صحيفة المثقف

الحسين بوخرطة: عبث

الحسين بوخرطة(قصتان قصيرتان جدا)

تغييب

عبد السميع مثقف بكبرياء وصفاء المروءة. منح كل وقته لتكوين الشباب وتأهيلهم، ومدهم بمعارف النجاح والسؤدد. ازدادت الطموحات عن حدها واشتدت الطائلة. شحنت مخيلة تلامذته بفكرة القتل المعنوي للأب المعلم الطائق في نظر النفوس المغرورة. أعلن تاريخ محطة مدنية بأهمية بالغة. لا يوجد أثره ولا رائحته المعتادة في الجمع. سئل عنه بإلحاح. فنعقت الببغاوات، آكلة السحت، بصوت متلهف ومرتبك: غائب دائم. اختنق سليل العلم والكرم والوفاء، وزعقت من لسانه عبارة بأعلى صوته المتحشرج: تغييب لغاية في نفس يعقوب، ليشتد الصمت في القاعة.

**

انقياد وإنقاذ

سمير طبيب حديث التعيين في مستوصف قريب من مسكن والديه. في كل صباح وبعد كل ظهيرة، تعود المرور من خط سير يوصله بسرعة إلى عمله. إنه الشارع الفسيح المظلل بأشجار مصنفة من الأنواع الناذرة. يتمتع بخشخشة أوراقه المتناثرة على جنباته، ويتذوق في بهجة وحبور دائمين زقزقة عصافيره.

التقى يوما كهلا بأوصاف الانحراف. حفريات وآثار أداة حادة أو سلاح أبيض تزخرف محياه ويديه، وربما بطنه وصدره. حملق فيه من بعيد، وتأكد أنه علال من أبناء دواره. رجعت به ذكريات طفولة وشباب الحي بمساكنه الهشة وحنان ناسه الكرماء. تذكر كيف كان علال وسيما وجذابا بهندامه وشعره الناعم الطويل. كان دائم الدفاع على التلاميذ المجتهدين وحاميا إياهم. وكانت بنات الحي يشتقن لرؤيته. يتذرعن بالذهاب إلى السقاية العمومية، وينتظمن بأجسادهن في طابور طويل، وعيونهن تتناوب بلمحات عاطفية متكررة على مكان جلوسه أمام البقال المقابل لهما.

تقابلا بابتسامتين متباينتين تتطاير من الأولى الاعتزاز والفخر ومن الثانية الحذر والامتعاض. التقت نظراتهما في اليوم الثاني، وتكررت الابتسامتان محافظتان على تباينهما. توجس سمير من هذا التواجد المتكرر الذي استبعد أن يكون من صدف القدر. غير في اليوم الموالي وجهته المعتادة ذهابا وإيابا.

في اليوم الرابع، تأخر في عمله منهمكا في تطبيب ضحايا حادثة سير مميتة. وهو عائد ليلا إلى دارته، اعترض سبيله لص قوي البنية، ملوحا يمينا ويسارا بسلاح أبيض طويل فتاك، والضب عاث على ملامحه الإنسانية. امتقع فجأة لون محيا سمير، وأصيب بالهلع محاولا التفاوض معه بكلمات متقطعة. تسلل الفزع ودب الرعب والضعف أقدامه. فجأة، انقض علال عاصفا على المعتدي بكل ما لديه من قوة، وساقطه أرضا. طلب من سمير الهرب بسرعة. تبعه في حينه إلى أن اطمأن على وصوله إلى منزله.

دخل سمير غرفته، تسجى مشتت الأفكار فوق سريره المغطى بشراشف بيضاء واللوم ينهش روحه. استسلم لنوبات كآبة متكررة مثقلا بأوق قاتل. حكى لمدير المستشفى بالهاتف قصته باستياء، مسرا له انفلاته من اعتداء محقق بفضل علال، وتوسله أن يعينه مسؤولا أمنيا على المستوصف، وكان له ذلك.

***

الحسين بوخرطة

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم