صحيفة المثقف

يسري عبد الغني: الوهراني المقري بين المقامات والمنامات

يسري عبد الغنيهو أبو عبد الله بن محمد بن محرز الوَهْرَانيّ - بفتح الواو وسكون الهاء وفتح الراء وبعد الألف نون - أديب جزائري، عاش في القرن السادس الهجري (الثاني عشر الميلادي)، المظان التي رجعنا إليها سكتت عن تدوين تاريخ محدد لولادته، إذ تذهب بعضها إلى أنه ولد على الأرجح في عهد الدولة المرابطية في بداية القرن السادس الهجري، بمدينة وهرانإحدى مدن الجزائر، وصفها محمد الزياني بقوله: «وهي مدينة من مدن المغرب الأوسط بساحل البحر الرومي عظيمة ذات مساحة وفخامة جسيمة وبساتين وأشجار ومياه عذبة وأطيار وحبوب عديدة...»، ولقد شبّ بهذه المدينة وعاش بها عدد لا يستهان به من رجال الفكر والثقافة والأدب، ممن ذاع صيتهم وانتشرت سيرتهم عبر مختلف مراحل الحضارة الإسلامية.

لقد عاش الوهراني بموطنه الأصلي تحت سلطة الدولة المُرابطية (التي تأسست بالمغرب على يد يوسف بن تاشفين، وقد تمكن المرابطون من حكم المغرب الأقصى وشطرا من المغرب الأوسط من سنة 524 هـ /  1130 م إلى سنة 668 هـ /  1269 م)، ثم شهد الوهراني سقوط هذه الدولة واستيلاء الموحدين على عرشها (بإعلان المهدي بن تومرت لإمامته ورياسته سنة 515 هـ وقد استطاع الموحدون أن يبسطوا نفوذهم على دول المغرب العربي جميعا وشطر من الأندلس، فوحدوها تحت سلطانهم، حتى سقوط حاضرتها مراكش العام 668 هـ).

في هذا الظرف السياسي تعلم الوهراني ودرس مختلف العلوم الإسلامية واللّغوية، لكننا لا ندري إن كان قد تنقل عبر حواضر المغرب الإسلامي للتتلمذ على يد المشايخ أم أنه اكتفى بالدراسة في وهران، نظرا لكون المصادر التي ترجمت له لم تتحدث عن ذلك، كما أن آثاره التي خلّفها لم تُشر إلى ذلك أيضا.

ويبدو أن ابن محرز الوهراني كان يسمو إلى المعالي لقدرته على الإنشاء والكتابة الديوانية، لكنه لم يجد سبيلا إليها بموطنه الأصلي وهران ولا في بلدان المغرب الإسلامي الأخرى خلال عهد الموحدين، رغم أنهم «اهتموا بالشعر والشعراء وجعلوهم أصحاب رسالة اجتماعية ودينية لا يمكن الإخلال بها»، على أن تكون دفاعا عن كيان دولتهم ونشر مذهبها، وقياسا على هذا فقد استُبعدت الأغراض التي لا تخدم المذهب، والغالب أن الوهراني لم يتفق هذا التوجه السياسي وهَواه، فعزم على التوجه إلى المشرق العربي الإسلامي، فقصد القاهرة بالديار المصرية على عهد الدولة الفاطمية، لأن القاهرة آنذاك كانت تنافس بغداد وقرطبة في العلم واجتلاب العلماء والأدباء، فقد اعتبرت خزانة الكتب بها مفخرة العصر إذ «بلغت جملة ما في الخزانة من الكتب نحو مليون وستمائة ألف – وقيل مليونين – في الفقه والنحو واللغة والحديث والتاريخ وسيرة الملوك والنجامة والروحانيات والكيمياء»، كما كان الأدب شعره ونثره منتعشا أيما انتعاش في تلك الفترة «وقوي فيها قوة لم تعتدها مصر قبل هذه الدولة».

بالديار المصرية، شهد الوهراني سقوط الدولة الفاطمية بموت العاضد سنة 597 هـ ، وقيام الدولة الأيوبية، وكان الأدب من جملة ما اهتم به الأيوبيون فانتعش على أيامها، وتبوأ فيه الأدباء مكانة مميزة في بلاط الحُكم، فوقف الوهراني على وجود فطاحل الكتاب والبلغاء، ومن أبرزهم القاضي الفاضل (- 596 هـ) والعماد الأصبهاني الكاتب (- 597 هـ) وغيرهم من رجال الفكر.

طمح الوهراني إلى الالتحاق بديوان الإنشاء (الذي كان يحتل المرتبة الثانية من حيث الأهمية في العصر الأيوبي بعد ديوان الحبس، وكان القاضي الفاضل على رأسه في ولاية صلاح الدين الأيوبي)، لكن حِيل بين الوهراني وبين ذلك، حينها علم أنه لن يتمكن من منافستهم ومناهاتهم، وإلى هذا أشار ابن خلكان في ترجمته للوهراني بقوله «علم من نفسه أنه ليس من طبقتهم ولا تتفق سلعته مع وجودهم فعدل عن طريق الجِدّ وسلك طريق الهزل»ثم استقر رأي الوهراني على مغادرة مصر.

إلى هنا سكتت التراجم التي أرّخت للوهراني عن سفراته لبلدان أخرى، حتى ( اتخذ من دمشق دارا وكان قد استوطنها على أيام صلاح الدين الأيوبي، ليستقر أخيرا في قرية على باب دمشق في الغوطة تُدعى داريّا، عُيّن خطيبا في مسجدها لضمان مورد عيشه من جهة، وتجنبا لسلاطة لسانه وسخريته اللاذعة من جهة أخرى، حتى توفي بها سنة خمس وسبعين وخمسمائة للهجرة (575 هـ) الموافق لسنة ألف ومائة وتسعة وسبعين للميلاد (1179م)، ودُفن أبو عبد الله بن محمد بن محرز الوَهْرَانيّ - رحمه الله – على باب تربة الشيخ الداراني)

أدبه:

لقد خلف ابن محرز الوهراني منامات ومقامات ورسائل جمعها وحقّقها كلها ووضعها تحت عنوان "منامات الوهراني ومقاماته ورسائله"، كل من الأستاذين إبراهيم شعلان ومحمد نغش، مع مراجعة لعبد العزيز الأهواني العام 1968م، وقد اعتمد المحققان في إصدار آثار الوهراني على خمس نسخ، ونشير هنا، أن صلاح الدين المنجد سبق له أن نشر نُسخة رقعة على لسان جامع دمشق من مُؤلف الوهراني اعتمادا على نسخة برنستون فقط.

وعند تصفحنا لعمل الوهراني نجده مؤلفا من منامات ومقامات ورسائل تختلف من حيث الطول والقصر، وقد بلغ عدد النصوص التي يحتوي عليها الكتاب زهاء أربعة وأربعين نصا بين منام ومقامة ورسالة.

فأما المنامات فثلاثة ينتقل من خلالها الوهراني بخياله إلى العالم الأخروي تارة وعالم الجن والشياطين تارة أخرى، ويسعى إلى لقاء صلاح الدين الأيوبي في الدنيا نفسها لأنه كان حيّا يومئذ، وأهم هذه المنامات وأطولها "المنام الكبير"، الذي تصور فيه الوهراني أنه بُعث إلى يوم المحشر والتقى هناك بالعلماء والفقهاء والشعراء والوزراء والمتصوفين وغيرهم، تحاور مع بعضهم، ووصف أحوال آخرين، ويبلغ حجم المنام الكبير ثلاثة وخمسين صفحة من الكتاب المجموع.

ومنام الوهراني منثور في أغلبه، تتخلله أبيات شعرية من نظم الوهراني حينا ولغيره أحيانا أخرى، وعنه يقول ابن خلكان: «وَلَوْ لَمْ يَكنْ لَهُ فِيهَا إلاّ المنامُ الكَبير لَكَفَاهُ، فإنّه أتَى فيهِ بِكُلّ حَلاوَة، وَلَولا طُوله لَذكَرْتُهُ».

وأما المقامات فرصيد الوهراني منها ثلاثة، كتب الأولى في بغداد والثانية في صقليةوالثالثة [21]في شمس الخلافة، فأما مقامته البغدادية فحاول الوهراني من خلالها سرد بعض المسائل السياسية المتعلقة بمجال الحُكم والحُكّام، كتحدثه عن سيرة عبد المؤمن بن علي وآل أيوب، أما مقامته الثانية في شمس الخلافة فتُدرج ضمن إطار النقد الاجتماعي، إذ أزاح الستار عن ظاهرة الإخلال بالقيم الدينية والاجتماعية القويمة، والمتمثلة في ادّعاء الكثير من الناس التفقّه في الدين من غير عِلم، وقد جعل الوهراني من شمس الخلافة رمزا حيا لهذا النوع من الناس، بينما حاول في مقامته الثالثة والمسماة " المقامة الصقلية " مدح بعض الرجال في أحد المجالس.

وأخيرا أخرج الوهراني نماذج متنوعة من الرسائل ذات الموضوعات المختلفة والتي بلغت زهاء ثلاثة وثلاثين رسالة، أنطق فيها الجماد والحيوان، ففي رسالة كتبها على لسان جامع دمشق، جعل من هذا الأخير لسان حال مساجد دمشق وما حولها، ومشاهد ومدافن الأنبياء والمرسلين، فاجتمعت المساجد، ولجأت إلى أميرها جامع بني أمية، لترى ما هي فاعلة بعد ما مسّها من ضياع.

وكتب الوهراني على لسان بغلته إلى الأمير "عز الدين موسك"  تخبر البغلة فيها الأمير بحالها، بعدما أشرفت على الهلاك، لما تقاسيه وتعانيه عند مالكها من مواصلة الصيام، وقلّة الشعير والقضيم رغم ما يملكه سيّدها من مال كثير.

كما أنطق الوهراني المئذنة، فكتب على لسانها خُطبة على لسان قاضي القضاة، يطلب فيها من السامعين شكر الله تعالى على تشريف دولة أئمتهم من بني العباس بالقاضي "أبو القاسم عبد الله بن درباس"، ووصفه بأفضل الشيم.

وللوهراني رسالة في الطير، ذكر فيها محاسن كل ذي جناح وفضله على الإنسان والطبيعة، أما بقية الرسائل فموجهة للأمراء والقُضاة وأولي الأمر آنذاك، والأدباء والشعراء، فيها الكثير من التهكم بأشخاصهم.

وعن منامات الوهراني ومقاماته ورسائله يقول عبد العزيز الأهواني أثناء تقديمه  لهذا العمل الأدبي بعد تحقيقه: «هذه المجموعة من النصوص تمتَاز في تَاريخ النّثر الفنيّ في الأدب العَربي بميزاتٍ ترفعها إلى مقامٍ عالٍ (...) وأسلُوبه يُضيف للنثر العربي ثروة ويفتح للدّارسين آفاقا»، ويمكن لنا بهذا الوصف وبعد متابعتنا لمنامات الوهراني ومقاماته ورسائله أن نتبين الكثير من الميزات التي إن أخذت الأهمية التي تستحقها، كانت بحق موضوعا بحثيا متميزا يزيد من وعينا بتراثنا الأدبي وتمسكا به.

 

بقلم: د. يسري عبد الغني

.........................

الاسانيد

 ابن خلكان، وفيات الأعيان،

أبو الفلاح الحنبلي، شذرات الذهب في أخبار من ذهب

خير الدين الزركلي، الأعلام

إسماعيل البغدادي، هدية العارفين وآثار المصنفين

ابن عودة المزاري، طلوع سعد السعود في أخبار وهران والجزائر وفرنسا إلى آخر القرن التاسع عشر

 أبو القاسم الحفناوي، تعريف الخلف برجال السلف

 عادل نويهض، معجم أعلام الجزائر من صدر الإسلام حتى العصر الحاضر

يحيى بوعزيز أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة

عبد اللطيف حمزة، الأدب المصري من قيام الدولة الأيوبية إلى مجيء الحملة الفرنسية:

رشيد بورويبة وآخرون: الجزائر في التاريخ: .

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم