صحيفة المثقف

علي رسول الربيعي: مناقشة طروحات فولر في أخلاق القانون (1)

علي رسول الربيعيقصة ريكس وأخلاق القانون

يخبرنا لون فولر في بدايات كتابه (The Morality of Law)، قصة ملك يًدعى "اريكس لم يكن".[1] يأتي ريكس إلى العرش راغبًا في جعل اسمه كمشرع عظيم. لكن، لسوء الحظ، تفشل جهوده كافًة في تشريع القوانين بطرق مختلفة، لذلك لم ينجح أبدًا في تشريع أي قانون على الإطلاق. يحاول في البداية العمل دون أي قواعد، وإصدار قرارات فردية أرتجاليًة غير خاضعة لقواعد. ثم يقوم بإنشاء مدونة قانونية لتنظيم قراراته، لكنه تبقي محتوياتها سرية. ثم ينشر المراسيم، لكنها كلها بأثر رجعي. ثم ينشر مدونة القواعد المُتوقعة أو المحتملة مستقبلا، ولكن يكتشف أن أحكام هذه المدونة غامضة لدرجة أنها غير مفهومة من قبل رعاياه. يأتي بعد ذلك بمنظومة وهي عبارة عن مجموعة من القوانين يتكون من بنود كل منها واضح، لكن هذه المنظومة مليئة بالتناقضات، حيث يتم إبطال كل بند بحكم بند آخر مختلف. ثم يأتي بمدونة أحكام واضحة ولكن من المستحيل الامتثال لها. فيتبع ذلك بمنظومة تتغير باستمرار من يوم لآخر. وأخيرًا، ينتج ريكس منظومة واضحًة ومفهومًة، لكن يكشف مع الوقت أن أحكامه التي من المفترض أن تطبق المنظومة، من المستحيل التوفيق بينها وبين بنود تلك المنظومة.

لماذا يخبرنا فولر هذه القصة؟

إن فلسفة تشريع القوانين محاولة لإيجاد معنى متماسك ثوابت لفهمنا القانون. نتحدث عن القانون باعتباره يفرض التزامات ويمنح حقوقًا؛ علاوة على ذلك، نفترض أن القانون مرتبط بشكل وثيق بالعدالة. نحن نعلم أنه إذا كان يريد المرء أن يكتشف مضمون القانون، فيجب عليه أن ينظر إلى القوانين والحوادث السابقة، لأن القانون قائم على السلطة إلى حد كبير: فالعديد من القوانين، وربما جميع القوانين، ناتجة عن قرارات الأشخاص الذين لديهم السلطة القانونية لسن القانون. بقدر ما يكون القانون نتيجة لقرارات بشرية غير معصومة، فقد لايحقق العدالة بشكل كامل في بعض الأحيان، وربما يكون ظالم أو غير عادل للغاية أحيانًا. نعتقد أن القضاة يجب أن يطبقوا القوانين الموجودة أو المدونة، حتى وأنْ كانوا لا يتفقون معها؛ وأن قراراتهم لها تأثير في تشريع القانون، ولهذا السبب يجب أن تُخذ السوابق في نظر الاعتبار.

ليست هذه سوى عدد قليل من الأفكار والافتراضات التي تشكل فهمنا للقانون والمواقف تجاهه. وبالتالي فهي تساعد في تشكيل المجموعات التي تحكم بموجب القانون. لا نولي هذه الفكار الكثير من الاهتمام في معظم الأوقات: فننخرط في مناقشات قانونية تأخذ مثل هذه الأفكار كأمر مسلم به دون إخضاعها لتدقيق جاد. ومع ذلك، فإن فلسفة التشريع هي الجزء التأملي للفكر القانوني حيث يتم تقديم مثل هذه الأفكار لفحصها بعناية. وهذا هو السبب في أن لفلسفة التشريع، جانبًا مزدوجًا بوصفها انعكاسًا فلسفيًا للقانون وجزءًا لا يتجزأ من أشكال الفكر التي تشكل نظامًا قانونيًا. يمكن متابعة البحث في مسألة التشريع لقيمتها الجوهرية كأحد جوانب الوعي البشري المهمة، أو أحد الجوانب التي تعكس الأرتباط بين الأخلاقي والسياسي. أو يمكن أن تُفرض علينا من خلال ظهور مشاكل لا يمكن حلها بشكل مباشر من خلال ممارساتنا المألوفة وغير التأملية، وكذلك غالبا ماتوحي المشاكل بأن أفكارنا الشائعة حول القانون قد تكون متعارضة. نحن في حيرة فيما يتعلق بكيفية المضي قدما، أو ما ينبغي أن نستنتج. نجد أنفسنا نتساءل عما يجب أن يكون عليه القانون، إذا كانت مفاهيمنا المستقرة الأعتيادية هي إشارة سليمة لطبيعة القانون، أو حتى مكونة لوجوده؟

نعتقد،مثلًا، أن القانون له علاقة خاصة بالعدالة، ونشير إلى هذا الارتباط بالحديث عن المحاكم بوصفها "محاكم عدل"، ووصف القضاة بأنهم "يحققون العدالة وفقًا للقانون". ربما تنعكس الفكرة نفسها في الطريقة التي نتحدث بها عن القانون باعتباره يمنح الحقوق ويفرض الواجبات: فقد نسأل كيف يمكن أن يمنح القانون حقوقًا إذا لم يكن له أساس في العدالة؟ ومع ذلك، نعتقد أيضًا أن القوانين يتم تشريعها في الغالب من قبل بشر غير معصوم من الخطأ وتكون غير عادلة أحيانًا. لا تتعارض هذه الأفكار في معظم السياقات: لأننا ندرك أن الناس يمكن أن يختلفوا حول متطلبات العدالة، ونحن نقبل بأن وجود إطار مشترك من القواعد ضروري، حيث قد لايعكس تشريع القوانين من قبل السلطات المختصة المفهوم الخاص للعدالة الذي نفضله نحن. بعبارة أخرى، نقبل بأن "العدالة وفقًا للقانون" قد لا تكون هي نفسها العدالة المجردة، لأنه عندما تقوم المحكمة بالحكم طبقًا لمقتضيات "العدالة وفقًا للقانون"، فإنها تدير مفهوم العدالة المتجسد في القانون، و قد يختلف هذا عما أعتبر أن الفهم الأخلاقي أكثر صحة لهذه الفكرة. ولكن ماذا عن الحالة التي تكون فيها تشريعات السلطة غير عادلة حقًا، بحيث لا يمكن لأي شخص عاقل أن يعتبرها تجسيدًا لمحاولة تحقيق العدالة بحسن نية ؟ لنفترض، مثلًا، أن الحكومة بشكل علني ومن دون ذريعة تسعى إلى استغلال وقمع بعض الأقليات، دون أن تدعي حتى أن ذلك يتم لأسباب تتعلق بالعدالة؟ هل يمنحنا الارتباط بين القانون والعدالة سببًا وجيهًا للاعتقاد بأن مثل هذه التشريعات لا ينبغي اعتبارها قانونًا على الإطلاق؟ أم هل يجب أن نفكر في القانون على أنه مجرد مجموعة من المراسيم والأحكام الصادرة عن أولئك الذين لديهم سلطة فرض إرادتهم؟ هل ينبغي لنا أن نعتبر الصلات المفترضة بين القانون والعدالة على أنها صلات غير جوهرية، ربما لأنها بلاغية بحتة أو احتفالية،[2] أو ربما تنبع من ارتباط بين العدالة الشكلية واتباع القواعد دون أهمية أخلاقية عميقة؟[3]

تجعلنا مثل هذه الأسئلة ندرك أن مفاهيمنا المختلفة لا يمكن دمجها بسهولة في تفسير واضح لطبيعة القانون. كما أن المشكلات ليست مقتصرة على المواقف المتطرفة للأنظمة غير العادلة والاستغلالية علانية، لأنها موجودة في صميم تفكيرنا القانوني. كيف يمكن، مثلًا، أن يكون تشريع القانون على أساس السلطة المخولة قانونًا؟ من أين تنبع قوانين منح السلطة نفسها؟ وكيف يمكن للقضاة أن يكونوا ملزمين بتطبيق القانون الموجود مسبقًا إذا كان جزء كبير من القانون يتجسد في سوابق، تم إنشاؤها أوتشريعها من قبل القضاة في سياق الفصل في قضايا فردية؟ فكيف يمكن للمرء أن يلتزم بقانون موجود مسبقًا إذا كان لديه القدرة على تغيير القانون في كل مرة يتم تطبيقه فيها أيضًا؟ تكثر مثل هذه الأسئلة في اللحظة التي نبدأ فيها بالتفكير بجدية في افتراضاتنا العادية. يميل أولئك الذين يصرون على طرح مثل هذه الأسئلة إلى إثارة السخط والانزعاج، لأنه قد يُعتقد أن الأسئلة يجب أن يكون لها إجابات سهلة (إذا كان بإمكان المرء فقط التفكير فيها!) وأن أي مظهر يخالف ذلك هو وهم. ومع ذلك، فإن أي محاولة جادة لتقديم إجابات مناسبة ستكشف لنا الطبيعة المستعصية للمشكلة. أثبتت مفاهيمنا المسبقة عن القانون أنها توحي بصور مختلفة، يربط بعضها القانون بالأخلاق بشكل وثيق، في حين لا يفعل البعض الآخر ذلك. نظرًا لأننا نادرًا ما نعزل مفاهيمنا المسلم بها ونعرضها للتدقيق، فقد يكون من الصعب الوصول إلى بيان واضح لا جدال فيه بشأن مضمونها. قد يعطي المنظرون القانونيون المختلفون روايات مختلفة قليلاً عن هذا المضمون، وقد يكون من الصعب تحديد من التقط الأفكار ذات الصلة بدقة أكبر. سيقترح،بالتأكيد، الموقف النظري الذي يفضله الُمنظر هذا التفسير أو ذاك من افتراضاتنا الأعتيادية المألوفة ؛ ولكن، على المنوال نفسه، فإن أولئك الذين يميلون إلى نظرية مختلفة سوف يفسرون مفاهيمنا العادية بشكل مختلف. إذا قمنا ببناء نظريتنا القانونية على افتراض أن الارتباطات الوثيقة بين القانون والعدالة هي جزء من التفاهمات الراسخة التي نحتاج إلى تفسيرها، فسوف نشعر بالفزع من طريقة استجابة العديد من المنظرين القانونيين، لأنهم سيعتبرون حججنا مفتوحة للحل السهل.

كما يلاحظ برادلي، "ليس من السهل قول ما يعنيه الناس بكلماتهم العادية"، ويرجع ذلك جزئيًا إلى "العقائد الجاهزة التي نجلبها حيث تلون العمل كل ما نقوم به."[4] لطالما كانت طبيعة القانون محل نزاع شديد لعدة قرون لدرجة أننا قد نتساءل عما إذا كانت هناك أي أرضية محايدة متاحة. سوف تفتقر نظريتنا إلى أي قوة إقناع ضد منافسيها إذا انطلقت من مقدمات يرفضها هؤلاء المنافسون في البداية. ليس من غير المألوف على الإطلاق أن يستنتج طلاب القانون أن المنظرين المتنافسين يتحدثون ببساطة عن بعضهم البعض، لأنهم غالبًا ما يبدو أنهم ينطلقون من افتراضات قد يرفضها خصومهم. أين يمكننا أن نجد، في المشاجرة بين التأكيد والتأكيد المضاد، بعض التفاهمات االتي يمكن تأييدها على نطاق واسع والتي يحتمل أن تكون مثمرة من طبيعة القانون والتي يمكن أن تقدم وتتحسن حجتنا من خلالها؟

تفي قصة ريكس بعدد من الأدوار المختلفة في حجة فولر، وأحدها استجابة لهذه المشكلة. تذكرنا القصة بأن نظام الحكم بدون أي قواعد لا يمكن اعتباره نظامًا قانونيًا؛ ولا شكل من أشكال الحكم طالما كانت جميع القواعد سرية، أو بأثر رجعي، أو غير مفهومة، أو يستحيل الامتثال لها، أو حيث لا يتبع المسؤولون القواعد مطلقًا، أو كانت مليئة بالمخالفا، أو تتغير باستمرار. لا يتحدث فولر، مثلًا، عن أنظمة يتم فيها إبقاء العديد من القواعد سرية، أو تعمل بأثر رجعي. إنه يتحدث عن نظام تكون فيه جميع القواعد سرية أو بأثر رجعي.[5] تهدف الأمثلة الخيالية إلى تكوين بعض التفاهمات فيما يتعلق بالقانون: لكي يكون هناك قانون، يجب أن يكون هناك: (1) قواعد، وأن تكون القواعد (2) منشورة (3) محتملة الحدوث (4) معقولة (5) غير متناقضة (6) من الممكن الامتثال لـ (7) مستقرة بشكل معقول عبر الزمن، و(8) يتبعها المسؤولون. [6]

قد يبدو أن هذه الافتراضات توفر نقطة انطلاق قوية للحجة. لكن مشكلة الانطلاق من مثل هذه المقدمات التي تبدو واضحة هي أنه قد يكون من الصعب استخلاص أي استنتاجات أو مفيدة منها. يمكننا بالتأكيد أن نجد بعض الملاحظات العامة والشكلية حول العدالة التي يمكن أن نتفق عليها جميعًا إلى حد ما: ولكن هل يمكننا أن نستخلص من تلك الملاحظات أي استنتاجات مفيدة تعزز فهمنا لطبيعة العدالة حقًا؟[7] يواجه فولر مشكلة مماثلة لهذه. إنه يأمل في إثبات أن هناك علاقة ضرورية من الناحية المفاهيمية بين القانون والأخلاق، وبالتالي دحض القانون الوضعي. حاول آخرون الوصول إلى نتيجة مماثلة، لكنهم انطلقوا في الغالب مما قد يبدو أنه نقطة بداية واعدة أكثر. لقد أشاروا، مثلًا، إلى الطريقة التي نتحدث بها عن القانون بوصفه يفرض الالتزامات ويمنح الحقوق، وقد جادلوا بأننا لا نستطيع التفكير بشكل مناسب في القانون بهذه الطريقة إذا اعتبرنا أنه لا أساس في الأخلاق له. أو أشاروا إلى الطريقة التي نربط بها بشكل وثيق أفكار "القانون" و"العدالة"، ووصف المحاكم بأنها "محاكم العدل" والتحدث عن القضاة على أنهم "يحققون العدالة وفقًا للقانون". قد يبدو بناء حجة تربط القانون بالأخلاق من خلال هذه مقدمات. لكن لسوء الحظ، يمكن للقانونيين الوضعيين أن يقدموا ردودًا مقنعة بشكل معقول من شأنها أن تسلب من البداية ما يظهر كقوة لها. وهكذا، يمكن للقانونيين الوضعيين أن يزعموا بشكل معقول أن لغة الالتزام القانوني تعبر فقط عن نتيجة حول قابلية تطبيق قاعدة ما، أو حقيقة أن إجراءً مطلوبًا بموجب قاعدة ما، دون الاستناد إلى أي نوع من الموافقة الأخلاقية على القاعدة أو تطبيقها.[8] يفسر الوضعيون الارتباط الوثيق بين أفكار "القانون" و"العدالة" على أنه ينبع من حقيقة أن العدالة تتعامل مع القضايا على حد سواء. وبالتالي، هناك ارتباط قوي بين فكرة العدالة والتطبيق المتسق للقواعد. لأنه عندما يطبق المرء أي قاعدة، فإنه يعامل الحالات على حد سواء من حيث المعايير التي توفرها القاعدة. ومع ذلك، فإن هذا لا يثبت أن القاعدة عادلة، أو أن تطبيقها صحيح أخلاقيًا.[9]

ليس من السهل على الوضعيين رفض متطلبات فولر الثمانية: لا يرغب الا القليل في الأعتراض على أن نظامًا لا يحتوي على قواعد على الإطلاق، أو حيث تظل جميع القواعد سرية، أو لا يتصرف المسؤولون مطلقًا وفقًا للقواعد (على سبيل المثال) يمكن اعتباره نظامًا قانونيًا. وبالتالي، لا يعترض معظم الوضعيين القانونيين على نقطة بداية فولر، لكنهم جادلوا بأن لا يمكنه بمثل هذا لنظام الأساسي المتشدد أن يستمد أي استنتاجات بشكل صحيح من شأنها أن تؤسس ارتباطًا مفاهيميًا بين القانون والأخلاق. ظل الباحثون يتجادلون حول هذه القضية منذ ذلك الحين حيث أيدت الغالبية العظمى االقانون الوضعي وظظل عدد قليل مصرين على أن فولر كان على حق.

تكشف قصة ريكس كيف أن الجهد المبذول لإيجاد قانون يمكن أن يخطئ فيؤدي الى عواقب وخيمة. يجب أن يُفهم القانون، كما يرى فولر، بوصفه نشاط بشري هادف: أنه من صناعة البشر ويجب فهم سماته المميزة للقانون بالرجوع إلى النقطة الأساسية وهي أنه نشاط بشري. شرع ريكس في تشريع قانون، ولكن بعد سلسلة من المحاولات الفاشلة، وفي ضوء تلك التجربة، كان في وضع يسمح له بفهم طبيعة الهدف الذي حدده لنفسه تمامًا. لقد كان بعد هذه الإخفاقات في وضع يسمح له برؤية أنه من أجل تشريع قانون، يجب على المرء أن يضع قواعد منشورة، محتملة (الوقوع)، مفهومة، غير متناقضة، يمكن الامتثال لها، مستقرة بشكل معقول عبر الزمن، ويتبعها المسؤولون. وهنا بدا يفهم ريكس ما كان عليه أن يفعله عندما بدا في تشريع القانون . لقد اكتشف أن هدفه معقد بطرق لم يتوقعها، وأن محاولات المرء لبلوغ هذا الهدف يمكن أن تنجح بطرق متنوعة.

يعكس هذا، من وجهة نظر فولر، ميزة شائعة في تجربتنا الأخلاقية والسياسية: فنحن نعمق أحيانًا فهمنا لطبيعة قيمة أو هدف من خلال تجربة السعي وراءه.[10] إن المجتمع الذي يسعى إلى "الحرية" أو "المساواة"، على سبيل المثال، سوف يتعلم في سياق السعي وراء هذه القيم، قدرًا كبيرًا مما تعنيه حقًا. ينطبق الأمر نفسه على القانون من وجهة نظر فولر. وهذا هو السبب في أن كتاب "أخلاق القانون" مختلف جدًا في طبيعته عن معظم الكتب الفلسفية الحديثة حول طبيعة القانون أو العدالة. بينما نتجاوز قصة ريكس الرفيعة وغير الواقعية، ونقرأ متن أخلاق القانون، نتعرف على مجموعة واسعة من الخبرات الإنسانية المستمدة من تاريخ محاولات تشريع نظام قانوني والحفاظ عليه. يعتقد فولر أن التفكير في هذه الخبرات أو الأمثلة سيعمق فهمنا لفكرة القانون. معظم أعمال فلسفة التشريع والقانون لا تفعل هذا: فهي تميل إلى تقديم نظام فقير من الأمثلة، وكثير منها مستمد من خيال الكاتب وليس من التجربة التاريخية الفعلية.

يختلف التقليد الفلسفي حول مدى صلة الخبرة الحياتية بفهم الأخلاق. يخبرنا كانط، مثلًا، أنه يمكن حتى للشخص عديم الخبرة في مجريات العالم (وعلى ما يبدو، في جميع الظروف) معرفة ما يتطلبه واجبه الأخلاقي.[11] لكن نلاحظ أن فولر أقرب كثيرًا إلى التقليد الأرسطي هنا. فيشير،[12] الى أن أرسطو قد تنبه منذ البداية الى أنه من السهل معرفة ما تتطلبه العدالة، اذ أن هناك قواعد ثابتة للتعامل العادل يمكن تعلمها بسهولة. لكن تكشف لنا التجربة أن تطبيق مثل هذه القواعد على ظروف الحياة البشرية بعيد كل البعد عن الوضوح: فهي تتطلب حكمًا سليمًا مستنيرًا بنوع من الحكمة الأخلاقية التي تأتي كثمرة للتجربة.[13] يقول فولر أن هناك بالتشابه مع المتطلبات الثمانية. قد يكون من المناسب التحدث عن ثمانية متطلبات منفصلة، لكن لا ينبغي اعتبارها منفصلة عن بعضها تماما، لأنها "لا تصلح لتعبير منفصل وقاطع".[14] يجب أن تؤخذ جنبًا إلى جنب، لإفساح المجال للطريقة التي يمكن لكل واحد من خلالها تأهيل الآخرين. إنها ليست مبادئ أخلاقية مميزة، يجب أن يُنظر إليها بشكل مستقل: بل إنها تمثل جوانب مختلفة لطموح واحد. في ظل ظروف القلق الحقيقي، تؤدي المتطلبات الثمانية إلى مطالب متضاربة. وبالتالي، "لا يمكن النظر إلى يوتوبيا القانون على أنها حالة تتحقق فيها كل رغبة أو أمنية في الأخلاق الخاصة بالقانون إلى حد الكمال".[15] إن درجة معينة من الامتثال للمتطلبات الثمانية ضرورية إذا كان المرء يريد أن يكون لديه قانون على الإطلاق؛ لكن السعي لتحقيق أكثر من حد أدنى من الامتثال سيضع على عاتق المشرع سلسلة من المطالب التي لم يكن أحد يتوقعها. وبالتالي، فإن السعي وراء مثال أو مبدأ الشرعية القانونية يتطلب الحكم والحكمة، حيث يتم إثراء فهم المرء لمتطلبات المثل الأعلى باستمرار من خلال التجربة.

 

الدّكتور عليّ رّسول الرّبيعيّ

......................................

[1] Fuller, L. The Morality of Law, revised edn, (New Haven: Yale University Press, 1969), p.33.

[2] Raz, J. "Professor Dworkin's Theory of Rights", Political Studies (1978) 26, p.123.

[3] Hart, The Concept of Law, (Oxford: Clarendon Press, 1994), Ch 8.

[4] Bradley, F.H. Ethical Studies, 2nd edn (Oxford: Clarendon Press, 1927), p.2.

[5] Dworkin, R. Justice in Robes (Cambridge, Mass: Harvard University Press, 2006), especially Chs 6, 7 and 8.

[6] ربما كان ينبغي على فولر أن يضيف بعض المتطلبات الأخرى إلى قائمته. على سبيل المثال، يبدو أنه يعتبر أنه من المسلم به أن سيادة القانون تتطلب من الدولة استخدام القوة أو الأكراه فقط ردًا على انتهاك قاعدة (منشورة، مستقبلية، إلخ)، ولكن ربما كان ينبغي عليه توضيح ذلك على أنه قانون منفصل. (وأساسي للغاية) شرط. كان بإمكانه أيضًا توضيح أن القواعد التي تُخضع الأفراد لسلطة تقديرية واسعة للآخرين تنتهك سيادة القانون. وللمضي قدمًا، ربما كان من الحكمة تضمين شرط أن القواعد يجب أن يتم فرضها بواسطة عقوبات عند الضرورة: لكي تعيش في ظل حكم القانون هو أن تعيش ضمن ضمان أنه يمكن الاعتماد على الآخرين لأداء واجبهم، وهكذا التأكيد غير ممكن (بالنظر إلى ظروف العالم الحقيقي) في غياب العقوبات. إن الحاجة إلى الإنفاذ ليست ضمنية بالضرورة في مطلب فولر للتوافق بين الإجراء الرسمي والقواعد المعلنة، ويبدو أن هذا عيبًا في النظرية.

[7] أنظر مثالا على هذه المقاربة:

Gewirth, A. Reason and Morality (Chicago: University of Chicago Press, 1978).

[8] Hart, Essays on Bentham (Oxford: Oxford University Press, 1982), pp.153-161.

[9] Hart, The Concept of Law, Ch.8.

[10] Fuller, L. The Principles of Social Order, K. Winston (ed.), (D NL: Duke University Press, 1981), pp.47-64.

[11] أنظر : أمانويل كانت، تاسيس ميتافزيقا الأخلاق، تر وتقديم:د. عبد الغفار مكاوي، دار الجمل، كولونيا-المانيا 2002.

[12] Fuller, L. The Morality of Law, p.94.

[13] يشير فولر الى/ أرسطو أخلاق نيقوماخوس، الكتب الخامس من الأعمال الكاملة بالأنجليزية

[14] Fuller, L. The Morality of Law, p.104.

[15] Fuller, L. The Morality of Law, p.45

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم