقناعة والتبصرة، فتصل الزائل المحدود بالباقي الدائم؛ لذلك يستمر العمل مع المرء وهو الذي يخلده بعد مفارقة عوارضه الدنيوية؛ فالعبادة (وجود وخلود) هى فلسفة العمل الديني حقيقة في الإسلام.  

 

بقلم: د. مجدي إبراهيم          

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم