صحيفة المثقف

عصمت نصَّار: الفلسفة في مصر بين خطاب الأفغاني ومشروع محمد عبده

عصمت نصاريخطئ من يجحد دور جمال الدين الأفغاني في إيقاظ شبيبة المصريين وتحريضهم على النقد الثوري في شتى الميادين ولا سيما كيفية التعرف على الأغيار وفضح مؤامراتهم وتحديث ميدان التثاقف والرد على ادعاءات غلاة المبشرين والمستشرقين وأرباب الفلسفات المادية والدهريين ونقد قادة الرأي في العالم الإسلامي الموالين للاحتلال الأوروبي. ذلك فضلاً عن نحاجه في حشد الكثيرين من أصحاب الأقلام ونقد الوضع السياسي في مصر ومعظم ولايات الدولة العثمانية، واستطاع من خلال الجمعية الوطنية المصرية (الحزب الوطني الحر السّري) عام 1879م - التي شكلها عقب انصرافه عن المحفل الماسوني وإدراكه أن شعارات الماسونيين عن الحرية والعدالة والمساواة قد خدعته ورفاقه، وأن مقصدهم هو إضعاف الجامعة الإسلامية ونهب ثروات العرب وإحلال الديانات الوضعية عوضاً عن العقيدة الإسلامية - من إيقاظ الرأي العام وتوجيهه نحو نقد السياسة القائمة والإصلاح الاجتماعي.

ثم أسس جمعية العروة الوثقى السرية عام 1885م وكان لها فروع في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وذلك لتصفية من أعتبرهم عملاء الاحتلال الأجنبي وحلفاء الباشوات الأثرياء المغتصبين لحقوق الفقراء والمعدومين وأعداء الجامعة الإسلامية.

 وحسبنا أن نتوقف قليلاً عند خطاب جمال الدين الأفغاني أو إن شئت قل مشروعه الثوري الراديكالي؛ فعلى الرغم من دعوته إلى النظر العقلي وتحديث نهوج الأزهريين وانتصاره لفكر ابن رشد ومحاربته للبدع والخرافات التي لحقت بالتصوف وتمييزه بين الدعوة لعالمية الإسلام ومشروع الماسونيين للكوكبة والعولمة أو العلمانية وتفرقته بين الدعوة الوهابية والرابطة الإسلامية الشاملة إلا أننا نجد خطابه لا يخلو من المتناقضات. ولقد رفع شعار مصر للمصريين وجمع بين أعضاء جمعيته بين السوريين واللبنانيين والفارسيين والتونسيين والجزائريين؛ ليشجع على الكفاح السري المسلح، وأدخل النظام الماسوني العنقودي على الجماعات التي كان يشكلها، وربط بين عملها وفرضية الجهاد، وحمّس العوام لاتباع سنة الشطار في مجابهة ظلم الباشوات والإقطاعيين.

وصرح لتلاميذه عقد الاجتماعات وحلقات الدرس لمناقشة أحوال البلاد وحثهم على الجهاد المسلح والعمل السري في ظل فساد الحكام ومطامع الغرباء، وقدم تحريض للثورة الشاملة على الدعوة للهداية والنصح والإرشاد, وأقنع الكثيرين من المسيحيين واليهود بأن الدرس المستفاد من الماسونية هو الاجتماع على وحدانية وجود الله بغض النظر عن التفاصيل - التي تثير الشقاق الملّي- الأمر الذي يستوجب توحيد الصفوف ضد الغاصبين.

غير أن "محمد عبده" قد أدرك أن خطاب الأفغاني ومشروعه التثويري يتعارض مع النسق الفلسفي والنهج التربوي والمقصد الإصلاحي الذي تأسست عليه مدرسة حسن العطار، ومن ثم صرح لأستاذه الأفغاني بما يجيش في صدره ويدور في عقله موضحاً أن القوة والعنف لن تقود البلاد إلى الإصلاح والتقدم كما أنها لم تنقذ الأذهان من ظلمة الجهل والتعصب، ولن تحمي الإسلام من طعون المشككين واجتراءات المجدفين والملحدين، ولن تعيد فتح باب الاجتهاد، ولن تجدد الدين، ولن تثقف القادة والمعلمين، ولن تهذب الأنفس وترقي الأذواق وتهدي المجتمع إلى خير السبيل.

واذا كان هذا على المستوى العام؛ فإن الجماعات السرية وعصابات الاغتيال سوف تعطل مشروع النهضة، ولن تقود مصلحين إلا للسجن أو النفي أو اليأس من الإصلاح والانغماس قهراً أو طواعية في دهاليز السياسة أو التغريب.

وقد انتهى الأمر بعودة "محمد عبده" إلى مصر عام 1889م، وسرعان ما اجتمع حوله رفقائه في مدرسة الأفغاني وتلاميذه من الأزهريين الذين رغبوا عن نهج الجمعيات السرية في الإصلاح. ولعل الحلقات التي كان يعقدها في منزله وفي مكتبه بدار الإفتاء وفي مقر الجمعية الخيرية الإسلامية التي أسسها عام 1893م كانت الباعث الأول للتصريح بوجهته الإصلاحية، وشرح أبعاد مشروعه الحضاري الذي تأثر به معظم المثقفين وقادة الرأي في مصر والجزائر وبلاد الشام ثم انتشر في شتى أنحاء العالم الإسلامي، وقُبل باستحسان من رؤساء الكنيسة بطوائفها الثلاث وأحبار اليهود المصريين، ولم يمجه كذلك شبيبة العلمانيين المنتصرين للعلم الأوروبي والمتحمسين للمدنية الحديثة وما تنادي به من حريات في التفكير والعقيدة.

وقد تواترت الكتابات التي روت حلم "محمد عبده" الذي أفصح به عن علة انفصاله عن أستاذه وصديقه جمال الدين الأفغاني. ذلك الذي جاء فيه (قال الإمام محمد عبده لأستاذه الأفغاني: أرى أن نترك السياسة ونذهب إلى مجهل من مجاهل الأرض، لا يعرفنا فيه أحد، نختار من أهله عشرة غلمان أو أكثر من الأذكياء، سليمي الفطرة، فنربيهم على منهجنا ونوجه وجوههم إلى مقصدنا، فإذا أُتيح لكل واحد منهم تربية 10 آخرين لا تمضي بضع سنين أخرى، إلا ولدينا 100 قائد من قادة الجهاد في سبيل الإصلاح، ومن أمثال هؤلاء يرجى الفلاح).

ورد جمال الدين الأفغاني قائلاً: إنّما أنت مثبط نحن قد شرعنا في العمل، ولابد من المضي فيه، ما دمنا نرى منفذا). وحسبنا أن نلقي بعض الضوء على أصول منهج "محمد عبده" الفلسفي وأسس مشروعه الحضاري, مبينين مدى توافقه وتواصله مع ما انتهى إليه "حسن العطار" وتلاميذه؛ وذلك يؤكد ما زعمناه أن المسئول الأول عن الاتجاه العقلاني في الثقافة المصرية، ووضع قواعد المشروع النهضوي الحضاري في مصر والعالم الإسلامي هو الاتجاه المحافظ المستنير، وها هي أهم القواعد والمبادئ التي قام بتطويرها "محمد عبده" وتلاميذه من بعده:

أولها: أن العقل هو سبيل الهداية وأن مطالبة الباري الإنسان بالنظر (اقرأ) يعني أن العلم والاستنارة هما سبيل الإيمان الحق والتطبيق الأرشد لشرعة الله، والنهج الأقوم لتهذيب الأنفس، والضرب الأصوب لإصلاح حياتنا، ولكل مشكلاتنا والقضايا التي تحتاج للتفكر منا، وهما أيضاً الطريق الذي يجب أن نسلكه لتقويم أصولنا وتجديد مناهجنا وتحديث معارفنا وتثقيف دروسنا والتخطيط لمستقبلنا، ونقد الوافد من الأغيار، وغربلة ما فيه من خير لأتباعه وما فيه من شر لاجتنابه، وتنقية الأذهان والقلوب من الحقد والتطرف والعنف، وتربيتها على التحلية والتخلية حتى لا تنحرف الغايات وتضل المقاصد.

وثانيها: نقض الغلو والتطرف والبدع والجمود المذهبي والتعصب الملّي، والتقليد بلا تمحيص، والسير على سنة القدماء تقديساً للموروث وتعظيم من شأن الأوائل. وتوضيح أن المطالبة لتحرير الذهن من قيد التقليد، والشك في المعارف التي تناقض صريح المعقول ويتعذر البرهنة على صحتها هي القاعدة التي انطلق منها منهج النهضويين والتنويريين وطلاب الحقيقة قديماً وحديثاً في المشرق أو المغرب، وهي من الأمور التي يحث عليها الدين ويصدق بها الإيمان؛ فالنبي لم يكن مقلداً لنسايره في تقليده؛ بل كان يحث على التفكر والتدبر والتعقل في الآيات القرآنية التي كان يبلغها، وفي الأحاديث النبوية التي كان يبصر الناس بها, كما أمر سفراءه من الدعاة الأوائل بالاجتهاد واستنباط الحكمة الشرعية اذا ما وقف أمامه إحدى قضايا المجتمع أو قضايا تحتاج إلى الحسم, أما الانتحال والكذب والتحريف والتجديف والتزيّد الذي أصاب الأصول الإسلامية لم ينجم إلا عن التقليد والتشيع لغريب الآراء عند ظهور الخلاف في حين أن أهل الرأي من الصحابة والتابعين كانوا يؤكدون أن آراءهم هي أحسن ما انتهت إليه عقولهم؛ فمن استحسن ما هو أفضل من ما اجتهدوا فيه مادام لا يتعارض مع قطعي الثبوت والدلالة فليفعل.

 وثالثها : العودة بالدين إلى سذاجته الأولى (أي بساطته وفطرته)، ويعني ذلك الفصل بين الوقائع والأحداث التي تقيد التفسير والتأويل، وتحول بين المجتهد والتواصل مع الفتوحات الربانية للوقوف على المقاصد الشرعية الثابتة التي لا تتبدل حقيقتها، وإنْ تغيرت معانيها ودلالاتها في كل عصر، وذلك لا يصدق بالطبع على قطعي الثبوت والدلالة بل هو ينصب على المتشابهات من الآيات والمدركات الظنية من التفاسير والمفاهيم التي أهتدى إليها الصحابة والتابعين والأئمة الكبار في عهدهم. وتلك الدعوة تتفق مع حثنا على فتح باب الاجتهاد لإبداء الرأي في المستحدثات من الأمور الحياتية، والفصل بين الثابت والمتحول في أصول الملة والتجديد في الوسائل والنظم على النحو الذي يتفق مع المقاصد الشرعية من جهة واحتياجات العصر من جهة أخرى.

 ورابعها: إصلاح حال اللغة العربية، وذلك عن طريق تهذيب اللغة المكتوبة والمنطوقة؛ لتصبح أكثر وضوحاً وسهولة في الفهم وجمع الغريب والمتقعر والنادر من الألفاظ في معاجم لدراسة الفكر الموروث وتجديد علوم اللغة وتيسير قواعد النحو؛ لتغذية أراءها وألفاظها لاستيعاب المستجدات من العلوم والمعارف والنظم والفلسفات، وذلك عن طريق النحت والاشتقاق والتعريب، وتقويم لغة الأدب والفن والتقريب بين العامية والفصيحة على نحو معتدل لا تطمس فيه لغة الضاد أو تهجر ولا تنمى فيه اللهجات العامية، وتزكى فيه لغة السوق وتؤلف في ذلك كله معاجم وموسوعات حديثة، على أن يعهد هذا الأمر وغيره من نهوج التحقيق العلمي وأساليب الترجمة والتعليم إلى مجامع متخصصة على شاكلة المجمع اللغوي الفرنسي 1635م. ولعلّ المجمع البكري 1892م والمثاقفات والمناظرات التي تصدّت للهجمة الشرسة من قبل المستشرقين ضد اللغة العربية والترويج للهجات المحلية واللغات العتيقة لبعض الشعوب العربية خيرُ مثال لهذه النهضة والإرهاصات الأولى للفكر الفلسفي تجاه اللغة العربية.

أضف إلى ذلك جمعيات التحقيق والترجمة والتأليف التي تعهّد بها تلاميذ الأستاذ الإمام مثل جمعية لجنة التأليف والترجمة والنشر عام 1914م، ثم لجنة ترجمة وتحقيق دائرة المعارف الإسلامية عام 1933م. ومجمع اللغة العربية في مصر الذي أنشأ عام 1932م، والموسوعات التي أصدرها الأزهر من ثمار نهوض مشروع الأمام وتلاميذه.

(وللحديث بقيّة)

 

بقلم: د. عصمت نصّار

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم