صحيفة المثقف

بيك نام نيونغ: الصديق

2734 بيط نامبقلم: بيك نام نيونغ

ترجمة: صالح الرزوق

كانت المحكمة العليا تأوي بين جبال على مشارف المدينة. وصف من أشجار الشوح الطويلة تحرس الطريق حتى بوابات المحكمة. وبعد البوابات تستقبل الزوار باحة هادئة ومترامية الأطراف. وهذه الباحة، المحاطة بأشجار المخروطيات، توفر للزوار كفايتهم من الهواء المنعش، وهم يتأملون السلالم الطويلة والعريضة التي تقودهم لقاعة المحكمة. أما النوافذ الكبيرة، والأعمدة ذات الرؤوس، والأبواب المرتفعة، فتمنح المدخل مهابة واضحة. ومع أن المحكمة العليا تعالج قضايا جنائية ومدنية، فإن الواجهة العميقة للمبنى تعطي الانطباع  بالأهمية والمهابة والترفع. لا يعرف العديد من سكان المدينة موضع المحكمة العليا ولم يسمعوا بوجودها أصلا. وأولئك الملتزمين بالقانون أو الذين يعيشون في كنف عائلة محترمة، لا يوجد لديهم أي سبب ليأتوا إليها.

حلت الكآبة على القاضي جونغ جن وو وهو ينظر لطلب طلاق موجود أمامه على الطاولة. كان مثل أي صياد يحاول فك عقدة سنارة الصيد، لكنه امتعض من عبء التعامل مع بؤس عائلة لا يعرفها.

احتفظت امرأة في الثلاثينيات برأسها منكسا أمامه لتتجنب نظرة القاضي جونغ جن وو. وكان يأتيه عبير عطرها الخفيف وذكي الرائحة، المناسب لثوبها الرقيق والحديث والذي كشف عن رقبة بيضاء ملتفة. كانت سكرتيرة القاضي جونغ جن وو قد تعبت من طرد المرأة بحجة أنه غير موجود وهو مشغول برحلة عمل و سينظر بطلبها حالما يعود بعد بضعة أيام، ولكن المرأة انتظرت في ممرات المحكمة لعدة ساعات كما لو أن قدميها مسمرتان بالأرض. ولم يبق أمام القاضي جونغ جين وو مفر من أن يستدعيها لمكتبه.

ارتجفت المرأة وبدأت تبكي. وانتظر جونغ جين وو حتى تتمالك نفسها قبل أن يقدم لها استمارة طلاق.

الاسم: شي صن هيي.

العمر: 33.

العنوان: منطقة جانغ أن، # 19.

المهنة:

عند رؤية “المهنة”، شعرت صن هيي بقلبها يخفق باليأس، ولم يبق لديها قوة لتتابع، وألقت قلمها جانبا.  ولاحظ القاضي جونغ جن وو اضطراب المرأة، وقرر أن يستكمل كتابة الاستمارة بنفسه. كان يعرف مهنتها جيدا. فهي مطربة محترفة، وقائدة فرقة ميزو سوبرانو في شركة فنون المقاطعة. وكان يزور المسرح، مرة كل عدة شهور، ليستمع لغنائها. كان لدى صن هيي قوة لجذب الجمهور لعالمها الموسيقي لما امتلكته من صوت ملائكي. وكانت تتلقى التهاني وباقات  الزهور كل أمسية - تلك هي حياة الشهرة لمن هو على شاكلة صن هيي.  في كل حال اليوم أحضرت معها مشاكل زواجها لقاعة المحكمة، شيء لا يمكن لمحبيها أن يتوقعوه أبدا. وفكر القاضي جونغ جن وو: لماذا ترغب بالطلاق؟. هل هي وزوجها لا ينعمان بحياة جنسية طيبة؟. أو لعل زوجها عاجز. لا، لا يمكن ذلك. فهي لديها ابن.

رأى القاضي جونغ جن وو، في طريق عودته إلى البيت في إحدى الأمسيات، صن هيي وابنها المتجهين لمنطقة جانغ أن، وهو مجمع سكني من بيوت بطابق واحد، ولم يكن موضعه بعيدا عن شقته.

لا بد أن زوجها متورط بعلاقة غرامية مع امرأة غيرها. وأمل جونغ جن وو أنه ليس غراما جادا. أو ربما المشكلة  خلاف لم يمكن حله مع أهل زوجها. وخامره الأمل أنه كان جدلا عقيما حملها لسلالم هذه المحكمة. العديد من المتزوجين حديثا، ممن كانت لديهم أحلام مخملية عن الزواج والعائلة في زمن الشباب، دخلوا من أبواب هذه المحكمة وليس لديهم غير مشاكل تافهة، متوهمين أنها تراجيديات لا يمكن تحملها.  لكن بدأ القاضي جونغ جن وو يفهم بالتدريج أن صن هيي لم تأتي إليه بموضوع صغير. كانت هيئة صن هيي كلها - عيناها الفارغتان، ملامحها المنهارة، وروحها المتهدمة، ووضعها العصبي - ينم عن هم عميق تراكم لعدد متواصل من السنوات. سحبت صن هيي منديلها لتمسح معالم يأسها وقلقها. وبيديها الناعمتين، أبعدت الشعر المنسدل على وجهها وحاولت أن تتماسك أمامه. وسمحت بخروج تنهيدة بسيطة ونظرت إليه نظرة ملؤها الاعتذار وطلب المغفرة.

قالت:”مهنتي هي...”.

“أعرفها مسبقا. أخبريني من فضلك باسم زوجك”.

“اسمه لي سوك شون”.

“عمره؟”.

“هو في الخامسة والثلاثين”.

“مهنته؟”.

قالت:”يعمل في مصنع جانغ آن للآلات. وهو المشرف على المخرطة”. وارتعش صوت هيي من النحيب، ومع ذلك، لم يخامره الشك أنه صوت المطربة الرقيقة. بعد أن دون المعلومة على الاستمارة، سألها:”لديك ابن، هل أنا محق؟”.

بكت صن هيي مجددا وقالت:”ابن؟ ابني. آه يا عزيزي...”. وآلم قلبها التفكير بمصير ابنها البائس. كان جونغ جن وو يعلم جيدا بعد سنوات من التجارب أن النساء اللواتي تطلبن الطلاق عموما تجدن صعوبة بالغة في مناقشة موضوع أبنائهن. والزوجان المطلقان، غالبا يتجاوزان ويهملان ويهجران الابن حينما يتفاقم القلق والحنق واليأس من شريك الحياة. ولكن كلما وقفت امرأة أمام القاضي، تستيقظ غريزتها الأمومية. الأم تكافح من أجل الحضانة وتخاف بنفس الوقت على مصير ابنها البريء. ولكن هناك نساء لا تنظرن للطفل على أنه ضحية بلا ذنب، وتكون الأولوية للطلاق دون أي اهتمام بالمصير البائس الذي ينتظره الابن. وأمل جونغ جن وو أن لا تكون صن هيي من هذا النوع من الأمهات.

سأل بصوت ناعم:”كم يبلغ عمر ابنك؟”.

“سبع سنوات”.

“إذا له الأولوية”.

“في الحقيقة ولدته بوقت مبكر، لذلك سينتهي من الروضة في هذا الخريف”.

توقفت صن هيي عن النحيب و بدأت ترتب شهرها المبعثر بيدها.  وتوقف صوتها عن الارتعاش، وبدا أنها هدأت.

سألها:”متى تزوجت؟”.

سألته صن هيي مع تقطيبة خفيفة:”هل هذه نقطة هامة؟”.

“الزواج عقد قانوني. وعليه لا بد من معرفة تاريخه”.

تلعثمت صن هيي تقول:”أعتقد... في 10 أيار... 1974”.

التفتت صن هيي  برأسها  بعيدا، ونظرت لزاوية الطاولة. وأيقظ هذا التاريخ دون شك العديد من الذكريات الطيبة، ولكنها مختلفة تماما عن ما تشعر به الآن. وحاولت جهدها أن لا تفكر بالأيام التي رحلت. وعندما أوشك جونغ جن وو أن يسجل التاريخ، نظر للتقويم المعلق على الجدار وراء صن هيي. وفكر بسره: تاريخ اليوم هو 24 نيسان، وفي غضون أسابيع قليلة، سيكون قد مر على زواج هذه المرأة عشر سنوات.

قال لها:”حسنا يا رفيقة صن هيي. هل بمقدورك أن تبرري لي طلب هذا الطلاق؟”.

وأصاب سؤال القاضي صن هيي بالصمم. فقد كان من الواضح لها لماذا يأتي شخص إلى المحكمة ويسجل طلب طلاق. وأعاد القاضي صياغة سؤاله قائلا:”لماذا تفكرين بالطلاق من زوجك؟. بتعبير آخر ما هو الدافع وراء طلب الطلاق؟”. وأشار جونغ جن وو للاستمارة بقلمه وأضاف بهدوء:”هنا في هذه الوثيقة القانونية، يوجد فقرة تدعى: ملخص طلب الطلاق”.

وتابعت صن هيي الكلام بصوت جازم:”كما ترى، أنا وسك شون لسنا على علاقة حسنة. وكانت هذه أحوالنا منذ سنوات”. وارتعش صوتها وهي تضيف:”حاولت جهدي أن أتمسك بالصبر، ولكن نفدت حيلتي”. وكان على ما يبدو أنها أوشكت على متابعة النحيب.

سألها جونغ جن وو:”كيف حصل أنك لست على ما يرام مع زوجك؟”.

لم ترد صن هيي.

قال القاضي بمحاولة للتفاهم معها:”لا يمكنني إقناع المحكمة أن تدرج النظر بطلاق دون سبب مشروع”.

فجأة انفجر غضب لا يمكن التحكم به داخل صن هيي، ورفعت صوتها تقول:”لا يمكنني أن أعيش معه أبدا!. ببساطة انقطعت كل السبل!. ولا توجد حكمة من الاستمرار. طباعنا مختلفة تماما”.

كان القاضي جونغ جن وو معتادا على هذه الفورات العصبية بعد سنوات من طلبات الطلاق والنظر بها. استغرق لحظة قبل أن يتابع. ثم قال:”ما هي طباع زوجك؟”.

“معدوم الإحساس و أبكم كأنه صخرة صماء”.

أكد لها جونغ جن وو:”قلة الإحساس ليست أخلاقا طيبة. ولكن رجل قليل الكلام من الصفات الحسنة”.

وجادلت صن هيي تقول:”لو أنه رجل قليل الكلام لتمكنت من التأقلم معه. لكنه لا يعرف كيف يدخل بحوار مقنع دون أن يشتمني خلاله. إما يعاملني بصمت أو يتذمر من أتفه الأمور”.

وبدلت صن هيي تعابيرها مباشرة لتكسب عطف جونغ جن وو. وقالت:”أيها الرفيق القاضي، أناشدك أن تساعدني. كنت أعيش حياة محرومة من الحب مع سوك شون لعدد من السنوات. ويحرجني أن أبدو كذلك بعيون الآخرين. وكنت أنوي القدوم للمحكمة قبل فترة، لكن ابني، كما ترى ..”.

صب القاضي جونغ جن وو كوبا من الماء لصن هيي وقال:” رفيقة صن هيي، من فضلك اشرحي لي ظروفك بأسلوب هادئ ومتزن”.

“كما ترى، أسلوب حياتنا لا يحكمه إيقاع واحد”.

“ماذا يعني إيقاع واحد؟”.

“مثل الموسيقا. الزواج يشبه ألحان الموسيقا”.

أصغى جونغ جن وو باهتمام. وركزت صن هيي نظرها بعينيه وقالت:”فقط فكر بالموضوع أيها الرفيق القاضي. هل يمكن للطبلة والفلوت أن يكونا صوتا واحدا؟. أليس من المستهجن أن تجمع في رباعية صوت المذكر والمؤنث؟”.

“هذا في الموسيقا من ناحية فنية..”.

وقاطعته صن هيي بقولها:” لا يوجد حياة دون فن. والزواج فن. وحينما لا تكون الأمور على ما يرام. تتحول لفظاعة. سوك شون يمقتني ولا يعاملني معاملة كائن بشري. علاوة على ذلك هو ينتقد طريقة اختياري للثياب!. وإذا حضر زملائي من المسرح لبيتنا، إما نغلق الباب و نذهب لغرفة أخرى أو يغادر فقط لأنهم لا يرغبون أن يقتربوا منه. أيها الرفيق القاضي، كيف يمكنني أن أعيش مع رجل من هذا الطراز؟”.

لم يمكن جونغ جن وو أن يستوعب ردها، لذلك قال:”لا يمكن لزوجك أن يفعل ذلك مع امرأة لطيفة مثلك دون سبب وجيه. فما هو السبب برأيك؟”.

خفضت صن هيي نظرها وتمسكت بزاوية من ثوبها. قالت:”لا أعلم حقا. ليس لأنني لا أحبه. حاولت جهدي أن أحترمه وأستوعبه”.

لم يقتنع القاضي جونغ جن وو. واقترب أن يفقد أعصابه. فأصر:”كيف من الممكن أن تحبي زوجك وتعيشي حياة زوجية محرومة من الحب في وقت واحد؟”.

فتحت صن هيي عينيها على وسعهما ونظرت بالقاضي نظرة عميقة. وصدمتها نظرة القاضي الباردة وسؤاله المباشر. وفقدت عيناها بريقهما وغلبها الحنق. وردت:”كنت مخلصة لزوجي!. وقفت بجانبه وضحيت من أجل نجاحه بالعمل في مشروع واحد استغرق منه خمس سنوات كاملة. وكنت صبورة معه.  ولم أهتم إن لم ينفق راتبه على البيت ولم يساعد بالشؤون المنزلية. تحملت كل ذلك - الإهانة، والعنف الجسدي - وعشت معه كل تلك السنوات. لقد بذلت كل ما باستطاعتي لينجح زواجنا”.

وصمتت صن هيي لدقيقة من الوقت لتلتقط أنفاسها وأضافت:”لا. لا. لم يعد بمقدوري تحمل المزيد. لا يمكنني تحمل ذلك!. أنا مغنية. وأحب الغناء، وأحب جمهوري. ولن أضحي بأحلامي، ولا بمستقبلي، فقط من أجل مزاج زوجي”.

“ولماذا لم يكن زوجك ينفق على البيت؟”.

أدرك القاضي جونغ جن وو من خبرته الطويلة أن المصاعب المالية قد تودي بالزوجين لطلب الطلاق. ولكنه أمسك نفسه من القفز لنتيجة دون مزيد من التفكير، وسألها هذا السؤال فقط ليفهم الحقيقة وراء قضية الطلاق وأسبابها. امتعضت صن هيي وأبدت حنقها من زوجها قائلة:”ارتكب أخطاء مهنية وأفسد عمله، وكلف ذلك المصنع ثروة. وانتابه الشعور بالذنب، وحاول أن يعوض عن أخطائه بغرامة من راتبه. وهو لا يزال يدفع لقاء تلك القطع التي أفسدها”.

وحاولت صن هيي أن تستند بأصابعها على طرف الطاولة. واحتقنت الدموع في زوايا عينيها، ولكن استمرت نظرتها ثابتة ومستقرة.

“حسنا يا رفيقة صن هيي. الآن، لماذا لم يرافقك زوجك اليوم؟”.

“قال سوك شون إنه من المهين أن يحضر للمحكمة. وقال إنه ليس لديه الوقت ليتكلم عن مشاكله العائلية. ولكن أنا موقنة أنه موافق على فكرة الطلاق”.

سجل جونغ جن وو ملخص وجهة نظر صن هيي حول طلب الطلاق، ولكنه كان يعلم أن هذا جانب واحد من المسألة.

نظرت صن هيي للاستمارة الرسمية وأمسكت أنفاسها بشيء من التفاؤل. وبعد تنهيدة قصيرة، سألت بلباقة:”متى تعتقد أن جلسة الاستماع لطلب الطلاق ستنعقد؟”.

رفع جونغ جن وو نظره عن الاستمارة وقال:”الطلاق ليس تمثيلية. ويمكنك الظهور بها على المسرح والانصراف كيفما اتفق. يجب أن اقابل زوجك وأستمع لوجهة نظره، ثم يجب أن أستشير اللجنة الشعبية وإدارة مصنعه، وبعد ذلك..”.

قاطعته صن هيي بقولها:”أنت غير مقتنع بما قلته؟”.

توجب على جونغ جن وو أن يدخل بثقله لحسم هذا الموضوع. قال:”القانون لا يقر بدعوى طلاق استنادا على ادعاء طرف واحد. المداولة تقوم على أساس العدل والموضوعية”.

تمسكت صن هيي بطرف ثوبها كما لو أنها ارتكبت فعلا شائنا، وبعد دقيقة، نهضت من كرسيها. وقالت:”أيها الرفيق القاضي. اسمح لي بالطلاق من زوجي. أتوسل إليك. فقد بينت لك موقفي بكل أمانة، لكن يبدو أنك لا تفهمني”.

كانت هذه لهجة متوقعة و شائعة من طالبي الطلاق. أغلق جونغ جن وو ملف القضية، وبصوت هادئ قال:”يا رفيقة صن هيي. من فضلك تماسكي قليلا. قضايا الطلاق تأخذ وقتا طويلا. عودي إلى بيتك و تابعي ما كنت مشغولة به. الطلاق شيء، وابنك الذي هو بحاجة لك شيء آخر”.

مسحت صن هيي الدموع من رموش عينيها الطويلة لمرة أخيرة، وانحنت باحترام للقاضي جونغ جن وو، وغادرت مكتبه. وأغلقت الباب وراءها بهدوء، وابتعد صوت رنات كعبها العالي على امتداد الممر. واستعاد المكتب نظامه. ودخل نور الشمس الدافئ من النوافذ المرتفعة، ولكن جونغ جن وو لم يشعر بالطمأنينة. فقد ألقت تفاصيل حياة صن هيي الكئيبة ومشاكلها العائلية ظلا قاتما على قلبه. انتقل لجوار النافذة ليتابع بعينيه صن هيي وهي تغادر المحكمة. وقاطع جونغ جن وو ذراعيه على صدره وذرع الغرفة بخطواته للأمام والخلف في عرض مكتبه. وأنت ألواح الخشب في الأرض تحت كل خطوة. وكل أنة كانت مثل وتد يغرس في قلبه. عاد ليتربع على كرسيه، وهنا رن جرس الهاتف.

قال: “القاضي جونغ جن وو يتكلم”.

وسمع من الطرف الآخر صوتا متماسكا وعميقا يقول: ”معك شي ريم من مجلس هيئة التكنولوجيا الصناعية للمقاطعة. أين ذهب كبير القضاة؟ كنت أحاول الاتصال به، لكنه لا يرد”.

رد جونغ جن وو:”هو في بيونغ يانغ برحلة رسمية”.

ولسبب ما اعتقد أن الاسم شي ريم مألوف له.

“هل سيعود عاجلا؟”.

“لا يبدو أنه سيعود قبل الأربعاء”.

“نعم..”. رد شي ريم بخيبة أمل ثم تنهد. وشعر جونغ جن وو بالإزعاج الذي يثقل على الرجل لذلك  سأله:” هل بوسعي أن أسأل ماذا تريد؟”.

“حسنا. كما تعلم... أنا رئيس مجلس الهئية”.

” حقا، وماذا يعني؟”.

“لا شيء. لكن أريد أن أستفسر هل تصادف وسجل أحد دعوى طلاق؟”.

“نعم. كثيرون”.

“هل بينهم شي صن هيي؟”.

رد جونغ جن وو بمزيد من الانتباه:”نعم”.

“أيها الرفيق القاضي. لا أعلم كيف أقول هذا، لكن...”.

“حسنا. أنا كلي آذان صاغية”.

“حسنا. هل قررت كيف ستتصرف بقضيتها؟. سوف توافق على الطلاق، صحيح؟”.

صدمت جونغ جن وو هذه الأسئلة لأنها كانت بنبرة أوامر.

قال:”أيها الرفيق رئيس المجلس، أنا لا أعرف ما هو نوع العلاقة التي تربطك بشي صن هيي، ولكن يبدو أنك مهتم للغاية بموضوع قانوني. نصيحتي لك أن لا تتدخل بمشاكل عالئة غريبة عنك ولا سيما في مجال القانون”.

لم تصدر استجابة من الطرف الآخر من الخط. وتابع جونغ جن وو:”لا يمكنني البت بقرار استنادا على ادعاء شي صن هيي. لا بد من الاستماع إلى لي سوك شون أيضا للوصول لحل نهائي. وهذا، طبعا، سيستغرق بعض الوقت”.

قال شي ريم:”أفهمك أيها الرفيق القاضي. هل يناسبك أن أزورك في مكتبك في وقت ما غدا أو بعد غد؟”.

“تفضل بأي وقت”. ومع هذه العبارة أغلق جونغ جن وو الهاتف. وخيم عليه القلق الناجم من الفضول الذي أبداه رئيس الهيئة في الهاتف. كان أول انطباع لجونغ جن وو عن شي ريم غير إيجابي بكل تأكيد. كان مندفعا جدا بخصوص قضية الطلاق وتطورها، وكان يبدو كأنه معتاد على استعمال منصبه لحل بعض المسائل بطريقته. وفي هذه الحالة، يبدو أن لشي ريم علاقة شخصية بحيثيات طلاق صون هيي. وتبين له ذلك على وجه الخصوص عندما طالب بتحويلها لكبير القضاة. مرت على جونغ جن وو عدة شخصيات من النوع الأخرق. كانوا يعتقدون أن استعمال سلطتهم السياسية أو شبكة معارفهم يمكن أن تؤثر على سير القانون والنظام باتجاه يخدم مصلحتهم. وأمل أن يكون هذا الشخص الذي كلمه للتو ليس من هذه الزمرة، لكن لم يبرأ من الشك.  فكر جونغ جن وو بتلك النوعيات من البشر الذين ينظرون للمبادئ باستخفاف، ورجح أنهم مزعجون وضارون أكثر من قضايا الطلاق. جر جونغ جن وو قدميه باتجاه الكنبة وسقط عليها. أغلق عينيه وحاول أن يركن للراحة. ولكن ذلك الاسم المألوف ومض في ذهنه.

شي ريم. وذكره ذلك الاسم المزعج بحالة فظيعة.  أين و متى سمعت بهذا الاسم من قبل؟. يا له من اسم عجيب.. آه، صحيح!.

تذكر جونغ جن وو. شي ريم!. كان طويل القامة ووسيم الهيأة. يعمل مدير مبيعات في معمل الأدوات الكهربائية الثقيلة. وتقدم بطلب طلاق بدعوى تورط زوجته بعلاقة محرمة، ولكن بعد أن ثبت أن الادعاء كاذب، بدل السبب إلى الاختلافات المستعصية. وتكفل بالطلاق القاضي جونغ جن وو ذاته. جرى ذلك قبل ست سنوات...

كان يوجد عدد قليل من الأشخاص في قاعة المحكمة في ذلك اليوم. وكانت مقاعد المشاهدين تقريبا خالية، باستثناء المقاعد التي يشغلها أعضاء العائلة. لم يكن يوجد كثير من المهتمين بالاستماع لطلاق زوجين. على المنصة، جلس جونغ جن وو بين قاضيين آخرين. وكان هناك الادعاء، وجلس قرب الكاتب. وفي أول صف جلس شي ريم برأس مرفوع، وهو ينظر بعزم وثقة للقضاة ولعلم الدولة المعلق فوقهم تماما. وكانت له نظرة ملؤها التحدي تتنكب في عينيه. ولم يجد أثرا لليأس أو الشفقة على وجهه. وبقربه جلست زوجته ورأسها منكس، وتنتظر بعصبية قرار المحكمة. كان هذا اليوم هو آخر يوم لهما يجلسان فيه معا.

سجل شي ريم طلب الطلاق بتهمة علاقة مزعومة بين زوجته ومديرها. وفكر جونغ جن وو بسره وهو ينظر للزوجين: ما هي الجريمة في العودة للمنزل برفقة مدير الانتاج لمرة أو اثنتين؟. طريقهما واحد. أليس هما رفيقين وبوسعهما الكلام حول المشاكل الشخصية أو مشاكل المعمل؟.

مر جونغ جن وو بآخرين على شاكلة شي ريم. واستنتج أن شي ريم كان يطالب بطلاق مخطئة ليس لأ زوجته عادت للمنزل برفقة مديرها ولكن لسبب آخر. الحقيقة أن شي ريم، وهو خبير تقني وله مستقبل واعد، لم يجرؤ أن يظهر بالعلن وبرفقته ثمرة يقطين قروية مثل زوجته.  كان شي ريم يقلل من شأنها لهذا السبب. فقد انتقد كل شيء في شخصيتها وضخم كل المعايب والنقائص. ورماها بالإهانات مثل قوله “أنت غبية وتسخنين البيرة للضيوف”، “أنت قصيرة ودميمة”، “ليس لديك مهارات اجتماعية”، “أنت معوقة عقليا”. حتى أنه اعتدى عليها جسديا، وترك بصمات غضبه على جسمها.

وأصدر جونغ جن وو تعليماته بالتحقيق في العنف المنزلي الذي ارتكبه شي ريم، ولكن إدارة معمل شي ريم تدخلت وأجبرت جونغ جن وو على إلغاء تعليماته. ولا زال جونغ جن وو تحت الشعور بالمرارة من هذا الحادث واقتنع أنه يجب عدم الموافقة على التماس الطلاق. ورغب بمعاقبة شي ريم بسبب شخصيته العنيفة والعنيدة. ولكنه كان يدرك أن المحكمة لن توافق على حبس شخص دون دليل. ورمى شي ريم بنظرة غاضبة ثم نظر لزوجته.

ولم يكن لدى زوجة شي ريم أي جرأة لتنظر نحو أفراد العائلة الجالسين على المقاعد. كان الزوج يدرس في المدينة، أما هي كانت تزرع الغراس في الجبال وتعمل في شركة الغابات. في الصيف، كان جسمها يحترق من الشمس بسبب الحرارة اللاهبة. في الشتاء، كان جلدها يتشقق من البرد والريح القاسية. ويغمر المطر كل جسمها، وترتجف من الثلج، ولكن أصبح ذلك روتينا بالنسبة لها. لقد كانت تكافح في حياتها. وعندما تلقت راتبها المتواضع، كانت تدخر مقدارا صغيرا لنفسها ولأولادها وترسل المتبقي لزوجها في المدينة. وبالعكس من بقية النساء العاملات، لم تكن تشتري مواد التجميل أو الثياب المناسبة لتقلب الفصول والظروف الجوية المختلفة. وأقنعت نفسها، أنها لا تحتاج لأكثر من بذة رسمية واحدة، ولا سيما بسبب طبيعة عملها. كان الدافع الوحيد لزوجها أن ينتهي من الجامعة ويصبح خبيرا ماهرا. كانت تنام وهي تأمل بالعثور على مأوى في المدينة قرب مكان عمله ليعيشوا حياة عائلية مريحة. وبظل هذه الأحلام تابعت زراعة الأشجار، وتربية ابنتها وابنها بجهدها وتعبها. مع ذلك كانت أحلامها البسيطة تنكسر عندما تواجه الواقع المزري وموقف زوجها غير المبالي. لم يكن شي ريم هو الإنسان الذي أغرمت به وكافحت من أجله. ولم تسمع منه كلمة غرام واحدة. ولا حتى أية لمسة عاطفية. وعندما تزور المدينة قادمة من القرية، لم يكن يشتري لها أي ثوب لتحسين هيئتها ولتصبح مثل سكان المدن. ولم يعبر عن حبه لها، ولم يفتح لها باب قلبه. وإذا فتح لها قلبه ظاهريا، يبدو مثل خزانة فارغة يعصف فيها نسمات خامدة. وشعرت أن زوجها لا يعتبر أنها زوجته، ولكن مجرد مدبرة منزل أو مربية أطفال. مع ذلك كانت تطمئن نفسها أنه مشغول جدا، وعمله يتطلب منه المتابعة. ثم بلغت النهاية المحتومة حينما وصلتها أوراق الطلاق. واتهمها فيها بارتكاب الزنى وتوقع منها أن تحترم نفسها وتوافق على الانفصال. وعندما نجحت بإنكار التهمة، بدل الأسباب إلى خلافات مستعصية كي يأخذ القانون مساره.

خلال الاستماع أعلنت مطالبها بصراحة. وذكرت بهدوء أنه لا يمكنها أن تعيش مع زوجها، ثم انخرطت بالبكاء. لم تكن تتوقع الحب من هذا الزوج - لقد يئست من ذلك منذ فترة بعيدة. وأرادت ببساطة أن يحترمها وينظر لها كإنسانة، ولكن حتى هذا بدا ميؤوسا منه. لم تنتظر منه غير الاعتداء والتمادي، إهانة لا يمكن احتمالها بعد الآن.

وأشفق القاضي جونغ جن وو على الزوجة بعد أن أدرك ما فعلت في سبيل راحة شي ريم  وولديهما. ووافق على الطلاق لسبب إنساني واحد، وهو حقها بالحماية من الشعور بالاغتراب. كان من المؤكد له أنها ضحية لهذا الزواج. كانت عيناها في محجريهما الداكنين تبدوان تقريبا فارغتين من البكاء والنحيب المستمر. فقد بكت بدموع الندم الحارقة، دموع سوء حظ حياتها البائسة. اليوم كل شيء مختلف. لا توجد دموع تدل على الضعف أو الهزيمة، هذه هي دموع العزم الأكيد من أجل مستقبلها. كانت إنسانة تقف صامدة بوجه الظرف السيء، ومثل زنبقة برية ستخرج من ركام الغابة الميتة.

وقرر جونغ جنغ وو أن يحترم حقها المدني ويدافع عنها بكل قدراته القانونية. وشعر أن واجبه القانوني يفرض عليه حماية حقوق هذه المرأة من سلوك زوجها المهين، والذي اعتدى على كرامتها. طلق جونغ جن وو الزوجين. ولكن آلم ذلك قلبه، فهو يعلم أنه يحطم عائلة، وحدة أساسية من بنية المجتمع. ماذا عن أبناء الزوجين؟. لم يتمكن جونغ جن وو من تحرير نفسه من الذنب الثقيل الناجم عن نقل خبر الطلاق للولدين.

قبل يومين من المحاكمة، استدعى الولدين إلى مكتبه. وقدم لهما جونغ جن وو كرسيين، لكن الولدين لم يفترقا وجلسا على كرسي واحد. كانت البنت بعمر عشرة سنوات، والصبي بعمر سبع سنوات. وكلاهما يدرس في نفس المدرسة الابتدائية. ولم يرغب جونغ جن وو أن يهدر الكثير من الوقت، لذلك فعل ما بوسعه ليكون كلامه وجيزا.

قال جونغ جن وو:”أمكما وأبوكما يا أولاد سيفترقان، ولكما الحق باختيار أي بيت تفضلان ؟”.

لمصلحة الولدين ولرعاية ميولهما، كان جونغ جن وو يعلم أن الأفضلية للأم. ولكنه وفر لهما فرصة اتخاذ قرار. لم يرد الولدان على سؤال القاضي الذي سيحدد مصيرهما. لم يتخيل الولدان أن العلاقة بين أبويهما وصلت لهذه الدرجة المؤسفة.

بعد فترة تكلمت البنت ودموعها تسقط كالمطر:”أنا... أنا أريد أن أعيش مع أمي”.

ورد الصبي بخوف بالغ:”وأنا أيضا!. مع أمي. لا أريد أن أترك أختي”.

كانت قد مرت ست سنوات على ذلك الحادث. نهض القاضي جونغ جن وو من الكنبة. وحاول أن لا يتذكر تلك اللحظة التي تعصر قلبه. ولكن صورة الولدين الخائفين لم تفارق ذاكرته. والقرار الذي اتخذه في المحكمة كان يقضي أن تعيش البنت مع أمها، والابن مع أبيه. كان من الأفضل لكليهما أن يكونا بحضن الأم، ولكن لم يكن جونغ جن وو مستعدا لمضاعفة أعبائها، فهي الآن بحكم أم غير متزوجة. وفكر جونغ جن وو بمستقبل الابن، و اقتنع أن الصبي بحاجة لنموذج ذكوري يقتدي به. لهذا السبب عزل الأخ عن الأخت.

لم يكن جونغ جن وو يعلم ماذا حصل لتلك العائلة بعد جلسة الاستماع. لكنه سمع أن شي ريم اقترن بزوجة شابة، وتابعت زوجته السابقة الحياة مع ابنتها دون أن تكرر تجربة الزواج. وقال جونغ جن وو لنفسه: لا بد أن الابنة بلغت السادسة عشرة والابن في الثالثة عشرة.  ولم يقابل جونغ جن وو تلك العائلة مع أنهم يعيشون بنفس المدينة. ومن فترة قريبة، صادف الزوجة السابقة، ولكنها تهربت منه. ولم يجد مناسبة للكلام معها. وفكر إن لم يطلب الزوجان إعادة ترتيب شأن الحضانة، لا يوجد سبب للقاضي أو القانون أن يتدخل في حياتهما الشخصية. وحتى لو تقدما بطلب، لن يمكنه معالجة القضية بسبب التراكم الذي يعاني منه.

لم ينس القاضي جونغ جن وو أبدا كل حالات الطلاق التي نظر بها في الماضي. فقد تركت انطباعا مؤلما لديه لأنه لم يكن ينظر بحالات رسمية فقط ولكنها شؤون تخص حياة الناس. كل حالة تتطلب قرارا وسببا وجيها لاتخاذ النتيجة المناسبة، لكن قلب الإنسان، ضعيف وهش ورقيق أمام الطلاق، فهو يتطلب التعاطف والتشجيع من نظام العدالة.

وفكر جونغ جن وو يقول: شي ريم، رئيس مجلس هيئة التكنولوجيا الصناعية في المقاطعة. هل هذا من كلمني حقا؟. هل سيأتي ليقابلني بعد الذكريات الكئيبة التي تعود لست سنوات مضت؟. هل هو نفسه شي ريم الذي حكمت له بالطلاق؟. لا، شي ريم الذي نظرت بطلاقه قبل ست سنوات كان مديرا في معمل الكهربائيات الثقيلة.

وهز جونغ جن وو رأسه باستنكار. لا بد أنه شخص آخر. من يمكنه أن يمر بطلاق من ذلك النوع ويعود للمحكمة كأن شيئا لم يحصل؟. لكن إن عرفته، لن تستغرب. هل له علاقة بشي صن هيي؟. كلاهما له نفس اسم العائلة. لا، على الأرجح هو شخص آخر.

وحاول جونغ جن وو أن يمحو من رأسه الأفكار غير السارة والمتكلفة عن شي ريم، وهو يذرع الغرفة للأمام والخلف. وكان الخشب الصلب يئز تحت خطواته بصوت أعلى من أي وقت مضى.

بيك نام نيونغ Peak Nam Nyong روائي وقاص من كوريا الشمالية. متزوج وله 3 أولاد. توفيت زوجته عام 2003. من أهم أعماله رواية “الصديق/ 1988”. وهذه الفقرات هي الفصل الأول منها.

***

  

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم