صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: المشهد الثقافي العربي بين الواقع والمأمول

يسري عبد الغنيعشرات وربما مئات التعريفات تحاول تحديد مفهوم "الثقافة، أما نحن فلا نقصد بها في هذا السطور المتواضعة إلا شيئين: عادات ورسوم وتقاليد المجتمع ككل، وفكره ومعارفه ومؤلفاته.. وفنونه!

يعرف الكثير منا مشاكل الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية في بلدان العالم العربي، ولكن بعضنا لم يكلف نفسه مؤونة التعرف على بعض مشاكلها الثقافية، اجتماعياً وأدبياً، واقفا على أبرز "مشاهد" هذا الواقع الثقافي

1- أول ما يلاحظ في هذا المشهد وجود ثقافتين متصارعتين في العالم العربي، كفكر وكنهج حياة: الثقافة الماضوية التراثية المحافظة، والثقافة العصرية الواقعية المندمجة في "المشهد العالمي".

إن هذا الانقسام الثنائي من الشدة والعمق والشمول، حتى أكاد أقول إنه يخترق سائر المجتمعات العربية ويؤثر في معظم القيم الحياتية والأفكار السائدة، في البلدان العربية الصغيرة والكبيرة، ومتوسطة أو فقيرة الدخل أو شديدة الثراء على حد سواء.

2- كلتا الثقافتين غير قادرتين على الارتقاء والنضج، لأسباب مختلفة، الثقافة الماضوية التراثية ، بسبب هيمنة الأصولية الدينية والإسلام السياسي، والثقافة العصرية الليبرالية بسبب الاستبداد السياسي والتوجهات الشمولية ومخاوف الحكومات غير المبررة.

ومن هنا، فالحكومات والأنظمة العربية في مختلف مجالات الثقافة والتوجيه والإعلام، لا تنتمي في الواقع إلى أي التوجهين، الديني الأصولي المؤدلج أو الليبرالي، وإنما هي، وما تملك من أدوات تأثير كبيرة وحاسمة، في منزلةٍ بين المنزلتين! وهكذا تبقى الحاجة ماسة في العالم العربي إلى ظهور ثقافة عصرية ناضجة مكتملة، ولكن لا التيار الديني المسيس يسمح بهذا...ولا الحكومات!

3- تطغى "السياسة" وتطوراتها على معظم مجالات الحياة الأخرى في العالم العربي، وتحطم في أحيان كثيرة الاقتصاد والتعليم والحرية الفكرية، ولكنها لا تُولِّد في النهاية خبرة عصرية بالحياة أو تراكماً في التجربة السياسية، كأن يهجر الإنسان في بلداننا العقلية التسلطية، أو يتبنى مفاهيم جديدة حول حرية الفرد الفكريةوالاجتماعية، أو يدير ظهره للتيارات المتزمتة، فبعد تجارب طويلة ومؤلمة مع الدكتاتوريات العقائدية والعسكرية المتوالية في العالم العربي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، يتحمس عدد كبير من شباب العالم العربي، بل شيوخه، للدكتاتوريات الدينية وهذاهذا فشل مؤلم في مجال الثقافة السياسية وتجاهل لدروس تاريخية موجعة سيدفع الكثيرون ثمنه!

4- الثقافة العربية المعاصرة، كسلوك اجتماعي أو كممارسة حياتية أو كفكر وتعبير وعطاء عقلي، غير مسنودة بتعليم عصري حر، ولا بعقلية علمية واسعة النفوذ فالفجوة لا تزال واسعة بين الريف والمدينة، والمدارس والفصول مزدحمة، والمناهج والكتب الدراسية سيئة، والتسرب من التعليم العام كبير، وحرية النقاش والعقلية الناقدة أمور غير معروفة في الفصول...إلخ!

إنها كذلك ثقافة لا يؤثر فيها كثيراً أساتذة الجامعات وبخاصة أهل الاختصاص في العلوم الإنسانية مثلاً، كالعلوم السياسية وعلم الاجتماع والأديان والفلسفة والفن. ولا تؤثر فيها مراكز الأبحاث التي وتعاني الجامعات العربية والحياة الأكاديمية، حتى في دول عريقة مثل مصر أو دول ثرية كدول خليج، من معظم مشاكل التعليم العام، وبخاصة الازدحام ومشاكل الكتاب والمقررات ومختلف الضغوط على الحريات الأكاديمية. وللكُتّاب والمثقفين دور ملحوظ، ولكنه بدوره شديد الارتباط بقوانين الطباعة والنشر وضوابط الإعلام والخضوع للموروثات.

5- خامس ما يلاحظ من جوانب هذا المشهد، الوجود الثانوي الباهت فيها، للمرأة والثقافة النسوية -رغم كل مانراه ونتابعه -فالمرأة غير مُرحّبٍ بها في الحياة السياسية العربية إلا إذا اشتدت الضغوط وزاد الحرج، وغيابها الاقتصادي والثقافي لا يقل إلا بشكل محدود عن غيابها السياسي. والكثير من الأفكار السائدة في العديد من الشرائح والأوساط العربية عن المرأة، لا تنتمي إلى القرن الحادي والعشرين، بل لا يزال كل نشاطها الاقتصادي الإنتاجي وجل مكاسبها السياسية والثقافية وغيرها تحت رحمة الحكومات وتصارع التيارات السياسية وهيمنة قوى التشدد .

إن المدخل الحقيقي لتحديث الثقافة الاجتماعية العربية هو في إشراك المرأة في الحياة العصرية حتى إن لم تكن بحاجة إلى العمل خارج المنزل، إذ لا يمكن لأي ثقافة عصرية أن تظهر في مجتمعات العالم العربي والعالم الإسلامي، دون نيل المرأة حقوقها ودون إفساح المجال لها في مختلف الميادين والملاحظ أن ضعف تأثير المرأة في الحياة العربية ليس ناجماً عن تأثير السلطات بل في أحيان كثيرة وغالبة، عن ضغط التقاليد والقوى المحافظة.

6- تعاني الثقافة الاجتماعية العربية المعاصرة من انقسام ثلاثي حاد في مجال القيم والمرجعيات الأساسية. فهناك القيم والمبادئ الدينية وبخاصة الإسلامية، وهذه تشكل معظم الجوانب الأخلاقية والممارسات الاجتماعية في مختلف المناسبات.

وإلى جانب الدين هناك العادات والتقاليد والمؤثرات الاجتماعية العربية المستقاة من الشخصية القومية والثقافة واللغة وغير ذلك أما العنصر الثالث في هذه الثقافة، فهو القيم والمؤثرات العصرية والجديدة نسبياً على المجتمعات العربية مقارنة بالمؤثرات الدينية والقومية، وتتفاوت هذه المجتمعات في مدى التأثر والخضوع والتفاعل مع هذه المعطيات الثلاثة.

7- تتشكل الثقافة العربية، "الاجتماعية" و"الفكرية" وفق مؤثرات مستقاة من مصادر عديدة، وتتشعب قنوات الثقافة الفكرية بين ثقافة الكتاب، وثقافة الإعلام المقروء والمسموع والمرئي أضف الى ذلك وسائل التواصل الاجتماعي والشبكة العنكبوتية ،  ولا يزال الكتاب العربي ضعيف التأثير محدود التداول صعب الانتشار، في بلداننا بلدان العربية، ومعظم الكتب لا يطبع منها أكثرمن ألف نسخة وفي بعض الاحوال النادرة لا تزيد على ثلاثة آلاف نسخة، يحتار المؤلف أو الناشر في توزيعها. ومنا من يظن أن كل قادر على القراءة راغب في شراء الكتب، أو من يعتقد أن كل قارئ صحف  أو متابع لمواقع التواصل الاجتماعي متحمس كذلك لقراءة الكتب وقد دفع العديد من أهل الكلمة  ثمن هذين الوهمين في بعض ما نشروا من كتب!

وتعاني ثقافة الفكر في العالم العربي من محدودية حرية البحث والنشر، ومن ضعف وعشوائية نشاط الترجمة، وكذلك من غلاء و"لا جدوى" المنتج الثقافي في رأي قطاع واسع من المتعلمين والقراء!

وتهيمن الآن محطات التلفاز ومواقع الإنترنت والصحافة على معظم المشهد الثقافي العربي. ولكن الانقسام بين ثقافة التطرف أو التشدد الديني والثقافة الليبرالية حاد في هذا المجال كغيره، ولا يكاد الإعلام العربي يؤدي دوره المأمول في بناء عقلية ناضجة متسامحة هادئة لدى الجمهور، بل تلعب بعض برامج التلفاز والكثير من مواقع الإنترنت دوراً في غاية السوء والسلبية في المجال الثقافي والسياسي!

8- لا يكتمل فيما أرى أي نقاش حول "المشهد الثقافي العربي"، دون أن نتساءل جميعاً: من نحن وماذا نريد؟ هل نريد ثقافة وطنية محلية تزيد مجتمعاتنا تماسكاً، أم نريد "ثقافة قومية" تعيد فرز الشعارات الكبيرة التي فات أوانها، أم نريد ثقافة تمهد لزحف جماعات الإسلام السياسي على سائر مجالات المجتمع والثقافة؟

كيف نبني في ثقافتنا قيم الحداثة  بمعناها الحقيقي والتجديد وحرية الفكر والنقد الذاتي، وكيف نعيد النظر في القضايا التاريخية والأدبية الشائكة، وكيف نطور اللغة وأساليب التعبير وقواعد النحو، وكيف نشجع الاتجاهات الإنسانية في ثقافتنا؟ كيف نتجنب الغرق في خصوصياتنا، كيف نتجنب الوقوع ضحايا للأفكار التسلطية ومنتجات ثقافة ضيقة الأفق؟

والاهم ألم يحن الوقت لطرح أستراتيجية ثقافية جادة على أسس علمية تمزج بين الاصالة والمعاصرة وتنطلق من  تقافتنا العربية المستنيرة وقيمنا وتسعي لتربية جيل صاعد يتسلح بالوعي والانتماء والقيم الايجابية -وهذا ما نادينا به وننادي منذ أكثر من أربعة عقود-؟

لنبحث على أرض الواقع كذلك: ماذا سنفعل بزحف الثقافة الإلكترونية، ومشاكل التأليف والترجمة والنشر، وحقوق النشر، وارتفاع تكاليف المعلومات، وردم الفجوة بين التعليم العام والثقافة والكثير من شؤون الثقافة الأخرى؟ عشرات الأسئلة تطرح نفسها في حياتنا الثقافية وما من جواب واضح لها للأسف!

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم