صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: الترجمة في مجتمع بلا معرفة

يسري عبد الغنيتشير الإحصاءات في العالم العربي إلى تراجع الكتاب المقروء وإلى وتراجع مستويات الترجمة. ورغم وجود بعض المبادرات العربية للترجمة ألا أن الصعوبات التي يواجهها المترجمين ودور النشر المهتمة بنشر كتب مترجمة إلى العربية من العسير مواجهتها أو حلحلتها.

"لا وجود لتنسيق واضح ومنتج بين مختلف المؤسسات العربية ذات الاختصاص"

كانت الترجمة واحد من العوامل الأساسية في النهضة العربية الحديثة في بداية القرن التاسع عشر، فقد كانت بدايات صدمة الترجمة المعرفية هي التي فتحت الأبواب واسعة لمجتمعات عربية جديدة نامية قدمت إشارات كثيرة للنمو والتطوّر حيث أنشأت المُدن الحديثة وافتتحت المدارس والجامعات وانتشر تعليم الفتيات ودخل فنا الرواية والمسرح إلى الأدب العربي وانتشر المسرح والجريدة والمجلة والسينما والراديو والتلفزيون.

لكن هذه النهضة سرعان ما تحولت تحت تأثير الحرب الباردة وخطاباتها المتنوعة إلى نكوص بدأ تدريجياً وأخذ يسرع في الفترة الأخيرة بحيث فقدت جميع الخطابات مصداقيتها على أرض الواقع.

فالإحصاءات المتوفرة تشير إلى تراجع الكتاب المقروء، وانحطاط مستوى البحث العلمي في الأوساط الجامعية، أيضاً تدني مستوى الصحافة وابتعادها عن المهنية وانخفاض مستوى النشر وقلة المنشور وتراجع مستويات الترجمة.

معاناة المترجم أصبحت فوق الوصف ، وخصوصاً مترجم الأدب ، نستعير شخصية أسطورية هي شخصية القديس كريستوفوروس. إلا أن أي تكريم لصاحب الكلمة المترجمة يبقي رمزياً كالعادة ومجرد ورقة معنوية لا تسمن من جوع ولا تقي من العطش!

عرفت مصر كأول بلد عربي في العصر الحديث أولى الخطوات الأساسية في الترجمة عبر تأسيسها مدرسة الألسن عام 1836 وهي خطوات ستتكرر في مصر وفي غيرها من البلدان العربية فيما بعد لكن هذه المشاريع تنقطع لهذا السبب أو ذاك.

وهي مؤسسات حكومية مدعومة وأغلبها لا يملك الأطر التي تمكنه من أن يكون ذا نفع وتأثير بسبب محدودية الحرية الممنوحة كما كان الحال في سورية والعراق مصر والكويت.حيث ينخفض سقف الحرية إلى حد تزوير الكتب المترجمة وتقطيعها بسبب الرقابة المتيقظة أو بسبب نوع آخر من الرقابة والمتمثل في عمّال المطابع الذي أضحوا عسساً لسلطة متخلّفة تحرّض الدولة على ترجمات بعض  المؤسسات الثقافة المصرية

ولنقل جميعا أن الأفكار التي تتضمنها الكتب المترجمة  هي اجتهادات أصحابها في ثقافاتهم ولا تعبّر بالضرورة عن رأي الطابع أو الناشر أو المؤسسة الثقافية وهذا الكلام طريقة ذكية للتخلص من الرقابة، لكنها غير ممكنة في دول عربية أخرى كالكويت أو سوريا أو الإمارات العربية المتحدة.

فرفض نشر ترجمة الكتب أو "تهذيبها" عادة شائعة لكي تلاءم هذه الترجمات القارئ العربي اليوم. أيضاً أغلب هذه الترجمات ولارتباطها بموازنات مالية محددة لا يُعاد طبعها، ناهيك عن كون أغلب هذه الترجمات من التي يجب إهمالها وترجمتها من جديد.

والملاحظ العام أن الترجمات إلى العربية بأغلبيتها من اللغات الانكليزية والفرنسية وبشكل أقل من الاسبانية والروسية أيام الاتحاد السوفيتي وهي شبه معدومة اليوم، ولكنها قليلة جداً من اللغات الأوربية الأخرى، كما أنها نادرة من اللغات اليابانية والصينية وقليلة جداً من الفارسية والتركية والعبرية.

أيضاً لا وجود لتنسيق واضح ومنتج بين مختلف المؤسسات العربية ذات الاختصاص، وهي جميعها مؤسسات حكومية، ولا وجود لمنهجية واضحة، فأغلبها يعتمد الصدفة، وهي عبارة عن اقتراحات من المترجمين أو المؤسسات نفسها.

فنظرة واحدة على إصدارات هذه المؤسسات إذ لا وجود لخطة عمل واضحة، فتجد أعمال يورجن هابرماس بأسوأ ترجمة عن الفرنسية منشورة في سوريا، أو نيتشة منشوراً بالمغرب بترجمة عن الفرنسية أو في سوريا عن الايطالية.

ولكي نعرف كيف يحصل المترجم على ضالته من الكتب، علينا أن نعرف طبيعة المكتبات التي تهتم بالكتاب الأجنبي في البلدان العربية، فباستثناء مكتبات في لبنان وتونس والمغرب من التي تهتم بالكتاب الأجنبي بشكل جيد، فإنها فقيرة وشبه معدومة في أغلب البلدان العربية.

وعلى عكس مستواها الجيد في السنوات الستين الأولى من القرن العشرين، حيث كانت إمكانية الحصول على أي كتاب كبيرة وممكنة جداً، فإنها اليوم معقدة ومكلفة، فالمترجم العربي حاله الاقتصادية اليوم حال مواطنه، يعيش في عسر وقلّ منهم من يملك كارت الفيزا لكي يمكنه طلب الكتاب الذي يريده، في حال كانت الرقابة في بلده متسامحة نوعا ما أو جاهلة على الأقل.

ولا وجود تقريباً لمفهوم الأعمال الكاملة المترجمة لهذا المفكر أو ذاك الكاتب، وأن وجدت كما هو الحال مع أعمال وليم شكسبير أو موليير التي نُشرت ضمن النشاطات اليتيمة التي رعتها الجامعة العربية في الستينيات أو جارسيا لوركا التي نشرت قبل سنوات قليلة، فالأفضل أن لا يحتفظ القارئ بهذه الترجمات الممسوخة في مكتبته.

تنعدم تقريباً المؤسسات الأهلية ذات الاهتمام الثقافي في البلدان العربية وهي أن وجدت كما في مؤسسة عبد المحسن القطان الفلسطينية أو سلطان العويس الإماراتية أو عبد العزيز البابطين الكويتية أو عبد الحميد شومان الأردنية، فهذه المؤسسات تدور في حلقة مفرغة من انعدام رؤيا لما تريد عمله، وكل حلقة المستشارين محدودة الأفق، باستثناء المؤسسة الأولى.

أيضاً ثمة مشكلة نجدها تتكرر لدى المؤسسات الحكومية ودور النشر الأهلية، فنظراً لعدم التزامها بحقوق الملكية الفكرية نجد أحياناً للكتاب الواحد أكثر من ترجمة منجزة بأسرع ما يمكن، وخصوصاً كتب ميلان كونديرا وايزابيل اليندي وغابرييل غارثيا ماركيز وباتريك سوزكند.

وفجأة نجد الناشر العربي الجاد في مواجهة مؤسسة نشر حكومية تنشر ترجمات غير مأذونه لكتب يملك حق نشرها باللغة العربية ومن يصارع مؤسسات الحكومة من الناشرين العرب يكون مصيره غير محمود.

نأمل  في تطوير خطة للترجمة تراعي الأتي، تعتمد الترجمة عن الأصل، تحترم حقوق الملكية الفكرية، العلاقة المباشرة مع الناشرين أو وكلاء المؤلفين وتجنب العشوائية، - وهذه للأسف كانت السمة البارزة في معظم الكتب التي ترجمت ونشرت في المركز القومي للترجمة وغيره بالطبع – مع ضرورة تحسين مكافأة المترجمين وتوسيع مشروعات الترجمة لكي تشمل إسناد ترجمة ونشر المؤلفات العربية في اللغات الأخرى.

وهذه الخطوة الأخيرة بقدر ما هي مهمة وأساسية فهي يمكن أن تؤدي إلى عكس الهدف الذي تتوخاه، وذلك بسبب الضوابط المطلوب الالتزام بها والحرية المحدودة في الاختيار التي هي سمة أساسية في المشاريع الحكومية.

وكل هذا مرتبط بالطبع بالخطوة التي نحلم بها كمثقفين في أن تواصل  الدولة ومؤسسات المجتمع المدني رعاية مشروعات الترجمة بكافة أنواعها ودعمها بما يكفي من الأموال. خطوة واحدة من مئات الخطوات التي على المؤسسات العربية الحكومية والأهلية أن تخطوها لكي يتغيّر المشهد قليلاً ويتحول المستحيل إلى شيء ممكن نوعا ما.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم