صحيفة المثقف

صالح الرزوق: الهوية الديناميكية لشخصية إبليس

صالح الرزوقيبدأ ويتني س. بودمان في "كتابه شعرية إبليس: اللاهوت السردي في القرآن"* من نقطتين منهجيتين. الأولى عن العلاقة بين السرد والعدالة الإلهية ص11. وهذه الفكرة تغني بقية الافتراضات دون أن تلغيها. ومن بينها علاقة الخيال بعقدة أوديب وصراع أفراد العائلة سواء بالمعنى السلبي أو الإيجابي (ويدخل في هذا المضمار نحر قابيل لأخيه هابيل). وهي نظرية تشيطن قابيل أيضا، وتضفي عليه صفات موروثة بنيويا في ثاني دافع لتطوير المخيلة، أقصد العقلية البورجوازية (وأهم مثال عليها نموذج روبنسون كروزو).

الثانية عن العلاقة بين النص الثابت وقارئه. ص 16. وهي فكرة عادلة تحرر القارئ من الإلزام والشروط المسبقة (ما تعودنا على تسميته بسرير بروكست). لكن المبالغة بالحكم على النص بالموت، وتركيز كل المفاتيح بيد القارئ، حرم الكاتب من كل حقوقه. والمنطق يقتضي وجود ولو قليل من الاشتراطات. إن الكاتب دائما موجود في نصه، سواء بشكل إفرادي أو بشكل ظاهرة لها اتجاه وخلفيات. وربما أقر بودمان بذلك ضمنا حينما أشار للفرق الجوهري بين الجانب السردي في الإبليسيات والمعنى الأخلاقي للشيطنة ص 16. وما ترتب على ذلك من تفاوت: من إظهار معنى عقلي وحتى التفسير بواسطة الإحساس والمعايشة ص 17. إن الاختلاف في طبيعة النصوص لا يتوقف على مضمونها فقط بل على طريقة ظهورها. بمعنى آخر إن النزاع بين الكاتب والقارئ أخطر مما يمكننا تصوره. وأكتفي بمثال واحد من خلال المقارنة بين الروايات الشائعة ونصوص القرآن. ولا يوجد عندي أي قدر من الارتياب أن تفسير القرآن يعاني من التهويل والإضافات مثل الخيال الشعبي، ولا سيما إذا نظرنا للتفاسير التي ظهرت بعد الفجوة الحضارية، ومنها التفاصيل التي لحقت بحادثة ثابتة هي الإسراء والمعراج. إن نسبة الإضافات على ما ورد في القرآن لا تقل عن 90 بالمائة. ولا يمكن لأحد إعادة ترتيب الوقائع دون أن يشعر بالمبالغة. فالتصورات تجاوزت حدود العقل البشري على التخيل، ولم يعد هناك أي مجال للتثبت حول حقيقة المزاعم باتصال النبي مع خالقه وطبيعة الحوار الذي دار بين عنصر بشري متناه وقيمة خالقية لا متناهية وبلا جسم ولا صفة. وحتى لا ندخل في الميتافيزيقا يمكنني الاحتكام لنظرية تحليل السرد. هل هو بنية أم نشاط متحول ومتدرج؟.

يختار بودمان التفسير الديناميكي، ويرى أن الذخيرة المعرفية للكتابة تشكل جانبا من الذخيرة المعرفية للقراءة ص 18. بمعنى أن أحد الطرفين بنية والآخر هو شروط تشكيلها، وهذا يعني حسب مفهومي أن النص لديه الصلاحيات لتوجيه القراءة بشكل عام وكل قارئ على حدة بشكل خاص، ولا يمكن إهماله والاستهانة به. وإذا كانت لدينا عدة تصورات عن إبليس فهذا يعود للمصدر وظروفه، وعلى هذا الأساس يمكننا تصنيف المخلوقات الراعية للشر، فهي باعتقاد علي الطنطاوي في كتابه (تعريف عام بدين الإسلام- دار المنارة. السعودية. 1989) ثلاثة: الشياطين والجان والأبالسة. ويوجد فروقات في مقاربتها للبشر وقدرتها على تدمير أدوات المناعة الروحية والعقلية. ويؤكد بعدة مناسبات أن إبليس ليس من الجان (كما هو شائع) لأنه يتزوج ويلد. والجن مكلفة وليس لها قدرة على الزواج أو الإنجاب، وهي مخلوقة من نار لكن هذا لا يلزم أنها تحرق كل ما تمسه. ص151. ولا يمنع أن الله بدلهم لاحقا لطبيعة أخرى. فالإنسان نشأ من طين لكنه لم يستمر كذلك. ص 151. كما أنهم لا يعلمون الغيب. ص152 أما الشياطين فهم كفار الجن وأبوهم إبليس ص 153 مع ذلك ليس للشيطان القدرة على الإضرار أو النفع بل الكيد فقط.

بالمقابل يبني بودمان تصوراته على افتراضات ديناميكية ص 19.

2737 شعرية الشيطانالأول أن للنبوة خاتما (محمد خاتم الأنبياء).

الثاني أن النبي يموت وإبليس متطور عن الجان وهو روح الشر الخالدة التي لا تفنى ولا تغيب.

الثالث أن أخطاء النبي في تفسير بعض الأوامر الإلهية لا يقارن بتمرد إبليس وتحوله إلى نزاع مع الخالق.

الرابع أن معجزات الأنبياء ينتهي مفعولها بموتهم بينما شرور إبليس ليس لها دورة حياة. وهي باقية وأزلية مثل الإله ذاته.

الخامس أن إبليس فكرة متطورة تطورت مع تقدم التنزيل من الوحي وبأمر من الله نفسه. ص 20. وقد طرأت على حوارياته في السرد الإلهي عدة نقلات ملحوظة وسعت قدراته من النميمة إلى القتل المروع والجائر (ويضرب مثالا بمقارنة صوره في سورة الحجر ثم في سورة ص).

وبهذا المنظور يمكن إضافة شخصية إبليس للبنية المأساوية التي تحكمت بأقدار البشر منذ ملاحم بلاد الرافدين وحتى تكوين العقل الكلاسيكي وظهور الدراما الإغريقية ص22. ولا يستطيع أي إنسان عاقل أن لا يلاحظ الفرق في صور إبليس وهي تتطور من مجرد رمز للشر إلى أداة شريرة يطالها قانون اللاهوت الإسلامي. وإن كانت الحالة الأولى خاصة بالوحي والتصورات الشعرية لمجتمع قيد التشكل، فالحالة الثانية لها علاقة ببدائل الشر المنظور. بتعبير آخر إن إبليس الذي حاربه القرآن هو غير إبليس الذي كانت تطارده لعنة اللاهوت الإسلامي. وبتعبير بودمان: السرد الذي جاء ليفسر ويهدي الإنسان لحل ألغاز حياته تمهيدا للتغلب عليها بواسطة المعرفة والوعي، تحول إلى جزء من الطبيعة التسلطية للشر المهذب الذي يفرضه القانون على المجتمعات ص 24. مثل تطبيق العقاب بواسطة التعذيب أو الإفراط بتقييد الحرية الشخصية حتى لو أنها لا تشكل خطرا على الآخرين. وهذا يفسر برأي بودمان جوهر التفكير السني الذي تتبناه الأشعرية والذي جعل من وجوب الشر أساسا لمضمون وسطوة الممنوع (ص 26). وقد قادته هذه الفلسفة الخاصة لأن يرى في إبليس إمكانية للتحالف مع الصلاح والخير أو القوامة. ص 28. وبالصورة النهائية يضع بودمان عدة حواجز بين هوية إبليس وشخصية الشيطان.

الثاني رمز دائم للضرر وإلحاق الأذى، وهو بلا صفات ولكن له مزايا. ص 49. والأول مخلوق متحول ارتكب المعصية نتيجة استعمال المنطق بالهداية والتفكير، ولم يكن مؤمنا بالقدرة الإلهية بشكل أعمى، وكل ذنبه أنه اختار التوحيد ومركزية الإيمان (ويوجد نص للحلاج يؤكد أنه لا يوجد موحد في السماء مثل إبليس - ص 36)، حتى أنه رفض السجود لغير الخالق ص 35. ولذلك هو شخصية تمثيلية ص 48 وكائن غير تعبيري، لا يعبر عن الشر وصوره بقدر ما يمثل ضمنيا الضعف والنقصان المأساوي عند جنس البشر. ويبدو أن صراعه مع الله وتمثيله لصراع الملكات عند الإنسان رفعه من تصوراتنا عن الشر لتمثيلات النضال البشري ضد عوامل النقص. ص 43. ويتعارض كلام بودمان بهذا الخصوص مع التصوف الذي يساوي بين أشكال الشر والصلاح. وحل العطار والحلاج هذه المفارقة بالتمييز بين أمر الله وإرادته. فالأمر النافذ تعترضه إرادة نافذة أيضا. وإذا لم يكن اختيار إبليس صحيحا فقد كانت دوافعه نقية، وبالنهاية نفذ مشيئة مقدرة عليه سلفا. وهذا وحده يكفي لمضاعفة معناه المأساوي كشخصية مغلوبة على أمرها ومضطرة لسلوك ستحاسب عليه. ص 423. ولذك يوجد تبادل بين نوعين من أنواع الاستواء عند الخالق: رحماني وإلهي (ص 628- المعجم الصوفي- سعاد الحكيم)، كما أن الأفعال لا تحكم، والفرق بينها يعود للوجود (وهو خير دائم) والعدم (وهو ظرف شرطي للشر). ومع أن هذا التفسير لا يكفي لردع الصور المخاتلة التي أجمع عليها المتصوفة عن إبليس، فهو شخصية مغامرة ومتقلبة، ولا يمكن الوثوق بها، ويستعمل المكر والدهاء لتحقيق غاياته. بالإضافة إلى أنه يعلمنا قيمة الصبر في الوصول للهدف النهائي. إنه بالنتيجة يمتلك (حسب عقلية التصوف) صفتين.

الأولى أنه طبقي، وهو يشعر بالرحمة مع الملوك والنبلاء ويرشدهم لطريق التقوى (كان ينبه معاوية لاقتراب صلاة الفجر، لكنه لم يكن ناصحا لأبي ذر أو الإمام علي).

الثانية أنه يختار الطرف الأضعف من المعادلة، والمقصود النساء (كما في قصة إيداع ابنه عند حواء في غياب آدم). وهذا وحده دليل على ترويج البنية الذكورية للأسرة بل لأول أسرة في تاريخ البشر والمخلوقات. ص 35.

ومع أن بودمان كان نبيها بما فيه الكفاية ليلاحظ الفرق بين تصور السنة لإبليس وتصورات “سواهم”. وهذه الكلمة تجمع طيفا عريضا من المعارضة الفقهية والميتافيزيقية - بدءا بالتشيع وحتى المغالاة بالتصوف، لكنه قدم تفسيرا أفقيا لإبليس. وحينما وضع أسطورته - وكل تفاصيلها تحت مجهر نظريات سرد القارئ لم يتردد في تحميل القراءة كل الإسناد. ويمكن أن تقول إن الفهم كان بالنسبة له مرجعيا وليس جزءا من نشاط تتكاتف فيه مجموعة قنوات ناقلة. ويتوقف مطولا مع ستانلي فيش ليتفق معه بنهاية المطاف أن: المعاني لا تتحلى بالبراءة، وهي نتيجة فعل تفسيري. ص 58. ويقفز من فوق قناعة المعتزلة (وهم من أشد الموالين لحكمة العقل الغربي في تفسير روح حضارة المشرق الجديد - الجاحظ مثالا) وينسى أن المعاني عندهم بضاعة مشتركة، والأشكال - أساليب التعبير هي الجانب الذاتي ص 58. بلغة مباشرة: تقديم الموضوع هو الذي يحدد معانيه وليس معناه المجرد أو قبلياته. وباعتقادي إن صور إبليس سواء هي تراجيدية أو سردية (تحمل بصمات فرويد ورواية العائلة - فإبليس لم يكن خصما لربه فقط بل لكل من يشاركه موضعه في دولة الظل من جان وشياطين). وهي صور تعمل من خارج التفسير التاريخي لفكرة الملحمة البورجوازية أو سرديات الصراع مع الطبيعة وما فوقها. وإن دققت النظر بإبليس حسب كل الرواية الإسلامية يمكن أن تجد منه اثنين: خارج على القانون (عند السنة) ومتآمر على مكانة البشر وسيادتهم (عند المتصوفة). وما يدعو للدهشة أن الحالتين لا تؤيدان نظريات التأويل. فصورته السنية لا تتطور. وهي ثابتة وراكدة وتكرر ذاتها. وبالمثل صورته الصوفية. هي مطاطية، ويصعب أن تتعامل معها بمنطق جسم له حدود ومرتكزات. بتعبير موجز هو كائن محنط- في السنة أو أنه موجود دون كينونة في التصوف. وتعكس هذه التصورات طبيعة الحراك السياسي ولعبة شد الحبل بين النظام والمعارضة. ولا يمكن أنه غاب عن ذهن بودمان الطبيعة الخاصة للكتاب السماوي وما نجم عنه. فهو رسالة لتبديل قناعات راسخة، وليس حكاية للتسلية والترفيه. وتطور صورة الشرير لم يؤثر بها الاستجمام، وإن استفادت من الوسائط المساعدة التي عمت أرجاء الحياة بعد دخول الرخاء. لقد أمكن تخيل تفاصيل عن العالم غير المنظور بعد اختصار المسافة بين الوهم والخيال. ولكن لم تتراجع المهمة الأساسية وهي تنبيه الإنسان لضعفه ولقوة وأحابيل القوة المتربصة به في المناطق التي لم تتكلل بالفتوحات. ومن بينها ولا شك الجوانب المستعصية من المعرفة كنشوء وانتشار الأمراض ولغز الموت وظواهر الطبيعة وغير ذلك. وعليه لم يكن هناك هامش واسع للتفسير. لقد توسعت الأدوات وأساليب الأنواع لضمان المحافظة على نفس الهدف. وهذا يلغي فكرة "موت المؤلف" ويستبدلها بـ "موت القارئ".

ومهما تتبعنا مصادر شخصية إبليس - حسب الخيال الإسلامي لن نصل لشيء يذكر. فالقرآن بنى منطقه على الإعجاز وحسن التدبير وليس على الدهاء والمكر وهما من طبيعة إبليس. وإذا أعدنا قراءة السنة والوحي سنلاحظ كما هائلا للمعجزات والخوارق وقصص الأنبياء مع مساحة بسيطة للتحايل والشر. وقد تطور الفكر الشرعي الإسلامي وخياله التربوي على هذا الأساس. والتراث المعاصر الذي يحمل عدة عناوين براقة منها قصص أو سير الأنبياء وأحسن القصص وغير ذلك لا تتوقف كثيرا عند ألاعيب إبليس ولكن عند حسنات الملائكة. وربما كانت الأطروحة الإسلامية تعمل على أساس التبشير بالخير وليس التخويف من عاقبة الشر ورموزه. والمثال على ذلك وفرة أشجار الفاكهة في الجنة واقتصار الجحيم على شجرة واحدة هي الزقوم. كما أن الجنة الموعودة، مزدحمة بالحوريات والغلمان والطيور المغردة فقط. وإذا تساوت بالعدد آيات جهنم والتعذيب بالنار مع آيات الجنة وما يرافقها من رخاء واستجمام لا يوجد أية وقفة مخصصة مع جهنم. بينما وردت آية بوصف محاسن الجنة (سورة البقرة - 50). أما المساحة القليلة التي احتلها إبليس (ومرادفاته) والتي وصلت ذروتها في رسالة الغفران للمعري فتعود لواحد من ثلاثة مصادر: مخالطة الرسول لورقة بن نوفل وللراهب بحيرا. ثم للغيتو اليهودي في المدينة (والذي تطور لاحقا لما يعرف باسم الإسرائيليات). وهي بمجملها مصادر ذات خلفيات سريانية شرقية أو يونانية غربية. وكل الإضافات التي لاحظ بودمان وجودها في نصوص أدبية معاصرة منها "أولاد حارتنا" لنجيب محفوظ و"الشهيد لتوفيق الحكيم" ص 73 لا تدين للذاكرة الإسلامية ولو بالنذر اليسير، وتبني أساسا على الخيال الغربي. فقد أعاد مشروع النهضة وما تلاه من تنوير وانفتاح ترتيب العلاقة بين الدين والعقل. لقد انفصل الدين بالتدريج عن الحياة الفكرية ودخل في صراع المجتمع مع ظروفه، وتراجع العقل ليصبح خلف حدود ما يسمى المعرفة. وتبع ذلك ترتيبات جديدة للمتن والهامش. فقد تحول المتن الإسلامي لهامش يخيم عليه ظل ثقيل لفكرة صراع الحضارات أو صدام الشرق والغرب (وكلاهما يدخل في الموجات المتعاقبة لتحليل الأفكار وبناء الهوية واستعادة الذاكرة - يسميها بودمان: الفراغ ص 65 وما بعد). بتعبير آخر أصبح المتن ابنا شرعيا للثقافة الغربية. وينسحب هذا الكلام على التصوف وإضافاته. فهو نتيجة عودة ثقافات الميتروبول للحياة والازدهار ولكن بأقنعة وأزياء إسلامية. إن أي نظرة عادلة لشعر أبي نواس ستنتهي للفصل بين المعنى والمبنى. وهذا يدل على الدراما القوية التي بدأت تهضم العنصر العربي وتضعه في ما يسمى علبة الأدوات الإسلامية. وإذا عالج القرآن واقع الروح العربية بلسانها، فإن تفسير القرآن هو نتاج آلية تفكير إسلامي فوق عربي أو عابر للجنسيات والقوميات (لو استعملنا المصطلحات المعاصرة). وهذا يعني ضمنا أن أي إجحاف أو ظلم وقع على عقل الشعوب التي وصلتها الفتوحات، كان هو وراء الانقلابات الدموية اللاحقة، ثم ترميم الماضي واستعادته، إن لم نقل تحريره. ولذلك بدأ فن التصوير بفرض نفسه. وبالتدريج تمايزت صور إبليس الفقير بالخيال، وظهرت من تحتها صور أغنى بالتفاصيل. ولا يمكن أن تجد مثلها إلا في بنات المخيلة أو ما يشبه الخيال العلمي. وابتداء من القرن العاشر والحادي عشر، في أعقاب الضعف الذي لحق بدور العرب في الدولة الإسلامية، بدأ إبليس يأخذ مظهرا يذكرنا بالتماثيل الآشورية والأكادية التي لم يلحق بها الهدم مع إضافات تربطه بكل شيء يذكر بالخطيئة والعذاب. ويمكن القول إن حركة إحياء الفلسفات الظلامية هي المسؤولة عن تطوير صور إبليس. بتعبير آخر لقد دخل إبليس مع اللاهوت الإسلامي وليس مع انتشار الدعوة.

ونحن ليس بمقدورنا التعامل مع صورة واحدة متفق عليها لإبليس. ولكن مع عدة نسخ وتراكيب، أقلها إسلامي وأكثرها فلاش باك أو حفريات معرفية في ثقافات شعوب المنطقة. وإذا كان صحيح مسلم هو المصدر الأساسي لمداخلات النبي عن إبليس يكفي أن نعلم أنه مولود في نيسابور وبعد 200 عام من الدعوة تقريبا. لم يكن القرآن مولعا بصور إبليس ولكن بموضعه في الدورة الطبيعية للغواية والشر، بعكس الفكر الساساني الذي يحتفظ عنه بتفاصيل لا شك أنها ساعدت في تجسيده حتى تحول لشخصية روائية (فقد كان هو من شجع الضحاك في الشاهنامة على الطغيان، وتوجد روايات تشير أن الضحاك صورة لروح إبليس الشريرة، وهما شيء واحد). وكما تذكر الدكتورة ريبكا دينوفا Rebecca Denova حمل اليهود (في طريق عودتهم من السبي البابلي بعد سقوط المملكة البابلية في يد الفرس في 539 ق.م) معتقدات الفرس القديمة، وأوكلوا مثلهم لإبليس الشر بدلا من الرب. وتطورت هذه الفكرة عند الأسينيين (كما تذكر مخطوطات البحر الميت) ليكون مندوب إبليس جزءا من كل نفس حية، وليصبح الربان الذي يهدي البشرية للضغائن والانحرافات. ولكن على الأرجح إن حبكة إبليس الإسلامية هي أبسط من الصور المعقدة المعروفة حاليا. وهناك أكثر من صلة قربى بين الملاحم الدامية وبين التراث غير المكتوب للخيال بعد - العربي، ولكن الناطق باللغة العربية (تحديدا ألف ليلة وبقية سير الأبطال والمشاهير). ولا يوجد في الإسلام ما يزيد على نمطين. الأول هو الصور المكية ويغلب عليها مشكلة المعرفة، وهي غامضة وتدخل في آلية التعبير بالرموز، أقدم أساليب التواصل قبل اكتشاف الفن التعبيري. ثم الصور المدينية وهي ناجمة عن الاحتكاك الشعبي بالأقليات (غيتو اليهود).

ولا يوجد عندي أي شك أن ما لحق من إضافات بإبليس في الإسلام هي بنيوية وليست عبارة عن تطور موضوعي. بمعنى أن المسلمين تركوا لنا عدة نسخ منه، وليس مجموعة من الصور المعدلة. ويؤكد ذلك القطيعة المعرفية التي لحقت بالإسلام بعد فترة بسيطة من التقشف الثوروي (عصر البعثة ودولة المدينة ثم الكوفة). فقد تم رفع المنع عن التصوير كنتيجة مباشرة لموت عقلية البيت المكي، وبزوغ فجر البلاط في دمشق. وهو تعريب بغلاف إسلامي رقيق لأهم إنجازات الحضارة الرومانية الآفلة. وهكذا بدأت تنتشر تصورات عن أساطير التكوين لتعبر عن قلق الدولة الجديدة ورغبتها في إعادة تشكيل عالمها بعد أن كان الخلق يقتصر على المشيئة الإلهية. إن الفرق بين ما ورد في القرآن وما تداولته الأخويات ومجالس السمر في دمشق يشبه الفرق بين التعبد للخالق والاتكال على رحمته الواسعة وقلبه المتسامح في اقتراف الأخطاء. ومن المؤكد أن السنة بعد سقوط دولة الكوفة بيد الدمشقيين نظروا للرفاهية على أنها نوع من أنواع الشكر الواجب علينا تجاه الخالق. ويستندون في ذلك لجزئيات من حياة الرسول: ومنها حسن الملبس وأطايب الطعام. وطبعا تتسع المساحة لإبليس كلما زادت المطامع.

بنظري لم يكن هناك خلاف بنائي بين أشكال الشر. وكل من الشيطان وإبليس كناية عن الفساد أو بذرة الانحراف المزروعة في داخل كل إنسان. وهذه الأسماء هي ترادفات بلاغية قد تدل على التدرج في الأذى والضرر، ولكنها لا تصل لخلاف نوعي. وبهذا السياق لا أفهم لماذا أضاف بودمان فقرة كاملة عن الآيات المحكمات والمتشابهات؟ ص 86.

لا توجد علاقة عضوية بين الاتجاهين والتطور المزعوم لشخصية إبليس. فهو لم يخرج عن أنه كائن لا يحبه خالقه، وإن لم يدمره فهذا فقط ليترك الإنسان حائرا دائما وأمام اختبار لملكاته وإرادته. ولم تكن صور إبليس عرضة لأي تأويل أو تشابه وكانت محكمة، ولا تنفي بعضها بعضا. ولكن الوفرة بالتفاصيل يعود للفجوة التاريخية التي تفصل زمن التنزيل عن لحظة تأسيس الوعي باللاهوت الأرضي أو اللاهوت البشري الذي تتدخل في تشكيله الأهواء والنوازع. وإن كانت مشاركة إبليس تقتصر في القرآن على 7 آيات كما ورد منذ المقدمة لا يغيب عن ذهني هذا السؤال: أليست هي مشاركة خجولة.إذا علمنا أن عدد آيات القرآن الإجمالية يبلغ 6236. لم يحارب القرآن إبليس بل وضع نصب عينيه محاربة المجتمع المكي ثم بدو شبه الجزيرة. واتساع المساحة المخصصة له كانت مقياسا لعودة الفلسفات غير الإسلامية وتسربها من خلال جدار دمشق الذي تعرض لصدوع عميقة من الدعوة العباسية.

والشيء بالشيء يذكر.

تمت ولادة دولة دمشق بعد حروب علنية بين المتنازعين على السلطة، لكن ولدت دولة بغداد (القريبة من حدود الثقافة الفارسية) بعد صراع صامت ودعوي وسري إن ذكرنا بشيء يذكرنا بمطلع البعثة. ومثلما عملت الدولة العباسية على تقويض كل أساسيات الدعوة المكية: التأكيد على عروبة الإسلام وقرشيته، ونفي لغة القياس والمحاكاة والتصوير، وديمقراطية القيادة واحترامها لحرية الأفراد، عملت أيضا على تقويض الجانب الأسطوري فيها. ومن ضمنه هوية إبليس، واستعادت أمجاد إبليس الزرادشتي بكل دهائته وخلاعته. والصور القلمية التي كسبها إبليس بعد سقوط جدار الشخصية العربية (مع انهيار دمشق) تحولت في العصر الوسيط لصور مرسومة ومبتكرة جريا على عادة البلاط الساساني واليوناني.

هناك نقطة تتفرع مما سبق.

مع أن القرآن ترك مجالا واسعا للديمقراطية والتداول بالرأي أو استعمال العقل والتفكير، وهو الهدف من آيات الاشتباه (التي تستعمل المجاز) لم يكن متسامحا مع إبليس، وربما ضغط عليه الخالق بطريقة مقصودة.إن لم نقل كان متحاملا ضده. لقد اتخذ القرآن موقفا مسبقا من إبليس. وكذلك فعلت بقية الديانات الوثنية التي بوأته مرتبة بارون أو إله للشر الكامن. وإن كانت جنايته هي الاحتجاج على السجود لآدم فإن الملائكة احتجت على خلقه آدم أصلا. هذا غير استعمال الرسول لعقله (والاستماع لنصيحة موسى) ومجادلة الرب بعدد الصلوات. لقد كان القرآن بجوهره حواريا، ولم يكن يملي تعليماته بطريقة تسلطية باعتراف بودمان ص 17. وآيات الترهيب دائما مغلفة بآيات التفسير، وغالبا ما يذكر الغاية من هذه القسوة والخشونة في الكلام.

لقد كان للقرآن ثلاثة حدود ثورية بالنسبة لعصره وهي:

1- الغائية. ولم يقدم فكرة دون أن يريد حكمة منها.

2- الديمقراطية. فقد ترك المجال مفتوحا لمراجعة الأوامر والنواهي بل نسخها أحيانا. وهو أحد المعاني العدلية للآيات المحكمات (كما أوردها الطبري). ص 84.

3- الجدلية. وأعتقد أن مثل هذه الصفة تضعه في إطار الفكر الواقعي (المثالي والتاريخي) لأنه يقدم الديالكتيك بنوعيه، بالقياس (توليد فكرة من فكرة وصورة من صورة) وبالتعليل (فلكل شيء علة أو سبب). ما عدا حالة إبليس، الأمر الذي يؤكد أنه رمز مصمم سلفا أو هو بقايا تصورات جاهزة ومفصلة قبل بداية الحبكة. ويؤكد بودمان على هذه الحقيقة في سياق كلامه عن تغريب النصوص وتحول الكتابة القرآنية لقراءة في نشاط معرفي سابق ص 89. ومع ذلك يبقى إبليس - القرآن أشد تهذيبا ولديه شهادة حسن سلوك إن قارنته بما ورد في سفر أخنوخ اليهودي من فساد للملائكة المراقبين (من اشتهى نساء البشر وتناسل معهن) وعزازيل الخبير بالمعادن والذي علم الإنسان حرفة إنتاج الأدوات الحربية. ص 130. لقد خان مندوبو أخنوخ ميثاق ربهم بينما احتج إبليس على تفصيل بسيط من تفاصيل الخلق. والخيانة الصامتة التي تحولت لأفعال تخبر عما تتضمنه من دمار وإفساد لا يقارن فعليا بالجدل الذي انتهى بفرض عقوبة رادعة (وربما غير مبررة) بإبليس المخلص والموحد لدرجة السذاجة والغفلة. ولا يمكنني أن أفسر انقلاب حال إبليس ما لم أفترض أنه ضحية لنية مبيتة. ودائما توجد في الميتافيزيقا مفاجآت. ففداء إسماعيل بأضحية لإخلاص والده لم يقابله تنازل من الخالق مع إبليس الذي لم يكن يرتضي الإشراك بالخالق. والتحيز ضد إبليس له بوادر أيضا. لقد خلقه الله من نار (تدمر وتحرق) ولم يخلقه من نور مثل بقية الملائكة (لنهتدي به). وبلا أي شك لقي إبليس معاملة ظالمة من الخالق العادل لأسباب غامضة. إن لم تكن بسبب الحبكة الرمزية فقط، فقد هبط من السماء بالإكراه، بينما أشرار أخنوخ هبطوا بمحض إرادتهم (كما يلاحظ بودمان ص 131). وهذا يعني أنه لم يكن لديه مجال ليختار. بتعبير آخر كان محروما من الدلال وطيبة المعشر التي تجدها في أخنوخ. وهذا لا يخول إبليس ليكون تراجيديا، وإنما ليكون محروما من شرط الحرية الذي وجد الإسلام لتحقيقها أصلا. وبذلك يكون هو الاستثناء الوحيد في الإسلام من حق أن تختار، بمعنى أن تضع فكرك أمام وعيك الباطن. ويمكن أن تقول مع بودمان إن إبليس يثير الشفقة أكثر من السخط وبالأخص إن نظرت لدوره في حياة آدم وحواء. فقد كان إبليس غائبا من الصورة في النسخة الإغريقية والسلافية ص 137 وكان ضعيفا يبكي ويشكو ويعترف بزلته (وجدير بالملاحظة أنه لا يصنفها في عداد الأعمال الانتقامية والحقودة حقا ولكن ضمن أفعال حفظ ماء الوجه والدفاع عن كرامته المهدورة. وبأسوأ الأحوال بمنطق نقطة ضد نقطة). لكن من الواضح أنه كان للحكمة الإلهية تدابير سوى ذلك، وهي مداومة الشر، وتعريض الإنسان لامتحان الإرادة. ويستنتج بودمان وجود علاقة بنيوية بين مخططات إبليس وجريمة قابيل. والقرائن لديه اثنتان. الأول هو أسبقية كليهما بالخلق والولادة على غريمه. والثاني الاعتراض على مشيئة الإله. ص 156. ولكن لا مجال للمقارنة. فالنصوص على اختلافها لم تسمح لقابيل ببلوغ منزلة إبليس عند الخالق. بقي الرب محجوبا عن بصر قابيل ولم يتمكن من الصعود للمنطقة الإلهية (بتعبير بودمان نفسه - ص 156). ناهيك أن المسألة سويت بالندم بعد ارتكاب حماقته. لم يستمر الدافع للجريمة حيا ويقظا في وعيه، وتآكل من الندم والأسف، وتعلم من الغراب كيف يواري جثمان القتيل. ولكن يبقى السؤال بمثابة جرح مفتوح وملتهب: لماذا توجب على قابيل أن يكون هو القاتل؟. لا يوجد مسوغات واضحة. وهكذا يتساوى إبليس معه مجددا. لكن من المؤكد ليس بالبنية، فذات إبليس هي غير ذات قابيل. ولا يوجد أي مبرر للمطابقة بينهما. الأول شجرة للشر. والثاني نقطة ندم وعدم رجوع. وبغض النظر عن التطورات اللاحقة لا يوجد أي مبرر لتحميل إبليس أو قابيل وزر الخطأ الأول. فهو شيء يحدده النص ويختاره كاتب السيناريو والمخرج. وبلغة علمية كل منهما نمط بدئي لنوعه.

ولا تتوقف ألغاز القرآن عند هذه النقطة بل يذهب بودمان لإحصاء على الأقل ثلاثة عناصر غامضة وضعت العقل البشري بموقف صعب للغاية أمام مقاصد الخطاب الإلهي.

الأول هو انتقائية الخالق في علاقاته مع عباده. ص 36.

الثاني الحروف الغامضة في مستهل بعض السور ومنها سورة طه التي تتضمن مختصر حكاية إبليس. ص 167. بالمناسبة توجد دراسة مفصلة عن قوة الحروف وما تتضمنه من احتمالات ذات معنى في مقدمة ابن خلدون عالم الاجتماع العربي المعروف. ناهيك عن دراسات معاصرة منها بحث لؤي الشريف الذي يقترح أنها كلمات تامة باللغة السريانية، وكانت شائعة في وقت النزول، مثلا طه: تعني يا رجل. ألم: تعني اصمت. كهيعص: تعني هكذا أعظ. .

الثالث هو الصدع الذي يفصل الخلفيات عن التفاصيل. ويعتقد بودمان أن هذا يفرض علينا اعتماد معايير وأدوات مختلفة لكل حالة مما يجعل النص أمام مصادره. ص88. وإذا فهمت بودمان جيدا فهو يوعز إلينا أن هناك مساحة بين النص والقارئ وهي الكاتب نفسه. وباعتبار أنه الذات الإلهية أو مبعوثها لا يبقى أي مجال للتعجب. لا بد أن الخالق لديه حصانة ومناعة من التماهي مع ذات المخلوقات واستطاعتها وإمكانياتها. ولو لا هذا الغموض لما بقي فرق بين الإنسان وربه.

 وينتبه بودمان لعدة افتراضات حول هوية إبليس. أهمها أنه لم ينفرد بسورة كاملة مثل غيره من الشخصيات والحوادث، وأنه جاء بسياق مساحة ضيقة، ولكنه يستند للتاريخ والأدب الإسلامي (وليس اللاهوت) ليتسنتج حقائق غير مبرمة عن عالم الكائنات غير المنظورة أو الكائنات الليلية. وهنا يخرج لأول مرة عن الموضوع، ويدخل في عالم تكهنات وتصورات جيل من أجيال حضارة الشرق الأوسط (وهو العصر الوسيط بالتحديد)، ويقدم إعادة بناء خيالية لعالم الموتى.

وقد ابتعد بودمان عن المنطق القرآني بمجموعة من النقاط.

الأولى أنه اتكأ على روايات غير دينية وهي عرضة ولا شك لأن يلعب فيها المجاز ومهارات البلاغة الدور الأساسي.ص 228.

الثانية أنه لم يضع حدا فاصلا بين مختلف المصادر. مثلا لم يعزل حدود الفكر الإسلامي (الذي يحتكره الله لنفسه) عن دائرة التفكير المسيحي (والذي يمكن أن تتعايش فيه مخلوقات الأرض مع مخلوقات السماء من خلال مبدأ التجسيد وحلول روح الأب في جسد الابن).

الثالثة أنه طور فكرة عن الحياة بعد الموت حينما تنفصل الروح عن الجسد وويتوزع المخلوق - أو يتجزأ لمكوناته. روحه في السماء وجسده في باطن الأرض. وهذا يرشح فكرة بودمان لتكون تصويرا للحياة المرجأة أو لميكانيكية انتقال الإنسان من تجليات مرحلة لتجليات مرحلة غيرها. أو بلغة قرآنية ليركب المركب الصعب ويحسم مصيره ويرحل للعالم الآخر. إن كل ما فعله بودمان لا يدخل في مجال تفسير وشرح العبارات الموجزة التي وردت عن إبليس. ولكنه يجمل تصورات الشعوب عن كائنات تختبئ وراء حجاب الواقع المادي، ونراها بعد أن نتحرر منه، ولهذا السبب عجز عن تقديم دليل واحد على صدقية تواصل الجان مع الكهنة والشعراء ص 225. ببساطة لعدم توفر مثل هذه الأدلة إلا في ذهن أدباء الخيال العلمي أو المشعوذين.

وبالنتيجة يتفرد ابليس بهوية لا ينازعه عليها أحد.

أولا إنه يمثل دور المعارضة ويطمع بالرئاسة. ويمكن أن تستنتج أنه السبب بالنزاع بين أهم عنصرين من عناصر الحياة. الهواء حيث يستوي عرش الخالق. والماء حيث يستوي عرشه.ص 36 فضلا عن الفرق العدلي بين الطرفين. الأول (الريح العاتية) استعملها الله لمعاقبة الفاسد، بينما كان الغمر بالماء يعبر عن الهلاك والحقد الأعمى دون تفريق بين مذنب وبريء (مثاله طوفان نوح).

ثانيا أنه وجه كيده لصنفين من أصناف المخلوقات الأرضية، البشر ويمثلون الوجود الفيزيقي المادي، والإنسان ويمثل الوجود الاجتماعي. ص 267.

ثالثا. التردد وعدم اتخاذ موقف واضح حتى أنه طرأ اختلاف على آيات إبليس. فهو في كل السور يجادل ربه ليعفيه من السجود لآدم باستثناء سورة ص قرر الامتناع. ص 305. وتفهم ضمنا أنه لم يكن لديه استعداد للتفاهم لا بالحوار ولا باستعمال القوة. ولم يحاول أن يفتح باب النقاش مع الله حتى يلين كما فعل الرسول بموضوع الصلوات، وبهذه الطريقة يمضي كل منهما بطريقه. الله من طرف وإبليس من الطرف الآخر.

ويفضي ذلك ببودمان لقراءة مواقف وشخصية إبليس في الفكر المعاصر من خلال نماذج أدبية حديثة. ويأخذ إبليس فيها منعطفا غريبا وعجيبا. فهو بنظر اليمين واليسار، المحافظ والراديكالي، نقطة مضيئة رغم الخطيئة الأصلية التي ارتكبها. فموقفه يتسم بالبسالة والجرأة بالإضافة إلى أنه اعتمد على مبدأ التفكير والقياس. وهذا بحد ذاته ليس خطيئة، وربما نقطة تحسب لصالح رجولة إبليس ومبدئيته.

ولكن لا أستطيع أن أؤيد هذه الفكرة ولعدة أسباب.

أولا لا يمكن استعمال نفس المعايير إذا كنا نقرأ شخصية إبليس في حقول متعاكسة مثل شعر محمد إقبال (الذي يلتزم بخط وإطار القرآن 397) وشعر أمل دنقل المعارض والثوري 418.

ثانيا. لا يجوز النظر لشخصيات نجيب محفوظ بنفس العين التي نتابع بها شخصيات نوال السعداوي. حتى أنه لا يمكننا وضع كل أعمال نجيب محفوظ بكفة واحدة، وروايته المعنية (أولاد حارتنا) بالذات لها وضع خاص. فهي ليست اجتماعية كثلاثيته. ولا أسطورية كبواكيره بل تدخل وبشكل مباشر بالصراع على السلطة، والشك بحقيقة دوافع ثورة الضباط الأحرار، وقد استعمل فيها الرموز تهربا من الرقابة السياسية وليس بسبب الخوف من ضوابط وشروط الوعي الديني.

ثالثا لم يتحرر إبليس في الشرق من النظرة الدونية لمخلوقات العالم الموازي. وهو لا يعدو أن يكون مثالا للشر مهما تعددت أسبابه. فهو الإمبريالية التي تستعمل القوة لقهر إرادة الشعوب بالتحرر(عند يوسف إدريس). وهو النظام الأبوي والمخابراتي (الأب والزوج الظالم) في كتابات نوال السعداوي ص409. لكنه الجمود العقائدي الذي يسخر الروح لخدمة أديان أرضية (كما هو الحال في رواية "عزازيل" ليوسف زيدان، أحدث نسخة من صور إبليس المعاصر).

 

صالح الرزوق

*ترجمة رفعت السيد علي. منشورات الجمل. بيروت وبغداد. 2017.

 

 

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم