صحيفة المثقف

محمد بنيعيش: بدء الوحي وسرّ سد باب الغيب في وجه إبليس وأعوانه

محمد بنيعيشأولا: بدء الوحي وتحقيق يأس إبليس

فلقد أسرعت العالمية إلى الرسالة المحمدية أو بادرت الرسالة بنورها إلى العالمية منذ بدء نزول الوحي على سيد المرسلين والنبيين محمد صلى الله عليه وسلم، لأنها في الأصل وفي الأزل قد كانت كذلك وتحققت وبقيت إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وعلى عكس ذاك الرصد الإيجابي والقصد السليم في الانتظار والتطلع الذي مثله بوضوح الراهب بحيرى وورقة بن نوفل وغيرهما من أهل الكتاب وخاصة النصارى سيكون في الضفة من الخندق الآخر رصد سلبي وقصد ماكر وشرير كأشد ما يكون الشر وأظلمه ومتترس كأمكر ما يكون التترس وهو ما كان من توقعات إبليس اللعين وأعوانه من الشياطين وغيرهم من عالم الجن وكذا الإنس، حيث كانوا يسترقون السمع بشكل مكثف ويسعون إلى إضلال الخلق والإيقاع بهم في مهاوي الهلاك والخسران، أو من باب التطلع إلى معرفة ما وراء سمك السماء.

"فكان من رحمة الله وفضله ولطفه بخلقه أن حجبهم عن السماء، كما قال تعالى إخبارا عنهم في قوله: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآَنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)[1]) وقال تعالى: (وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212))[2].

فعن ابن عباس قال: "كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون الوحي فإذا حفظوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا وأما ما زادوا فتكون باطلا.فلما بعث النبيsمنعوا مقاعدهم فذكروا ذلك لإبليس، ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: هذا الأمر قد حدث في الأرض، فبعث جنوده فوجدوا رسول اللهs قائما يصلي بين جبلين، فأتوه فأخبروه، فقال: هذا الأمر الذي حدث في الأرض..."[3].

وفي رواية الواقدي عن أبي هريرة قال: لما بعث رسول اللهs أصبح كل صنم منكسا، فأتت الشياطين فقالوا له - أي إبليس - ما على الأرض من صنم إلا وقد أصبح منكسا.قال: هذا نبي قد بعث فالتمسوه في قرى الأرياف، فالتمسوه فقالوا: لم نجده .فقال: أنا صاحبه .فخرج يلتمسه فنودي: عليك بجنبة الباب - يعني مكة – فالتمسه بها فوجده بها عند قرن الثعالب، فخرج إلى الشياطين فقال: إني قد وجدته معه جبريل فما عندكم؟ قالوا: نزين الشهوات في أعين أصحابه ونحببها لهم .فقال: فلا آسى إذا"[4].

عدد كثير من كتاب السيرة النبوية قد يغفل هذا الموضوع لأسباب منهجية أو تحفظات جدلية وعقدية على قضايا غيبية قصد تبسيط العرض، وذلك باعتبارها في نظرهم مسألة دينية اجتماعية في غالب سردها ينبغي أن تخضع للمقاييس المادية والصور الواقعية للتاريخ الإنساني العام.

ثانيا: أوجه الموضوعية عند طرح إبليس في السيرة النبوية

ومن هنا فطرح موضوع إبليس والشياطين عند سرد السيرة كعنصر مواكب ومعارض لمسارها قد يبدو لديهم كأنه فيه مس بالموضوعية وعدم الالتزام بالواقعية والعقلانية وذلك حتى يتسنى لهم إرضاء الآخر، أي غير المؤمن، وتقريب المسافات للحوار وتبادل الأفكار.

لكن الأمر في نظرنا يبدو فيه قصور الرؤية ونقص في فهم طبيعة الموضوع وخصوصيته، لأن السيرة هنا ليست حياة شخص عادي أو حكاية عن زعيم قبلي وحاكم لهذه الدولة والعشيرة أو تلك، وإنما هو الحديث عن نبي مرسل.وحينما نتعامل معه بهذه الصفة فإنه ينبغي لنا أن نسلم بكل ما يقتضيه مقامه سواء في تعامله مع عالم الغيب وما وراء المحسوس أو مع عالم الشهادة ومظهره الملموس، بل الغيب قد يكون هو المغلب عند الاعتبار في حاله ومجمل وتفصيل معارفه وقيمه.

والنبي معناه من النبوءة، والتي هي في الأصل إخبار عن الغيب في الحاضر والماضي والمستقبل عن المرئي وغيره، وبالتالي فهي تفيد إمكانية التواصل معه والتوسط عنه، ومن هنا كانت للنبي المرسل المعجزة والتحدي وإلزام الآخرين بالحجة والبرهان وإرغامهم على التسليم له في كل ما سيخبرهم فيما بعد من عوالم ومعالم.

وموضوع إبليس وواقعه يعد من أبرز العلوم والشخصيات الغيبية التي أخبر عنها الرسل والأنبياء وحذروا الخلق من شرها وكيدها، منذ آدم عليه السلام إلى بعثة نبينا ورسولنا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم .فلقد جاء الحديث عنه دائما في سياق العداء والحسد والكبر والتخذيل والكيد والسعي الدؤوب إلى الوقيعة بالإنس والجن أو بينهم في مهاوي الضلال والهلاك كما هو مشخص في هذه الآيات نقطة البداية في هذا الصراع، يقول الله تعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34) وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39))[5].

إذن، فموضوع إبليس ثابت بالنص القطعي الدلالة والثبوت باعتباره كائنا حقيقيا مستقلا بخصوصيته وذا حيز وجوهر وقضية، ومن هنا فإلغاؤه أو إسقاطه من موضوع السيرة وعوارضها، عند السرد والتحليل، هو عبارة عن بتر واعتراض ضمني على مفهوم النبوة ومجمل ما جاءت به من إخبار عن المغيبات في تواصل أو تصادم مع كائنات، مثل الشياطين الذين يأتون دائما في مضادة للملائكة، وعلى رأسهم الملك جبريل عليه السلام الواسطة الرئيسية في تبليغ الوحي نصا وفصلا .

بحيث إن هذا التهميش من خلفية تحييد بعض الماورائيات مع التسليم ببعضها، باعتبارها عنصرا أساسيا في إثبات النبوة ومقتضياتها التواصلية الغيبية، قد يضع الباحث القصير النظر في مأزق وحيرة من تحليل عدة ظواهر وإجراءات نبوية، وحتى لدى بعض المعتقدين في صدق النبي، حينما يختلط عليهم العنصر المرئي باللامرئي، فيرونه من وجهة نظرهم المحصورة وزعمهم القصير على أن الخبر فيه تناقض ينبغي إلغاء أحد جانبيه على حساب الآخر وإقصائه من سجل السيرة حتى يتلاءم مع الواقعية في زعمه، وبهذا فقد تفقد السيرة النبوية أهم خصائصها الروحية وعنصرها الذوقي وخيطها الرفيع في إيصال عالم الغيب بالشهادة إيصالا متناسقا ومتكاملا، إن سلوكيا أو معرفيا وعرفانيا.

لا أريد أن أسترسل في تحليل هذا الموضوع لأنه سيجرنا إلى إشكاليات نفسية وفلسفية وعقدية جد عميقة ومعقدة قد لا نخلص منها سريعا وبسلامة، كما قد لا تصفو لنا السيرة بالإطناب فيه بصورتها الجمالية والواقعية بحللها الظاهرية والغيبية أو الباطنية، ولكن حسبنا أننا قد أشرنا ومهدنا لطرح قضية إبليس وحضوره منذ البداية ضمن العناصر المهمة طردا وسلبا والمشخصة لنصوص السيرة النبوية ومشهدها على سبيل المعارضة والكراهية الشديدة، شأنه في ذلك شأن صناديد كفار قريش بل أشد منهم غاية وإذاية: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ)[6].

ولقد أثار انتباهي وزادني تأكيدا على المسألة هاته هو هذا التوجه الأدبي الذي سلكه الدكتور طه حسين في الموضوع، بالرغم من أنه قد كان خلدونيا وأمْيل إلى تحليل التاريخ والسير على أسس مادية وشبه واقعية، لكنه مع هذا لم تفته هذه الدقيقة من خلال الالتفات إلى موضوع الشياطين وعلى رأسهم إبليس الذي كان حاضرا عند بناء الكعبة في صورة شيخ نجدي، وأيضا سيتكرر حضوره بين مشركي قريش على عدة أشكال وتحت ذرائع وأقمصة متنوعة.

فلقد تناوله في الجزء الثاني من كتابه على هامش السيرة تحت عنوان "نادي الشياطين" وذلك في قراءة نفسية أدبية لما يمكن أن يسري بين أعداء بالأصالة والترصد نحو عدوهم اللدود المقصود، والذي سيسحب منهم كل الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها على حساب المضلَّلين من بني آدم ومن الجن أنفسهم .

فلقد صاغ هذه المحاورة بين إبليس وجنوده عند فترة بدء الوحي حيث قال مستخذيا - أي إبليس -: " ما غمضت علي الأمور قط كما غمضت علي الآن، وما عميت علي الأنباء قط كما عميت علي الآن، وما عودتكم أن أسألكم عن شيء أو أستشيركم في شيء.ولولا أن الغيب قد حجب عني لأول مرة ما دعوتكم ولا استشرتكم .قالوا: تكبرت ! لئن حجب الغيب عنك لهو أحرى أن يحجب عنا، وإنا منذ الليلة لفي ظلمة دامسة لم نعهد مثلها قط، وإنا لنتحدث فما تكاد أصواتنا تبلغنا.ولولا أنك كبير في نفوسنا لأشفقنا ألا تبلغ أصواتنا.قال: لا تراعوا ولا يخرجكم الفزع عن أطواركم ! فإن أصواتكم تبلغني كما يبلغكم صوتي، وما هذه الظلمة الدامسة إلا من عملي وكيدي، فقد ألقي في روعي أن من الخطر كل الخطر أن نتشاور أو ندير أمرنا بيننا دون أن نقيم بيننا وبين السماء حجبا كثافا.

قالوا: تكبرت أن يرد عليك رأي أو يخالف لك عن أمر ! فقل نستمع، وادع نستجب، ومر ننفذ إلى طاعتك أسرع مما تنفذ السهام إلى رميتها..."[7].

...ثم يلتفت إلى جماعة أخرى، تشبه الكومندوس في اختراق المؤسسات والدول الأخرى وتنفيذ أقوى العمليات، قائلا: "وأما أنتم فارجعوا إلى حيث كنتم من هذا الوجه من العرب، وليأخذ كل منكم مكانه في جوف صنمه لا يفارقه حتى يأتيه أمري "ثم يوجه سربا آخر أكثر دقة وفتكا: "وأما أنتم فبيتوا قريشا من ليلتكم، وليلزم كل واحد منكم رجلا منهم نائما ويقظان، ساكنا ومضطربا في الأرض، وإياي أن يفلت منكم أحد من قريش ! واعلموا أن من أفلت منه صاحبه فلن يجد عندي إلا عذابا تعرفونه، وما تحتاجون إلى أن أذكركم به أو أدلكم عليه"[8].

فمعاني هذه المحاورات مأخوذة من مفهوم أو إشارات النص القرآني والحديثي الذي يصور لنا إبليس وجنوده ومستويات عدائهم للحقيقة والنبوة والسعادة البشرية، في حين ستكون مرحلة بدء الوحي هي الحد الفاصل بين استمتاع إبليس وجنوده بما قد يسترقونه من معارف غيبية عن طريق السماء وبين سد هذا الباب نفسه عليهم وإقصائهم من هذا الحضور الخاطف، والذي به كان يتم إضلال الناس والإزلاق بهم في أسوأ المهاوي وعلى رأسها مهاوي الشرك والكفر والإلحاد...يتبع

 

الدكتور محمد بنيعيش

كلية الآداب والعلوم الإنسانية وجدة المغرب

.....................

[1] سورة الجن آية 8 -10

[2] سورة الشعراء آية 210 - 212

[3] ابن هشام: سيرة النبيsج1 ص415

[4] ابن كثير: السيرة النبوية ج1ص 420

[5] سورة البقرة آية 34-39

[6] سورة فاطر آية 6

[7] طه حسين: إسلاميات، على هامش السيرة ج2ص424

[8] نفس ج2 ص431

 

في المثقف اليوم

في نصوص اليوم