صحيفة المثقف

خالد جوده أحمد: الإعلام وأدب البناء في مسرح خالد الطبلاوي

خالد جودة احمدفي مفتتح مقاربة المجموعة المسرحية (القرية والحاوي) للأديب/ خال الطبلاوي، نقدم بداية للأديب، حيث نرى أنه أديب شامل، يعتنق فكرة التوصيل باعتبار الأدب رسالة، ووسيلة لغاية التثقيف والتعليم والإمتاع، لذلك هو في بحثه لرداء يكسوه موضوعه الأدبي تتعدد قوالبه وأشكاله الفنية، محققا ما يسمي "التفسير الإعلامي للنص الأدبي"، وبدرجة لافتة ومثيرة، فهو شاعر صاحب تنوع في أدائه الشعري بين المقطوعة الوامضة الحكيمة، والشعر الساخر والسياسي والاجتماعي في آن، وهو قاص يكتب القصة القصيرة والقصة القصيرة جداً، ويستعين بالموروث الثقافي الحي لهذه الأمة ليؤدي سبل المفارقات الكاشفة في هذه القصص، وهو كاتب للدراسات البحثية والرؤية التذوقية لمنتجات إبداعية، وهو كاتب في الشأن العام، ويحتفي بمناسبات مؤثرة في الحياة مثال مقطوعاته المعنونة (مسحراتي الثورة)، وهو صاحب غاية وفي إطارها هدف يسعي إليه بجعل الأدب وسيلة للتثقيف والتغيير (أدب البناء) فيعتني عناية خاصة بالطفولة وآدابها، فيكتب شعر الأطفال التعليمي، ويؤسس الألغاز الشعرية للصغار والكبار حول مقاصد سور القرآن الكريم، وهو ناشط ثقافي رفيع المستوي، يكتب للصحف الورقية، وينشر الكتب المنوعة، وفاعل في كثير من تطبيقات الإنترنت أمثلة: منتديات أدبية (رواء نموذجاً) ومدونات فيسبوك، بل ويؤسس الصفحات ذات المذاق الخاص مثال صفحته الساخرة علي شبكة التواصل الاجتماعي (قراميش الطبلاوي)، كل هذا وأكثر الأديب خالد الطبلاوي.

أما الكتاب بين أيدينا فيأتي لاستكمال هذه المسيرة، فيمنح في تنويعاته وأطيافه فكرة مؤكدة أن هدف الأديب هو التوصيل أصلاً، والإعلام للقارئ بفكره نابهة، ومفارقة بديعة، وقيمة شيقة في الحياة، منافحاً عن أصالة وهوية أمته، مع احترام الآخر والثقة بقيمة الخير والعدل والجمال، كل هذا متسربلاً بمذاق الفن الشهي.

والكتاب الأدبي بين أيدينا يختار له الأديب ثوبه الفني (المسرح)، بل تتصل إرادة التوصيل ومنهجية الأديب في تحقيق المتعة والجمال والمنفعة للنص الأدبي بالتنويع بين المسرح النثري والمسرح الشعري وبين الطول والقصر في النصوص المسرحية بين التمثيلية القصيرة، والمسرحية متعددة الفصول والمشاهد، وبين الرؤية الاجتماعية والسياسية.

والأديب واع تماماً في أدائه ومنجزه الإبداعي، حيث يوقن (كما تحدث بلسان حال أدبه) أن الكتابة السهلة الشيقة لا يستطيعها سوى صاحب الموهبة الكبيرة، لذلك كان واضحاً في الإشارة بأسماء مطابقة لسمات الشخوص المسرحية، راسمه لدورها الدرامي والمكانة التي تشغلها في القيمة التي يهدف الأديب لترسيخها، بل إن التقديم للشخصيات والتعريف بها في مفتتح مسرحية "القرية والحاوي" كاشف لهوية هذه الشخصيات ودورها في "أحدوثة" المسرحية، فالقارئ علي دراية مسبقة بمساراتها في الأحداث المسرحية، بل واستعمال تلك الأسماء بها لماحية السخرية، ومن هذه النماذج (شهوان: كبير عائلة أبو شهوة وهو من أنصار الحاوي. أكول: كبير عائلة أبو تخمة من أنصار الحاوي)، والرمز السهل مشهود أيضاً في الدالة الكلية للحاوي باعتباره معادلاً موضوعياً مرنا للدخيل المفسد المغير للطبيعة الخيرة إلي أخرى شريرة، ويفتح هذا باب التأويل الميسر المقبول، فقد يكون وسيط إعلامي ينشر إباحية مهلكة بألوانه الساحرة ويسر الوصول إليه بضغطة زر، وقد يكون الفكر المضلل العقيم هادم هوية الأمة وأصالتها ...، فالرمز متاح وصالح لتطبيقات عديدة تستجيب لتأويل القارئ ووعيه بحجم الخطورة في الوافد الذي يضمر نية السوء والتدمير، وإن كان التناول القريب يشير للطاغية ناصر الظلم وناشر الكراهية.

وشاعرنا حين صاغ مسرحه الشعري كان واعياً بالفواصل الشفافة بين الأنواع الأدبية، وأن المسرح الشعري يستعين بالشعر أداة بنائية في لغة درامية صاعدة، إن تعدد الأصوات ووجهات نظرها والصراع الدائر بين الذوات المسرحية تقدم لنا عالم احتراب الشر والخير علي مدي الدهر، لتفي قيمتها الإنسانية الباقية في لغة ممتعة، ذات طراز رفيع.

إن المسرح لدي الأديب خالد الطبلاوى يقدم الإدانة لتشيؤ الإنسان، وتحويله إلي سلعة تباع وتشتري. وفي مسرحية "محاكمة عابد" نجد سلاسة التعبير الشعري في تلك المسرحية وبساطتها الجميلة الآسرة، بهدف توصيل قيمة "الثبات طريق النصر"، كما يقدم بها كشأن النصوص المسرحية في جلاء لا يحتاج التفسير أن جوهر الحياة التدافع بين الحق والباطل، فأهل القسوة والظلم يرون صاحب الفكرة "مزعجا للحياة"، وهى مفردة ترددت أكثر من مرة علي أفواه الشخوص المسرحية الظالمة، حين يستفسر "عابد" عن جريمة محبي الإصلاح، فيرد عليه القاضي الأول: (غيروا وجه الحياة)، وهو  تناص مع النص الشريف (ويذهبوا بطريقتكم المثلي) وهذا من ذكاء الشاعر حيث أشار لقضية خطيرة تعتبر مؤشر رئيس في قضية التدافع والصراع المرير، وهي قضية الأسماء والمسميات حيث يتم التلبيس والتدليس علي الأفهام بنشر الضباب الفكري والصخب الإعلامي، فيغدو الحق باطلا، والباطل حقا أصيلا، لذلك يرد عابد علي القاضي: (المتهم : غيروا حقاً ولكن بعدما أصبحت موتاً وذلاً للجباه)، فاستعمال هؤلاء لكلمة الحياة فيه تدليس فهو موتا بالذل، وتحرير المفاهيم مكون رئيس في راغب الإعلام لأنه هكذا يعمد للتوصيل والتوضيح لحقائق الأمور ومواردها ومصادرها، وهذا المثال له أمثلة كثيرة في النصوص، فالأمر وعكسه (الظالم: انقلاب / المصلح: طوفان سيأتي بالنجاة)، (القاضي الأول: لا نبالي عدلنا في منتهاه / المتهم : يسقط القانون في طغيانكم) ... وهكذا

أما مسرحيته النثرية (جنة العربية) فتمد الجسر بين الورقي والرقمي، وتقدم شخوص من العالم الرقمي لتكون حاضرة متحدثه بثراء تجاربها في نص درامي، ويقدم دليلا عن أثر الحاسوب وشبكة الشبكات في الأدب العربي خاصة في خدمة اللغة العربية، والتناص في أولي مراتبه تحقق بالتضمين المباشر لأبيات شعر طبقت شهرتها الآفاق حول (أنا البحر في أحشائه الدر كامن ...)، فجاء التضمين موفقا، ومقدما ناحية معرفية بهدف التوصيل، وكأنه باحث مبدع يجيب علي فروض بحثية متوقعه، ويطرح عنوان متميز (دور مواقع خدمة الفصحى على شبكة النت وأثرها على نمو معدل استخدام اللغة العربية في الشارع العربي)، بل وفي بساطة متناهية وبرؤية ثاقبة يفض هذا الصراع الوهمي بين الورقي والرقمي فيرى في الإنترنت وسيلة مساعدة ومكملة للنشاط الأدبي وتوصيل الرسالة الأدبية، وأديبنا هو في الأساس ناشط ورقي ورقمي علي السواء كما أوجزنا سابقا، وسواء بالتضمين أو من الإحاطة البحثية في إطار إبداعي نجد ثراءً معرفياً بدليل تغذية النص بمعلومات حول الموضوع، لأن النص المسرح هنا تعليمي هادف، وهذا الوعي الحاسوبي لا يمكن أن يتحقق سوي لأحد ناشطي الأدب علي الإنترنت، فيشير للتحول أيضا بين الواقعي والافتراضي، باعتبار الروابط بين الموضوعات الأدبية والأدباء علي صفحات الفضاء، جماعات أدبية افتراضية تنتقل إلي جماعات فكرية واقعية، وهو أمر مشهود في الدراسات التي بحثت هذا الشأن، وتعتمد في صلبها خاصية الترابط التشعبي بين روابط الأصدقاء الأدباء وصفحاتهم ومدوناتهم ومنتدياتهم جميعا، ليؤكد هذا النص المسرحي المعاصرة أيضا بجانب الأصالة تنويعا جديدا لأديبنا الشامل، أما الدلالة الكلية في نص (جنة العربية) فتنصرف بحلية فنية تنطلق من التجسيد والتمثيل للمعني ليكون طريفا وشهيا للقارئ.

وبعد هذه الإشارات المكتنزة من عالم النصوص المسرحية ... قد يبدو للبعض أن الأدب إذا لم يضم صوراً بالغة الغرابة والتعقيد، وإذا لم يشمل معميات وأحاجى - يقف العقل منها حائراً والوجدان سقيماً - ليس حرياً أن يسمى أدباً، وأطلقوا حناجرهم بالاتهام للأدب السهل خادم القيمة والفكرة، بأنه أدب مباشر يفتقد الأدبية، وتناسوا أن مستهدف الكتابة هو القارئ، وان الأدب بمتعته ومنفعته، مقولة قديمة جديدة ما زالت صالحة، وأن ذائقة القارئ هي سيدة الموقف، وأرى أن القارئ يحب  أدب الطبلاوي لكل ما سبق وأكثر.

 

خالد جوده أحمد

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم