صحيفة المثقف

علي جابر الفتلاوي: القلب السليم في القرآن الكريم

علي جابر الفتلاويوردت أكثر من مائة وثلاثين آية في القرآن الكريم تتحدث عن القلب في الاتجاهين الإيجابي والمقصود قلب المؤمن، والسلبي ونعني قلب الكافر أو المنافق وموارد أخرى، مقالنا اليوم يتحدث عن أحد أنواع القلوب التي جاءت في القرآن الكريم في الاتجاه الإيجابي، وهو القلب السليم، آيتان في القرآن الكريم وصفت القلب بالسليم. نذكرهما مع بيان معنى الآيتين.

الآيتان ترتبطان بالمعنى بآيات قبلها، وموضوع الآيتين النبي ابراهيم (ع).

قال تعالى:

(إلّا مَنْ اتى الله بقلبٍ سليم)(1)

(إذ جاء ربّه بقلب سليم)(2)

الآية الأولى من سورة الشعراء سبقتها الآية (يوم لا ينفع مال ولا بنون).

يقول البيضاوي: المال والبنون لا ينفعان أحدا إلّا كان صاحب المال، مخلصا سليم القلب عن الكفر وميل المعاصي وسائر آفاته، أو لا ينفع مال إلّا إذا اُنفق في سبيل البِر، مع إرشاد البنين إلى الحق، وحثّهم على الخير وقصد بهم أن يكونوا عبادا لله مطيعين شفعاء له يوم القيامة.(3)

جاء في (الميزان): (إلّا مَنْ أتى الله بقلبٍ سليم).

قال الراغب: السلم والسلامة التعري من الآفات الظاهرة والباطنة. النبي ابراهيم (ع) إذ سأل ربّه أولا ان ينصره ولا يخزيه يوم لا ينفعه ما كان ينفعه في الدنيا من المال والبنين، إذن من أتى الله بقلب سليم فإنه ينتفع به، لأن الآية تصرّح أنّ مدار السعادة يومئذ على سلامة القلب، سواء كان صاحبه ذا مال وبنين في الدنيا أو لم يكن. ويكمل السيد الطباطبائي في (الميزان)، تفسير قوله تعالى: (إذ جاء ربّه بقلب سليم) المراد بسلامة القلب خلوه عن كلّ ما يضر التصديق والإيمان بالله سبحانه من الشرك الجلي والخفي ومساوئ الأخلاق وآثار المعاصي وأي تعلق بغيره ينجذب إليه الإنسان ويختل به صفاء توجهه إلى الله سبحانه. ونقل السيد الطباطبائي عن تفسير القمي: القلب السليم الذي يلقى الله سبحانه وليس فيه أحد سواه. أو هو القلب السليم من الشّك.(4)  

ذكرنا أن الآية 89 من سورة الشعراء وموضوعها النبي ابراهيم (ع) مرتبطة بالمعنى بآيات قبلها، جاء في تفسير (المختصر المفيد) لتفسير الآية:

رغم الأمل الكبير للنبي إبراهيم (ع) بالله سبحانه، إلّا أنّه خائف من الخزي والعذاب يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولا بنون، إلّا من أقبل على الله بقلب طاهر سليم. المؤمن يعيش بين الخوف والرجاء. وهكذا يستعرض إبراهيم تصوّراته العقائدية بشكل دعاء صالح، وهو أسلوب الصالحين في الإقبال على الله، ومن الذين استخدموا اسلوب الدعاء لعرض التصورات العقائدية، الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع). وجاء في تفسيرقوله تعالى: (إذ جاء ربّه بقلب سليم) استمرت مسيرة التوحيد بعد نوح (ع)، ليحمل لواءها إبراهيم (ع) الذي اسلم وجوده لله سبحانه.(5)

نرى الآية مرتبطة بالمعنى مع الآية التي قبلها (وإنّ من شيعته لابراهيم) يعني ابراهيم من شيعة نوح، ومن السائرين على نهجه، ونستوحي من الآية أن الأنبياء يتعرضون لنفس المشاكل والمضايقات من أقوامهم من تكذيب وأذى وغير ذلك من الأمور المؤذية، رغم الفاصل الزمني بينهم.

من معنى الآيتين نستخلص دروسا في حياتنا، منها:

 أن في المجتمع أناسا ظاهرهم عكس ما في قلوبهم، وهؤلاء هم المنافقون، نحن نجهل نواياهم وخططهم إن كانوا يريدون جلب الأذى للفرد أو المجتمع، لكنّ الله يعلم ما في القلوب، ويحاسب الإنسان على الظاهر والباطن من الفعل والنوايا. المؤمنون واثقون من هذه النتيجة، لكن المنافقين ينسون أن الله يعلم ما في القلوب.

نستفيد من معنى الآيتين أن المؤمن بالله يعيش في خوف دائم من الله سبحانه ويشعر أنّه تعالى يراقبه على أفعاله ونواياه، هذا الخوف يدفع المؤمنين أن يفعلوا الخير للأفراد والمجتمع ولأنفسهم، يُفترض بالمؤمن أنْ لا يصدر منه إلّا فعل الخير، ولا يفكّر بأي فعل يؤذي الآخرين لأنّ الله يراقبه ويعلم بنيّته، إذا انتشر مثل هذا الشعور في المجتمع، سيعيش المجتمع في سعادة وهناء، الله تعالى يريد للإنسان أن يعيش في سعادة دائمة ولا تتحقق هذه السعادة إلّا إذا كان يشعر أن الله يعلم بفعله ونواياه.  على الإنسان المؤمن أن يؤخذ العِبرة من سلوك الأنبياء والأئمة والصالحين، نرى إبراهيم (ع) رغم منزلته عند الله تعالى، ورغم الأمل الكبير للنبي ابراهيم (ع) بالله سبحانه، لكنّه خائف من الخزي والعذاب يوم القيامة، يوم لا ينفع مال ولابنون، إلّا من أتى الله بقلب سليم، فكيف بنا نحن البشر العاديون، إنْ كنّا لا نعيش مثل هذا الشعور الذي كان يعيشه نبي الله ابراهيم (ع)؟

 يفترض أن يعيش شعور الخوف من الله كلّ إنسان في المجتمع، خاصة الإنسان الذي يمتلك مالا كثيرا، أو من يتولى مسؤولية، مَنْ لا يؤدي حقوق الآخرين، أو لا يخلص في أداء المسؤولية لا يخاف الله، الكثير من أصحاب المال والمسؤوليات يعيشون أحلاما من إيحاء الشيطان، يتجاوزون على حقوق الآخرين، ويشيعون الفساد في المجتمع، هذه الأسباب التي ينسى فيها الإنسان الله، ولا يشعر أن الله يعلم ما في القلوب، من عوامل انتشار الفساد، المفسدون لا يخافون الله وإن ارتدوا رداء الدين زورا، نفوسهم لا تشعر بالخوف من الله سبحانه وتعالى حتى وإن كانوا يدّعون الالتزام بالدين، نراهم يبررون لأنفسهم، ويجتهدون لتطويع  الدين لصالحهم. ليت المسؤولين والسياسيين يمتلكون بشكل دائم، شعور الخوف من الله تعالى الذي كان يشعر به النبي إبراهيم (ع)، ويشعر به جميع الانبياء والأئمة والصالحين حينئذ ستتحقق الرفاهية للمجتمع، ويعيش الناس في هناء وسعادة، شعور الخوف من الله سبحانه، وأنه تعالى يعلم ما في القلوب، ويحاسب الإنسان على فعله ونواياه، هذا الشعور باب من أبواب القضاء على الفساد.

أخيرا أقول ليت المسلمين يتدبّروا القرآن المجيد، ليستفيدوا من مبادئه وتوصياته في كافة مجالات الحياة، وهذه دعوة لكافة المسؤولين حتى وإنْ كانوا من غير المسلمين لأن حقيقة أن الله يعلم ما في القلوب، يقرّ بها أتباع الديانات كافة، وهذه دعوة للاستفادة من مبادئ القرآن في كل عصر، وفي جميع مجالات الحياة. 

 

علي جابر الفتلاوي

......................

المصادر

(1): الشعراء: 89 .

(2): الصّافات: 84 .

(3): عبد الله بن عمر البيضاوي، تفسير البيضاوي، م3، ص254 .

(4): محمد حسين الطباطبائي، ج15،ص206، ج17، ص108، ص114 .

(5): محمد علي التّسخيري، محمد سعيد النّعماني، المختصر المفيد، ص371، ص449 .

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم