صحيفة المثقف

بكر السباتين: فنتازيا الخروج الأمريكي وانتصار طالبان وخيارات استعادة الهيبة إقليمياً

بكر السباتينتفاجأ العالم بسقوط أفغانستان في قبضة طالبان، حدث ذلك بغمضة عين، والرئيس الأمريكي جو بايدن يشاهد بأم عينيه كيف ينهار جيش أفغاني أعده الأمريكيون لمواجهة طالبان، في بداية المعركة، وينكس راياته، فتضيع معه جهود أمريكية مضنية ومليارات من الدولارات صرفت في بنائه! ورغم ذلك اعتبر بايدن قرار الانسحاب حكيماً وقد وفر على الأمريكيين أزمة خانقة، كانت تُصَدَّرُ تلقائياً إلى المستقبل الأمريكي، وتستنزف الأموال الطائلة دون عائدات مادية أو معنوية على الولايات المتحدة.. لذلك قالت رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي:

 إن بايدن يستحق الثناء لقيادته القوية وتركيزه الاستثنائي على إنهاء التدخل العسكري في أفغانستان.

وكان بايدن قد قال يوم أمس الثلاثاء في خطاب متلفز: بأن الوضع في أفغانستان انهار بأسرع مما كان يتوقعه، مؤكداً بأنه لا يمكن أن يقاتل الأمريكيون في حرب مع قوات أفغانية ليست مستعدة للمشاركة فيها.

هذا ما قاله بايدن، وكلامه يبدو مقنعاً، فمنذ عشرين عاماً وفاتورة استنزاف الخزينة الأمريكية والدم الأمريكي المراق في تزايد، مع أنها كانت فترة كافية لإظهار همجية الاحتلال الأمريكي الذي دمر أفغانستان وتسبب بمقتل أكثر من مليون أفغاني، خلافاً للدعاية التي يحاول الأمريكيون تسويقها في أنهم قدموا الدعم المالي والفني لإقامة دولة مدنية ديمقراطية تضم مؤسسات حديثة لا بل وساهموا في تحرير المرأة وشجعوها على التعليم.

إلا أنهم يراهنون -آخر المطاف- على أن حركة طالبان ستقيم بنيانها على أنقاض كل ذلك!

 وهذا غير منصف؛ لأنه من الطبيعي وفي ظل التحولات الكبرى في السياسة العالمية أن تنسجم حركة طالبان مع متطلبات الدولة الحديثة.. وهذا يعني بإن طالبان ولدت من جديد.

وقد حظيت طالبان بحليف باكستاني ظل مخلصاً في دعمها منذ أن ساهم في تأسيسها قبل أكثر من عقدين، رغم أن باكستان تلقت المساعدات الأمريكية السخية للسيطرة على طالبان استخباراتياً لإنهاء نشاطها على الحدود الشمالية مع أفغانستان ولكن يبدو أن الباكستان فعلت نقيض ذلك.

 وكانت حركة طالبان قد تأسست في سياق الحرب ضد الوجود السوفيتي في أفغانستان نهاية القرن الماضي، فأنيط بها مهمة منع عودة الدب الروسي إلى كابل، ولكن بعد انهيار الاتحاد السوفيتي هُمِشَ دورُ طالبان لتتحول من جراء ذلك، إلى حاضنة للحركات الإرهابية مثل تنظيم القاعدة وأخواتها. وانبرى الجيش الأمريكي منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001  للتصدي لطالبان في محاولة لاجتثاثها بعد أن أقيمت جمهورية أفغانستان الإسلامية الموالية لأمريكا برئاسة حامد كرزاي منذ 22 ديسمبر 2001 إلى أن خلفه أشرف غني في 29 سبتمبر 2014.. والذي أسقطته حركة طالبان مؤخراً فترك ميدان المعركة إلى غير رجعة.

من جهتها تتعامل موسكو مع المجريات في أفغانستان بحذر رغم أن الخروج الأمريكي منها يُسَجَّلُ لصالح روسيا؛ ولكن الأخيرة أعلنت بأن علاقتها بطالبان تعتمد على سلوكها فيما بعد، وخصوصاً أن الجماعات الشيشانية المنضوية إلى حركة القاعدة المحظورة روسياً انبثقت تاريخياً من عباءة طالبان.. وتجدر الإشارة إلى أن السفارة الروسية ما لبثت مفتوحة في كابل، وهي على اتصال دائم بحركة طالبان.

ويبدو أن الصين التي تمتد حدودها مع أفغانستان مسافة 75 كم قد حصلت على ضمانات من الباكستان لكي تكون الشراكة الصينية الأفغانية آمنة، وبخاصة أن المُكَوِّنَ القبليِّ البشتوني لطالبان، يتجاوز أل 40 % ، وله امتدادات باكستانية وبكثافة لافتة على جانبي الحدود المشتركة، وعليه فإن الباكستان تشكل البعد الاستراتيجي لحركة طالبان التي سيطرت أخيرا على أفغانستان، وشارفت على احتلال أكبر المدن الأفغانية (العاصمة كابول، ومزار شريف وجلال أباد)، وصارت على تماس مع الحدود الصينية، بانتظار أن تفتح أبوابها للباندا الصيني الذي ما لبث يتمطى بعد سبات، حتى أتيحت له الفرصة فاغتنمها، على حساب الخصم التقليدي الأمريكي الذي بات يلعق جراحاته، وقد خصص مبلغ 500مليون دولار من ميزانية الطوارئ الأمريكية لتنظيم الخروج الآمن من أفغانستان ومن ثم إغلاق هذا الملف إلى الأبد.

 فالفاتورة الأمريكية باهظة. فمنذ عشرين سنة خسرت أمريكا أكثر من تريليون دولار.. وكانت فاتورة الدم عبثية إذ تقدر خسائر أمريكا خلال تلك المدة الاستنزافية قرابة أل 3500 قتيل بالإضافة إلى أكثر من 20 ألف جريح. ومن بين القتلى ما يقارب ال1000 قتيل من حلف الناتو الذي أقحم في المستنقع الأفغاني من باب الالتزام التحالفي..

ويبدو للمراقبين بأن حركة طالبان تغيرت شكلاً ومضموناً..  وأخذت تتصرف منذ بداية الأزمة ووصولها إلى مشارف كابل، كدولة قادرة على تحمل المسؤولة بحكمة واقتدار، لذلك أصدرت عفواً عاماً عن كل موظفي الدولة فيما جعلت تثبت مرتكزات الأمن في البلاد.

فأمام طالبان مشروع دولة، وعليها إثبات أهليتها للتعايش المشترك، وفي كونها بيئة مناسبة للاستثمار والنمو .

وهي تحتاج لإقناع الصينيين بأنها شريك آمن.. وللأمريكيين بأنها لا تتعامل بروح المنتقم حتى يتسنى لها الوصول إلى الحسابات الحكومية الأفغانية المحظورة، التي يديرها الاحتياطي الفيدرالي والبنوك الأمريكية الأخرى، والتي تصل إلى ما يقرب من نصف مليار دولار من الاحتياطيات في صندوق النقد الدولي.

وفي رصد لتداعيات قرار الانسحاب الأمريكي على صعيد داخلي،  جاء اتهام الجمهوريين لجو بايدن في أن سياساته أدت إلى فقدان ثقة الحلفاء به إلى درجة أنه اتهم بسهولة التخلي عنهم بدلالة ما جرى في أفغانستان حيث أمر ما تبقى من قواته (3500 جندي من المنتظر زيادة العدد إلى 6000 جندي) لترتيب رحيل طاقم السفارة الأمريكية من كابل إلى المطار توطئة لنقلهم إلى أمريكا وبمعيتهم عشرون ألف من الموظفين الأفغانيين (عملاء أمريكا) لنقلهم إلى جهات مختلفة ومنها أمريكا نفسها.

القصة لم تنته عند ذلك.. فقد طولب جو بايدن باستعادة هيبة أمريكا من خلال صناعة نصر  عاجل في إحدى الملفات المتصلة بالملف الأفغاني وبالسرعة القصوى، وتعددت الخيارات، وكان أهمها وفق مراقبين:

أولاً:- نشر الفوضى في أفغانستان. وقد تلجأ أمريكا استخباراتياً إلى تحفيز  إيران على دعم الأقليات الشيعية ضد طالبان وإشعال مواجهات طائفية لعرقلة أي اتفاق صيني أفغاني وشيك.

ولكن هذا لن ينجح لأن طهران على علاقة جيدة مع طالبان، ويهمها الاستقرار في تلك البلاد التي شكلت مصدر قلق لها في حدودها الشمالية وخاصة تجارة السلاح والأفيون، ويهم طهران تجسير العلاقة مع طالبان كخيار استراتيجي إيراني لسد المنافذ على أي خيار أمريكي باتجاه إدخالها في المأزق الأفغاني.

ثانياً:  التلويح بفرض عقوبات على طالبان إذا ما انغلقت على نفسها على حساب الحريات العامة ومنها حرية المرأة، ومن ضمن هذه العقوبات المراوغة في الإفراج عن الاحتياطي الأفغاني في البنوك الأمريكية كما أسلفنا ذكره.

ثالثاً:- القيام بتوجيه ضربة عسكرية غير مباشرة ضد إيران من خلال مساعدة الحليف الأمريكي الأقوى" دولة الاحتلال الإسرائيلي) في ضرب حزب الله بالجنوب اللبناني ومشاغلة المقاومة في غزة توطئة لاجتثاثها. وهذا هراء، فلدى محور المقاومة قواعد اشتباك جديدة للتصدي لأي مغامرة إسرائيلية.

رابعاً:- مطالبة البعض بمعاقبة الباكستان التي دعمت طالبان خلافاً للدور المنوط بها. إذْ  اقترح مايكل روبين  ذلك في “ناشيونال إنترست” الأمريكية، وقال بإن باكستان ساعدت “طالبان”، وفي الوقت نفسه تعاونت مع الولايات المتحدة وحصلت على 23 مليار دولار منذ عام 2001 لدعم التحالف الغربي الذي قاتل في أفغانستان المجاورة”.

وأخيراً، لا بد من اقتداء طالبان بتجربة "رواندا"  لتشابه الظروف بينهما، إذ تجاوزت تلك الدولة الأفريقية كل المحن والمجاعات والحروب الطاحنة والفساد وتجارة المخدرات لتقيم بنيانها على أنقاض كل ذلك، فحققت دولة رواندا معدلات نمو وضعتها في المركز السابع عالمياً.. بعد أن قضت على الفساد بحزم.

  وهذا متطلب أساسي لكي تنجح طالبان في إنقاذ أفغانستان؛ فتتحرر لأجل ذلك من عزلتها وتنجح في إدارة مستقبل أفغانستان التي أنهكتها الحروب، وشرذمت طاقاتها الفتنُ الطائفيةُ.. والفرصة متاحة لها لمناقشة مستقبل البلاد في لقاءات قطر الجارية بين الأطياف الأفغانية.

 

بقلم: بكر السباتين

18أوغسطس 2012

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم