صحيفة المثقف

نبيل عرابي: صوتٌ يمتدُّ في الفضاء كمزمارٍ ينهي لحناً ..

نبيل عرابيتتجلّى أصالة اللغة العربية، في استخدام الكلمات المبتكرة بأرقى معانيها التي استنطقت قائلها في فجر حياته البِكر، من خلال العمل والفكر، وصولاً إلى اكتمال مراميها في إعجازها عبر القرآن الكريم، وصدى صوتها ووقعها على النفس. فقد تشكّلت اللغة عبر مسيرة تاريخ طويل، وارتقت الحروف والكلمات من طور الهيجان والإنفعال الفطري الغريزي، إلى مرحلة الإيماء والتمثيل وصولاً إلى الإيحاء الصوتي، الذي يؤكّد على مكانة الكلمة الطيبة واهميتها .

وبعد أن تشكّلت اللغة العربية، وتمّ استخدامها واستخراج ضوابطها، وقواعد صرفها ونحوها، استمرّت في كلّ العصور تقاوم حتى كوّنت ثقافة الأمة، وصاغت قاعدتها الأساسية، وأصبحت عصية على كلّ اندثار، تنتقل من جيل إلى جيل، تواكب الوعي والنمو والإرتقاء بالشخصية العربية، وترهيفها للمشاعر والأحاسيس، وتنمية المَلَكات العقلية والذوق الرفيع .

وصار المضمون– بما هو عليه سلباً وايجاباً– في الكلمات، تعبيراً عن الحاجات والظروف الرديئة التي اعترضت العربي، فكان من الطبيعي أن يصرّح عن مشاعر الكره والغضب والنّفور، كما يعلن عن التحبب والمودة والألفة وغير ذلك، مستخدماً المفردات التي تحمل المعاني وموسيقاها وموحياتها، فغدا لكل مقام مقال. وهذا ما يؤكّد على أن رحلة الكلمات والمعاني، لم تكن خاتمتها وَقفاً على المعاجم، وإنما حفظاً لها، من أجل العودة إلى الأصول، والبحث عن الجذور، ومن ثم استثمارها في متابعة المسير، وإضافة المصطلحات الحديثة التي تواكب كل جديد لربطه بالأصل، واستخدامه وفق الضوابط التي تتلاءم مع حياتنا وتُلبّي احتياجاتنا.

فالمفردات على علاقة كبيرة بالخيال، فكما لا يسعف المعجم الجاف صاحبه في البحث عن آفاق يشقّ غبارها، فإنّ غزارة المفردات وتنوّعها يسهم إلى حدِّ بعيد في شحذ المخيّلة ومساعدتها كي تتمكّن من اجتياز المألوف، والحصول على كم هائل من الصوَر والتشابيه. من هنا، كان تجديد المعجم لأي كاتب، والعمل على إثرائه ورفده بالكثير من القراءة، يُعَدُّ حلاً سحرياً للقضاء على التكرار واجترار الحالات أو الصور، من دون إضافة جديد على الكتابة. فكم من الشحنات الشاعرية تقتلها إساءة استخدام اللغة ، أو المفردات التي تشكل مدماكاً مهماً في الكتابة الشعرية أو السردية  فاللغة هي أهم مقتنيات الإنسان. آه كم تبدو رائعة حين نلوّنها في العينين إرسالاً واستقبالاً . إنها الدافع للكائن البشري لأن يستعين بها على الوهم، فيؤكّد بواسطتها قوة المعرفة من خلال اكتشاف الأدلة والبراهين .

وباللغة أيضاً، استطاع أن يسكب على الورق ما حملته الذاكرة من نصوص ووقائع محفوظة شفهياً، وأحاديث جميلة مقنعة بحججها القوية وأدلّتها الدامغة، وخاصة بالنسبة للذين غرفوا ممن يجيدون التعبير الشفهي حتى الأمانة، لكنهم يعتقون أنفسهم من ملامستها كتابة، مما فتح الباب على الشك والريبة في الكثير مما نُسب إلى أدباء وكُتّاب وعلماء، عمدوا إلى تدوين ما لاكت به الألسن، وصدحت به القريحة، فليس من المؤكد أن قضية التعبير الشفهي تتعلق بذاكرة يتعبها القلم، ولا هي حال تنصّل من التوثيق الذي قد يكون حجة في لحظة ما، لكن ربما تكون سلوكاً وثقافة اعتادها البعض، وأضحت مع الأيام نهجاً، لأن النص هو الوثيقة الدائمة التي يمكن المحاججة بها.

لهذا، فإن لغتنا العربية الجميلة تقوى بقوتنا، وتضعف بضعفنا، فلنعمل على تمكينها، لأنها أهم كواشف المستقبل، ولنستمر في دفاعنا عنها، كطائر البجع الذي عندما يموت، يبقى صوته لدقائق ممتداً في الفضاء، كمزمارٍ ينهي لحناً، ذلك لأن له عنقاً طويلاً، لكي يؤدي به ما يُعرف: بالأغنية الأخيرة للبجعة!

 

نبيل عرابي

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم